أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمير الرسام - الإلهاء المعرفي (التشتت) ... أغلق هاتفك.















المزيد.....


الإلهاء المعرفي (التشتت) ... أغلق هاتفك.


سمير الرسام

الحوار المتمدن-العدد: 8217 - 2025 / 1 / 9 - 15:16
المحور: الادب والفن
    


هل خطر ببالك يومًا كيف أصبحنا نعبر الحياة كمن يعبر نهرًا هائجًا، أمواجه تتلاطم من كل صوب، فلا نجد لحظة هدوء؟ يبدو الإلهاء المعرفي كظل ثقيل يلازمنا، يمتص طاقتنا وتركيزنا، ويتركنا تائهين بين أشياء لا نعرف كيف ولا لماذا بدأناها. إنه مرض العصر الذي غزا حياتنا بلا هوادة، فلم يترك مجالًا إلا وأفسده، حتى عادة القراءة، والتي هي أجمل الأنشطة الإنسانية وأعمقها، أصبحت في طي النسيان.
فالقراءة ليست مجرد نشاط نتسلى به؛ إنها لقاء خاص مع العقل، حيث نتأمل الأفكار ونغوص في العوالم. وفي هذا الصدد يقول فرانسيس بيكون: " هناك بعض الكتب التي يجب تذوقها، وأخرى يجب ابتلاعها، والبعض الآخر يجب مضغها وهضمها". لكنها اليوم، وللأسف، لم تعد تحتل مكانتها التي تستحقها في حياتنا. لماذا؟

الإجابة بسيطة، ومعقدة في آنٍ واحد: الإلهاء المعرفي، هذا العدو الخفي، يسلبنا تلك اللحظات الحميمة مع الكتاب. فالهواتف الذكية، بشاشاتها التي تضيء، أصبحت قيدًا ناعمًا يطوق عقولنا. إشعاراتها لا تهدأ، تقاطع لحظاتنا دون استئذان، تدفعنا إلى متابعة ما لا ينتهي من مقاطع الفيديو، صور، وأخبار تافهة أو مكررة.

هل سالت نفسك يوماً: لماذا نستطيع الاستماع إلى الموسيقى لساعات، ومشاهدة مقاطع الفيديو بلا ملل، لكننا نقف عاجزين أمام صفحة واحدة من كتاب؟ السبب يكمن – حسب وجهة نطري - في الهواتف الذكية، التي باتت أشبه بسلاسل خفية تقيد انتباهنا. الإشعارات التي لا تهدأ، منصات التواصل الاجتماعي، وتدفق المعلومات السريعة، كلها شتّتت عقولنا، حتى أصبحنا نعيش في سطحية مستمرة، نلهث وراء كل جديد دون أن نتوقف لنتأمل عمق ما لدينا. زمنٌ يلهث فيه الناس وراء كل جديد، دون أن يتركوا لأنفسهم فرصة للتأمل أو التعمق. نستهلك المحتوى السريع كما لو أننا نخشى التوقف والتفكر. أليس هذا تناقضًا مريرًا؟
فالإلهاء المعرفي لم يسرق منا القراءة فقط، بل سرق تركيزنا، وعمقنا، وقدرتنا على الصبر مع الأفكار الطويلة. كأننا نحيا على سطح البحر، نطفو فوقه، بينما في أعماقه كنوزٌ تنتظر من يجرؤ على الغوص. القراءة كانت يومًا وسيلتنا إلى هذه الأعماق، لكننا أضعنا البوصلة في عالم يقدس السرعة على حساب المعنى.

وأريد هنا أن الفت نظركم الى ان الإلهاء المعرفي ليس مقتصرًا على القراءة وحدها، بل يمتد ليطال أدق تفاصيل حياتنا. أليس هذا ما يحدث عندما تبحث عن نظارتك لتكتشف أنها بين يديك؟ أو حين تدخل المطبخ ولا تتذكر لماذا دخلت؟ هذه المواقف ليست غريبة، وهي نتيجة مباشرة لتشتت العقل، الذي يتلقى كماً هائلًا من المعلومات والمهام دفعة واحدة. حيث أظهرت الدراسات أن الإلهاء المعرفي المستمر يؤثر على قدرة الدماغ على تخزين الذكريات قصيرة الأمد، مما يجعلنا ننسى الأمور البسيطة. لكن، هل هذه حالة عامة؟

نعم، إلى حد كبير. عالم النفس دانيال ليفيتين يوضح أن أدمغتنا لم تُصمم للتعامل مع هذا الكم الهائل من التنبيهات والمهام المتزامنة. فالإلهاء المعرفي بات أشبه بعاصفة، وكلما زادت سرعتها، فقدنا قدرتنا على الإمساك بدفة أفكارنا. ولمواجهة هذا الإلهاء المعرفي يتطلب وعيًا عميقًا بأننا نعيش في عالم مزدحم إلى حد الإنهاك، وأن الحل يبدأ باستعادة البساطة، وتقليل الضجيج من حولنا. فلحظات التركيز التي نستعيدها هي نوافذ صغيرة نحو ذاتنا، تسمح لنا بإعادة ترتيب فوضى العقل والعودة إلى حالة من الصفاء التي كدنا ننساها.

العودة إلى الكتاب أشبه بالعودة إلى بيتٍ قديم، دافئ، تملأه ذكريات الطفولة والأوقات الهادئة. إنه ليس مجرد نشاط نتبناه، بل هو استرجاع لصلة روحية ضائعة، لقاء مع الذات التي تاهت وسط صخب الحياة. فكيف نستعيد هذه اللحظات الحميمة التي كانت يومًا ملاذنا من ضجيج العالم؟
إن مواجهة الإلهاء المعرفي، لا الهروب منه، هي المفتاح. نحن بحاجة إلى استعادة السيطرة على عقولنا، تمامًا كما يستعيد الربّان دفة سفينته وسط عاصفة هوجاء. فالقراءة، كما وصفها مارك توين: "إن لم تمارسها، فأنت لا تختلف عن شخص لم يتعلم القراءة من الأساس." إنها فن يحتاج إلى الاستحضار، إلى تخطيط، إلى أن نجعلها أولوية لا تتنازل عن مكانتها.

والبداية تكمن في تنظيم الوقت. في عالمٍ أصبحنا نسرع فيه كأننا نطارد ساعة الرمال، يجب أن نخصص للكتاب لحظة خاصة، نقية، لا تشوبها الانقطاعات. حتى لو كانت عشرين دقيقة يوميًا، هذه اللحظات الصغيرة يمكن أن تصبح بذورًا تنمو لتصبح عادة متأصلة. أن تفتح كتابًا وتغلق الباب على العالم، وكأنك تقول له: "انتظر، هذه لحظة لي وحدي." لكن هذه اللحظة لا تكتمل دون التخلص من المشتتات. الهاتف، الذي بات أشبه بالرفيق الذي لا يفارقنا، يجب أن يُترك بعيدًا. إشعاراته تُشبه طرقات مستمرة على الباب، تزعج العقل وتكسر تدفق الفكر. القراءة تحتاج إلى صمت، إلى أجواء تشبه التأمل، حيث الكلمات تنساب بهدوء إلى الروح دون عوائق.

ولأن البداية غالبًا ما تكون الأهم، فإن اختيار الكتاب المناسب هو الشرارة التي تُشعل النار. الكتاب الذي يثير شغفك هو الذي يدعوك لإكمال الصفحة التالية بشغف متزايد. ربما تبدأ برواية مشوقة أو مجموعة قصص قصيرة، لتعيد اكتشاف متعة الانغماس في عوالم خيالية أو أفكارٍ عميقة.
ولا بأس من أن تدمج شغف القراءة مع التكنولوجيا، إن كنت تجد في الكتب الإلكترونية وسيلة أيسر. المهم أن تقرأ. سواءً كان كتابك على شاشة مضيئة أو بين صفحات ورقية تفوح برائحة الحبر، فإن القراءة، في جوهرها، تظل لقاءً مع الفكر والخيال.

وماذا لو جعلنا القراءة نشاطًا جماعيًا؟ كأن نلتف مع الأصدقاء حول كتابٍ مشترك، نناقشه، نتبادل الأفكار عنه، ونغوص معًا في أعماقه. القراءة الجماعية ليست مجرد نشاط فكري، بل هي وسيلة لاستعادة الحماس والالتزام، لتحويل الكتاب من صديق شخصي إلى جسر يربط بين العقول.
إن استعادة عقولنا من قبضة الإلهاء المعرفي (التشتت) ليست مجرد تحدٍ فكري، بل هي استعادة لأنفسنا التي ضاعت في زحام الحياة. أرواحنا، التي أثقلتها إشعارات لا تهدأ وأخبار لا تنتهي، تحتاج إلى هدنة، إلى لحظة تأمل هادئة بين صفحات كتاب.

القراءة ليست ترفًا، بل هي قارب النجاة الذي يعيدنا إلى شواطئ الهدوء، حيث تنتظرنا أفكارنا وأحلامنا التي كادت أن تضيع. فلنصرخ في وجه قدرنا. فلنرفع الكتاب كراية في معركة الصمت، ولنعود إلى ذواتنا التي هجرناها. ففي القراءة شفاء، وفي استعادة التركيز ولادة جديدة لعقلٍ أرهقته فوضى الحياة. دعونا نغلق هواتفنا، ولو لدقائق، ونفتح كتابًا. ففي تلك اللحظة، سنجد أنفسنا، وسنجد أرواحنا تنتظرنا على الصفحة الأولى.

سمير نعمة مهدي
Sameer Neamah Mahdi



#سمير_الرسام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة جداُ ... الدرهم الأخير
- عناصر اللغة السينمائية
- حوار مع ملك الموت
- يوميات أبو جبار - الهالووين
- يوميات أبو جبار - منو مثل أم جبار
- يوميات أبو جبار - عساهة أبختة 4
- يوميات ابو جبار - عساهة أبختة 3
- يوميات أبو جبار - عساهة أبختة 2
- يوميات أبو جبار - عساهة أبختة
- دعوة لمشاهدة الفيلم الوثائقي موطني - الموسيقى العسكرية العرا ...
- النشيد الوطني العراقي - موطني بحلته الجديدة
- الصنارة - قصة قصيرة
- الكرسي – قصة قصيرة
- من مذكرات طفل عراقي
- قمر ليس للموت . . باللغة الفرنسية للشاعر العراقي حسن رحيم ال ...
- أيدني الدكتور حسين الأنصاري.. وسرقني الدكتور لميس كاظم
- تجربتي في الفلم الوثائقي
- كيف غير جيمس كاميرون بفلمه الثلاثي الابعاد وجه السينما ؟
- المظلة - قصة قصيرة
- بداية النهاية ام نهاية البداية ؟


المزيد.....




- رفض تعطيل الحكم على ترامب بقضية الممثلة الإباحية
- الجزائر.. تبون يستحدث جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة العر ...
- -الجحيم- يعطل ترشيحات الأوسكار.. -نيران- على أبواب هوليود
- ترك بصمة كبيرة.. وفاة سيد الأغنية المغربية الزجلية (صور)
- من قارورة عطر إلى ركام مغطى بالبارود.. أطلال بمدن الأشباح ال ...
- مشاهير السينما والموسيقى يفقدون منازلهم في الحرائق التي تهدد ...
- الفنانة عزة أبو ربعية تحكي عن تجربتها مع الثورة والإعتقال وا ...
- مصر.. سقوط محمد رمضان من على المسرح.. ما حقيقة الفيديو المتد ...
- أكاديمية المملكة المغربية تطلق -أنطولوجيا الملحون-
- المتحف الوطني في دمشق يعيد فتح أبوابه بعد الإطاحة بالأسد


المزيد.....

- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمير الرسام - الإلهاء المعرفي (التشتت) ... أغلق هاتفك.