أنا وحدي وهذا الليل مأزق
تملك الخفافيش نصفه على الأقل..
لا مصابيح القراءة هادية لمعرفةٍ صغرى،
ولا مرآة أصفف فيها ملامحي تعينني على هذه الحُلكة..
الكتابة ليست عادة الفراغ…
الكتابة عادة الليل العصيب.
هذا الصباح فشلت لساعة كاملة في إيقاف سيارة تُقِلني إلى الموقف العمومي.. وأخيرًا وقفت إحداها لي. كان السائق أخضر العينين، وقليل الكلام إلى حدٍّ مزعج. بمجرد أن وضعت إحدى قدميّ داخلها، انطلق بسيارته الـ"رمسيس"، القابلة للكسر عند اجتياز المطبات، كطلقةٍ تعرف هدفها جيدًا؛ فسقطت على الركاب الجالسين على المقعد الأوسط. كانوا من المسنين الذين يتأففون من الهواء الذي يلف أجسادهم. تجادلوا كثيرًا حول توزيع المقاعد بينهم كلٌ بحسب حالته الصحية. رفض السائق إنزالي في المكان المعتاد رفضًا صامتًا أغاظني، وكان الإمام يصرخ في السماعات الخلفية: "ونساء المسلمين"، ترد الجموع: "يا الله". يقول: "تُسبى بأيدي المسلمين"، يقولون: "يا الله". "وبأيدي غير المسلمين". يقولون: "يا الله". طالبته بخفض الصوت قليلاً حتى يسمعني. "يارب انصر المسلمين"، يقولون "آمين"، "في فلسطين"، "آمين"، "وفي البوسنة والهرسك"، "آمين"، "وفي كشمير"، "آمين". أغلق الكاسيت فجأة وحدّق فيّ. طالبته أن يرد بنعم أو لا حين أسأله سؤالاً يبدأ بـ "هل في إمكانك كذا"، لم يرد؛ ومصمص المسنون شفاههم ولعنوا الأجيال الجديدة من البشر. قفزت من السيارة محاولةً استنشاق هواءً جديدًا لا يشاركني فيه أحد.
رمى ليّ بائع الجرائد أربعة جنيهات وربع الجنيه على كومة الجرائد التي تقبع أمامه مباشرةً/ بعيدًا عن متناول يدي بعد أن اضطرني لأن أصرخ قائلةً: "القاهرة…القاهرة…القاهرة" بقاف ضخمة جليلة، وبنبرات متصاعدة الحدة.
استقليت من الموقف العمومي أتوبيسًا صغيرًا تعارك حشدٌ من الناس على أسبقية الصعود إليه. جلست فوق موتوره العجوز ووجهي في وجوه الناس، وظهري تلسعه الحرارة المفلترة عبر الزجاج الأمامي وبي تحفز لاستنشاق رائحة شواء ما.
أحداث 11 سبتمبر 2001 مازالت تُلقي بظلالها على وجوه الناس بطريقة غير مباشرة طبعًا لأن ارتفاع أسعار الأرز والدقيق والسكر يكاد يكون الحافز الوحيد لتبدل ملامح الناس، تقطيب جباههم واصفرار جلودهم وزفرات ضيق تتقلص بها خدودهم؛ أما شفاههم فتلوك أخبار الانتفاضة الجديدة.. الشهداء اليوميين.. الشهيدات اللاتي يتردد البعض في إدراج أسمائهن في قوائم الشهادة ويضنّون عليهن بالثواب الإلهي. بعض الأطباء شخصوا حالة وفاء إدريس الملقبة بالشهيدة علي أنها محاولة انتحار ناجحة بعد فترة اكتئاب شديد طويلةProlonged Severe Depression ! (منشورات) تدعوا لمقاطعة السلع الأمريكية والتي تنتجها شركات ذات رؤوس أموال يهودية توزع علينا ونحن جلوس في طريقنا إلى شبين الكوم. يتكرر هذا في الشوارع، وقاعات الدروس. في الجامعات، وفي المساجد. الدعوات تملأ الهواء في طريقها للسماء تطلقها النسوة سهامًا علي أولئك اليهود (أولاد الكلاب) الذين لا يراعون ذمة ولا عٍهدًا في إخواننا الفلسطينيين. الرجال من راكبي الأتوبيس يناشدون العرب التجمع والبصق علي تلك البقعة المسماة بـ "إسرائيل" وإغراقها في البصاق مع إمكانية استخدام سلاح البترول ونبذ التطبيع والمطبّعين واستخدام أسلوب المقاطعة التجارية. النساء تستبعدن مقاطعة مسحوق غسيل خارق ونوع معين من الفوط الصحية تحديدًا لأن جميع البدائل رديئة.
عبر النوافذ الزجاجية للأتوبيس أتطلع إلي جدران البنايات فأقرأ أسماء شهداء وشهيدات فلسطينيين كتبت بالطباشير بخطوط طفولية. ملصقات ملونة علي أكشاك الكهرباء بالقرب من الجمجمة الشهيرة والعظيمتين الطويلتين المتصالبتين أمام تجويفي العينين وعلي أعمدة الإنارة:
ـ قاطع منتج تنقذ مسلم "مع الاعتذار لقواعد النحو العربي"
ـ الحجاب عفة وطهارة.
ـ كفانا ذل "..مع الاعتذار لقواعد النحو العربي ثانية"
ـ المحمول في يد الجميع.. "..على الأقل تصوروا الجميع يدًأ واحدة بغض النظر عن هذا المفهوم للاتحاد.
ـ ديلفينيو: أجمل الأصوات وأرق النغمات وأحدث التكنولوجيا السمعية ومكدبش عليكم لو قلت البصرية كمان.
توقف الأتوبيس فجأة وزمجر موتوره زمجرة عالية، ثم خرس تمامًا مما أضاف إلي الخمسة وأربعين دقيقة التي أقطعها في اجتياز مسافة اثني عشر كيلومترًا، بين مدينتي وعاصمة محافظتي، في الألفية الثالثة، عشر دقائق إضافية كفيلة بمنعي من توقيع اسمي في دفتر الحضور اليومي.
حين قفزت من الأتوبيس ودّعني التباع، الذي غالبًا ما "يصهين" علي الباقي، بضحكة ساخرة أدركت بعدها أن كعب حذائي العالي قد انكسر. لعنت رشاقتي خاصة بعد رفع دفتر الحضور والانصراف.
أثناء الجزء الثالث من رحلتي اليومية حاولت خلال دقائق معدودات أن استعيد شكلاً متوازنًا لنشاطي العقلي؛ لكن هيهات أن يحدث ذلك في تلك السيارة المخصصة لنقل ركابها من شبين الكوم إلي البتانون والعكس المصنوعة من شاسيهات ضخمة لسيارات النقل الثقيل في الأساس وثبتت داخل هيكلها ما يزيد قليلاً عن العشرة مقاعد لتستوعب حوالي عشرين راكبًا. محلات جديدة في شارع الإستاد الرياضي: كجولوه، مسترنت، نت وورلد، نيوكاميرا شوب، كلاسيك، إليجانس. إبداع لغوي في لغة أخري يستطعمه الناس.
إلي الآن لم أصل للتوازن العقلي المنشود برغم عدم حدوث أية احتكاكات أو تحرشات بيني وبين البشر من حولي. أنزل في بقعة تبعد حوالي 50 مترًا عن الباب الرئيسي لمستشفي الطوارئ و الحالات الحرجة.
لا أحد مخصص لي، ولست مخصصة لأحد. ليست دعوة للرثاء علي العكس يبدو هذا جيدًا في عام 2002 وفي هذا المكان تحديدًا..إنه نوع جديد من الاستقلالية أو الاستغناء النفسي حيث لا مواثيق روحية قد تحول منجزك الحياتي إلى هزائم صغيرة متوالية.
هي هي نفس الوجوه التي تناوش إبصاري منذ سبع سنوات. ياااه سبع سنوات! الوجوه البيضاء أو المُبْيِضْة بفعل كريمات الأساس أو مستحضرات تجميل يدخل في تركيبها الزئبق. (الآي لا ينر) الأسود المسحوب عند الزوايا الخارجية للعيون، الشفاه المحددة بالون النبيذي والروج. أصدقائي شفاه كثيرة محددة وروج ودخان سجائر وذقون غير حليقة وضحكات عصبية متقطعة وحركات تتأرجح بين اليقظة والنوم.
ينبغي على الآن الحفاظ على ما تبقى من خلاياي العصبية موزعًا على سخافات اليوم بالتساوي. فلتهدأ خطواتي ولأستقل دائمًا المصعد من الأرضي إلى الأول والعكس.
اليوم سيكون ذلك الانتفاخ الكبير، الأكبر من أي انتفاخ آخر يمكن أن يحتل نفس المكان في الخد الأيمن للدكتور محمد، الممتلئ بنواتج مضغ ساندويتشات الهامبرجر، هو محور الحديث الممزق بين سبعة من الأصدقاء و الصديقات (للصداقة هنا معنىً محايد للغاية).
في عُرْفِنا لا يميز الأيام السيئة سوى الاكتئاب (لندع ذلك التحفظ العلمي الخاص بكلمة الاكتئاب جانبًا)، والاكتئاب في عُرْفِنا أن تشعر أنك مصاب بالاكتئاب وكفى، وهو مرض متوطن هنا. الأيام السيئة تجعلك تفتح عينيك على حقائق مرعبة. و في هذا مزيتين: الأولى أنك لست مغمض العينين، والثانية أنك تكتشف حقائق على أية حال. اكتشفت أنى بلا أصدقاء (بما يتمثل في هذه الكلمة من معان تنتسب لعصر الفروسية) تقريبًا. ماذا يفعل المرء حيال ذلك؟ ما هي الحلول العملية لهذا كما يحلو لنا (أي العلميين·) التشدق دومًا؟ طلب مدفوع الأجر للحصول على أصدقاء مقبلين على عدم القدرة على إعمال الفكر حتى يناسبوا إنسانة¨ مثلي؟ أنا المستحوذة المتحررة عنيفة الأفكار رقيقة الحاشية إلى حدٍ ما. المتطرفة أحيانًا إلى حيث لا يريد أحد أن يفكر وأن يشعر، ديكتاتورية الشروط والمعطيات والنتائج الإنسانية.
ملخص لليال سابقات
في بعض الأيام (كالآحاد مثلاً)، أستيقظ من نوم قصير متقطع في الثامنة مساءً حين يبدأ الليل في التنفس. يكون جسدي مبللاً بعرق غزير كأني في حمى أو كأني لهثت لساعات في طقوس زار. يرمز موروثنا الشعبي لتفصد مسام الجسم بالعرق الغزير بإحدى علامات البُرء من المرض ـ أي مرض أو معظم الأمراض ـ أما أنا فيشعرني هذا بمقدم المرض. لطعام التصبير مذاق مغاير في فمي.. مذاق لا أستسيغه والهواء الليلي متكاسل الحركة أما روحي فلا تغيم إلا حين ترى القمر عبر زجاج العنابر العالية محمرًا كعين أرهقها بكاء طويل!
تعليق واجب
يشكو الكثيرون/ات من مرضى العيادة الخارجية من (حرقان الدماغ) نعم حرقان الدماغ. مصطلح غريب لكنه شائع وكأنه فيروس يسبح في هوائنا، فيلتقطه الجميع حين لا تسعفهم كلمات أخرى. تَكَشَفَ لي أخيرًا هذا المعنى: الحرقان = الفوران في المخ: الأفكار المتداخلة الغزيرة سريعة التقافز كأنها أنوية ذرات في مفاعل ذرى صغير تمارس انشطارها الحتمي، اصطدامها غير المرن ثم الحرارة الناتجة عن ميكانيكا هذه الحركة ثم المقاومة التي تبغي إزاحة كل تلك الومضات الحارقة للحصول على حيز عقلي مريح لا يتأتى عن طريق النوم في أغلب الأحوال ويظل أرق الليل العميق نصيبنا، أرق يتسع للمزيد من المضاربة بالأفكار ـ أية أفكارـ والعرق الصيفي والبعوض لاحظوا أنه لا أحد في نادى فوران الدماغ يصف أفكاره الفائرة بدقة أو بالقليل منها لأنهم لا يعلمون عنها سوى أنها تكوينات عقلية لها هيئة الأفكار وإلحاحها المتسم بالأنانية وتميزها بخاصية الطفو على أي سطح عقلي مهما كانت سعته.
بالطبع هناك جانب مضيء لهذا وهو أن اكتئاب الأيام السيئة لا يجعلنا من فاقدي الأهلية نحن أعضاء نادى فوران الدماغ ولهذا نستطيع أن نمضي في طريقنا.
ليل أول·
الليل يعنى النوبتجية، والنوبتجية تعنى العمل بأقل تسهيلات ممكنة لأن الليل هو الليل بأمر الطبيعة حتى لو قطعه هذا النداء النشيط: (على نائب النفسية والعصبية التوجه للعناية المركزة للأهمية).
لم أعرف طبيعة هذه الأهمية، لكنى حين خطوت أولى خطواتي داخل وحدة العناية المركزة، تذكرت مريضنا ذي الملف الحافل غريب الصاوي الذي لم أوقع عليه الفحص السريري الروتيني أثناء مرور منتصف الليل؛ خاصة وهو مريضنا الوحيد المصاب بنزيف في المخ هذا الأسبوع.
..... حين كفّ القادة العسكريون عن ابتكار مخططات الدمار وخرست دمدمات المدافع وطلقات البنادق في حرب العالم الثانية عام 1945، وُلد غريب محروس الصاوي لأب سكير شرس وأم مغلوبة على أمرها الكريه، و في وطن يحتله الإنجليز. لم يكن مقدم الوليد جالبًا للبهجة بأية حال من الأحوال، فقد ارتفعت نفقات المعيشة (الحد الأدنى منها) وأسعار كل ما يمكن نعته بالضروري (هكذا أخبروه بعد عدة سنوات تكفي لأن يشعر الولد الصغير بطعم المعايرة) واستبدل أهل الدار "حلقاتك.. برجالاتك.. حلقة دهب في وداناتك" بالدعاء بألا يندك البيت على رؤوس قاطنيه إذا داعبته غارة غادرة.
إذن كان العام عام جوع. أعاد إلى ذهن أم غريب ذكرى (سنة الطفنة) التي ظلّ الأجداد يتناقلون خبرها ويؤرخون بها لأحداثهم الحياتية حتى بعد نزوحهم من أراضيهم ـ التي انتًزِعوا منها وسُخِروا هم وحميرهم ومواشيهم بلا أجر في (المصالح العامة) ـ إلى البنادر. لكنها بحس أمومي بحت حاولت جاهدة ألا تؤثر تلك الذكرى القاسية على داخلياتها النفسية تجاه الوليد الذي يكفيها أنه ذكر مكتمل النمو.
التحق غريب بالمدرسة بإيعاز من الأم، رغم أنف الوالد الذي رأي أن الولد غير جدير بمكافأته على ذلك العرق الشيطاني فيه ولم يجد بُدًا من التنفيس عن غيظه سوى أن يجرب في جسده ما تبتكره قريحته من أساليب التأديب على أفعال وأقوال تصدر عن الولد ويراها تستحق العقاب بشدة، ثم ينتهي هذا الطقس بطرد غريب من البيت وتوديعه بالجملة المكررة:
"إنت لو نجحت ح تعمللى إيه؟"
لم يلتحق الذكور الثلاثة الذين جادت بهم بطن أم غريب بعده بالمدارس لأن النكبات الصحية التي هاجمت الأم عملت على تكسير حسّها الأمومي البحت، وبالطبع البنات الثلاث اللائى جادت بهن بطن أم غريب قبل غريب وساعدهن جدهن لأبيهن في العمل لدى بعض الأسر الموسرة بأجور معقولة دفعت الأب إلى زيادة عدد مرات سكره الأسبوعية.
ماتت أم غريب وهو في الثانية عشرة من عمره. حزن كثيرًا وسامحها على تلك المرة التي خلعت فيها (شبشبها) وانهالت عليه بالضرب لأنه طلع الثاني على الفصل وحزن أكثر لأنها ماتت في بيت أبيها بعد أن غضّبها الأب، لكن الجد ذا الدور المعطل فيما سبق أظهر حنانًا مفاجئًا تجاهه فأمطره بالحكايات والنوادر الشيقة التي تضمنت (سنة الطفنة) بشكل تلميحي.
هجر غريب المدرسة بعد وفاة المخلوق الوحيد الذي حرص على تفوقه الدراسي باعتباره القيمة الوحيدة التي يمكن لمثله أن يظفر بها.
صار يقضى وقتًا أطول مع الرفاق خارج البيت أو مع جده الذي ألحقه بعدة أعمال لا تعتمد، بأي شكل من الأشكال، على إجادته للقراءة والكتابة فشل في معظمها. وبعد ظهور رائحة جديدة في البيت، طاردة لما سواها هي رائحة زوجة الأب الجديدة، أصبح البيت سريرًا للنوم لا أكثر ولا أقل.
زوجة الأب تمتلك حاجبين رفيعين وشفتين غليظتين وثديين غير أموميين فكان الأب يلبد بجانبها أوقاتًا طوال. يسكرا سويا ويتعاشرا ثم يناما حتى ظهر اليوم التالي.
كان لها أيضًا عنقًا أبيض جميلا. اكتشف غريب ذلك حينما اقتربت منه بوجهها. بشفتيها من وجهه. اشتم الرائحة الجديدة التي تطرد ما سواها فسمر عينيه على عينيها، فكادت ابتسامتها الواثقة تضعضع صحوته المفاجئة وقالت بصوت يخرج من شفتين فقط:
ـ معاك فلوس يا غريب؟
دفعها بيديه وانطلق خارجًا. أمضى عدة أيام مع الأصحاب اتفقوا فيها على أن يعتمدوا على أنفسهم من الألف إلى الياء هذا بعد أن أخرج كل صبىّ منهم لسانه الهازئ لمعلمه ? فاستدرجوا دجاج الجيران وبطهم وإوزهم إلى حيث يُجْهزون عليه وتسلقوا أسوار الحدائق العالية للحصول على فاكهة الأشجار الممنوعة وناموا على الأرصفة متدثرين بالسماء. كانت آخر مرة استطاع فيها غريب أن يضحك ملئ شدقيه.
عاد غريب منهوكًا مشعث الشعر مترب الثياب قاصدًا بيت الجد لكنه مع أولى خطواته عبر الباب الخشبي الكبير الموارب، اشتم رائحة غريبة نشطت لها حواسه كلها فأخذ يبحث عن الجد كالمجنون في أرجاء البيت. حين فتح باب الحجرة الجوانية بحرص كان الجد صاحب الحكايات والنوادر يلهث بالتياع اللذة بين ساقين بيضاوين تعلقتا بكتفيه لامرأة تمتلك حاجبين رفيعين وشفتين غليظتين وثديين غير أموميين ولها رائحة تطرد ما سواها وبالصدفة عرف أن لها عنقًا جميلا.
لا يمكن الجزم بأن غريب الصاوى يمتلك جينات الفرد الصالح الذي لم تخدمه الظروف على كل المستويات. لقد انتقم غريب لتلك الصدمة الشديدة التي هزّت مثله العليا دون أن يقصد. لأنه بعد عدة أيام جلس بين يدىّ الجد يقص عليه قصته وكأنه قرأها ذات مرة في كتاب المدرسة.. ربما كان يطمع في اعتذار أو عتاب. وما كاد الجد يسمع هذه القصة حتى تبيّن ما يعنيه الفتى فأصيب بنوبة قلبية. فشهق، ثم مات. (لا نستطيع التأكيد على صحة هذه الجزئية).
وبموت راوي الحكايات والنوادر، ولد السجل المرضى والجنائي لـ "غريب محروس الصاوى".
اطمأن الصول فتحى على إحكام "كلبشات" غريب الصاوى التي تشد وثاقه إلى السرير المعدنى رقم 13 في وحدة العناية المركزة.
ـ عاوزين نعطى له علاجه يا صول فتحى!
ـ ما اقدرش أفك كلابشاته يا فندم. ده مسجل خطر.
ـ الراجل ده في غيبوبه عميقة نتيجة نزيف حاد في المخ يعنى رجوع وعيه له من رابع المستحيلات.
ـ معلهش يا فندم، ده قاتل خمس مرات.
ـ ياللا يا صول فتحى دى إنسانية وعلى ضمانتى.
تبرع صالح بالهمس في أذن الصول فتحى.
ـ له في الدنيا يومين أو ثلاثة بعدها يبقى في رحاب رب كريم.
تململ الصول فتحى في وقفته وشعر بضيق يخنقه من جرّاء ضغطى عليه أنا وصالح أيضًا؛ لكنه أخرج المفاتيح من جيبه وأخذ يعملها في "الكلابشات" على مضض وهو يختلس النظر إلىّ ويتمتم: الحمد لله الذي شافانا وعافانا مما ابتلى به غيرنا.
ليل ثانٍ أو صالح سمير
ليله معي وصباحه أحكي لكم عنه.
صالح هو رجلي الذي يُعتمد عليه. لقد قال لي للتوّ:
ـ اطلعي نامي يا دكتورة وأنا ح اتصرف
ـ ياااه ما أروعه!
ـ خسارة في البلد!
هكذا يبدأ صالح في الحديث عن نفسه في معظم الأحيان. يستطيع أن يقسم على صحة هذا منذ أن تخبره ساعته البيولوجية بأن الصبح قد دقّ عتبة بابه. لم يجعل تلك الدقائق التي يستغرقها، بل التي تستغرقه، ليفتح عينيه بصعوبة أو يحرك لسانه داخل فمه ليقول فقط: "الحمد لله" أو يحرك رجليه نحو طرف السرير مستعدًا للاتجاه نحو علبة السجائر الموضوعة على طاولته ثم إلى البلكونة حيث يبدأ في افتتاح اليوم ومنذ تلك اللحظة ينبغى عليه أن يضع عضلاته في أوضاع الحركة الدائمة وفى أكثر الأماكن دفئًا.
طبقًا لصالح، فإن تميّز المرء يكمن فى ماهية إعلانه عن وجوده المتميز، لا تهم كيفية التميّز بقدر ما يهم كيفية الإعلان عنه، نظرية استقاها من متابعته المتأنية والدائمة للإعلانات التجارية على شاشة التليفزيون؛ ثم تجريبه الدائم لتلك المنتجات المُعْلَنْ عنها بتميّز. نظرية ليست بجديدة لكنه يعتبرها الأساس الاجتماعي الذهبي لوجوده المتفرد فى هذا المكان، ويتضح هذا بشدة فى شدّه بقوة على يدك أثناء المصافحة، أو احتضانهما بكفيه. في الاقتراب الشديد من محدثه ولو تعرّف عليه للتّو. الابتسامة التي تفتح القلوب المغلقة وتكشف عن أسنان فى بياض الثلج. البارفان الرجولي المقتحم للمجال من حوله بتؤدة؛ والذي لابد وألا تعتمد مادته الفعالة على أساس زهري، فمثل هذه الأنواع تخطئ أنوف كثيرة فى تصنيفها وغالبًا ما تكون النتيجة سلبية، فيقرأ فى العيون شبهة اتهامه بالشذوذ. هو يفضل العطور المستخرجة من لحاء خشب الغابات أو من ذكور إيّل المسك الواردة من الصين أو التبت أو حتى مركبات الكيمياء العطرية وإن اتهمها البعض بتغير لون الجلد وإحداث بعض الالتهابات، ولا بأس من احتوائه على نسبة كحول مرتفعة قليلاً فسرعان ما يتطاير الكحول ويبقى ذلك التأثير الهادئ طويل المفعول الذى يريده. والنظر فى العينين مباشرة وشاية جميلة غير مقصودة تمنحه نصف مفاتيح الشخصية على الأقل. عليه أن يقرأ جيدًا اختلاجات الشفاه… كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ حركات الأطراف، عيوب النطق، اللزمات التي تميز أفرادًا عن سواهم، ألوان الملابس. سمع ذات مرة أحد رواد مقهاه يقول إن إسرائيل انتصرت على مصر في 67 لأنها اختارت التوقيت المناسب. عرفوا أن مصر غير مقبلة على حرب قريبة. كيف؟ قرأوا عبد الناصر. كان عبد الناصر يقول: سنحارب. ثم يزدرد الماء من كوب في يده ويؤكد: سنحارب. ويزدرد الماء. قالوا بأنه لابد يحاول ابتلاع كَذِبَهُ مع جرعات الماء!
اقرأهم من الخارج، فهم أنفسهم لا يعلمون مدى ترقق جلودهم؛ حكمته المفضلة. حتمًا لا يمكنه تطبيقها مع كل الناس، فالبعض لا يمكن أن يكتشفه أو جزءا منه إلا إذا تمشىّ فى دمائه رويدًا رويدا. وفى هذه الحالة سيحتفظ بمسافة ما وسيجد مدخلاً آخر.
لم يتبق من مسطح المرآة المرصّع ببوسترات مصقولة لـ "شعبان عبد الرحيم، حكيم، فيفى عبده، محمود سعد" غير مربع صغير عدّل فيه صالح خصلة من شعره الفاحم السواد على جبينه الأبيض العالي المفضي إلى حاجبين مزججين بدقة عند طرفيهما العلويين. نظر إلى المنبه ورغبته فى حلاقة ذقنه اليوم تلح على عقله. ضغط زر التشغيل فى جهاز الكاسيت الضخم فاندفعت نغمات أغنية I will survive إلى حيز الوجود واهتزًّ المنزل المكون من ثلاثة طوابق مع "الإيكولايزر" الراقص. التقط منشفة ودلف إلى الحمام.
من المهم جدًا أن يعرف ـ بمجرد النظرـ أنواع السوتيانات التى ترتديها البنات هنا، وهذا يحصر تفكيره في (ماركة) أو اثنتين لا أكثر. يجب أيضًا أن يفرق بين الحرير والفسكوز والشامواه والكتان وذهب الخليج وخواتم مصر، الجلود الطبيعية والمشمع، الموضة في كعوب الأحذية، فكلها كلها تنبئه بأوضاعهن الاقتصادية وموقفهن من عمل المرأة والسياسة الداخلية وأخيرًا عطورهن/رسائلهن التي يبعثن بها إلى من حولهن. يقرأها بنهم وحينئذ ستفصله عن الهدف خطوتان فقط يكون عليه اجتيازهما بنفسه، فيضيف إلى روحه انتصارًا جديدًا.
يحتفظ أيضًا برصيد نقدي للـ "تسليف" ورغم تأكده من صعوبة تجديد هذا الرصيد نفسه بنفسه إلا أنه يعي جيدًا أن اليد العليا خيرٌ وأفضل. اليد العليا نقطة تفوق علاوة على كونها إحدى وسائله لغربلة المدينين له وإعادة تصنيفهم طبقًا لتصرفهم فى هذا الأمر والذين شملتهم فى الأساس دائرة اهتمامه التى يقسمها أى قُطْرٍ إلى نصف للأخذ ونصف للعطاء لا يجور أحدهما على الآخر.
فتح الدولاب ووقف أمام مرآته الطولية والمياه تقطر من جسده العارى. استعرض جسمه فى أوضاع جانبية مختلفة سريعة، وبالطبع مثيرة للإعجاب. مشى براحة يده على عضلته الصدرية الكبرى والدالية ثم شبك أصابع يديه وضغطها حتى سمع صوت طرقعتها المميزة. حرر أصابعه وبدأ يلاحظ انبساطها البطئ مع إرادته القوية. غمز بعينه اليسرى لعينيه وهو يحمد الله على صنعه له بهذه الدقة.
يبدأ فى ارتداء "تى ـ شيرت أسود كول سبعة" مطاطي يُفَصِّّل هيئته العضلية. يرفع كميه القصيرين لأعلى قليلاً عن ذلك الانتفاخ المحبب فى عضلته العضدية على اليمين وعلى اليسار. دخل فى بنطلونه الجينز الأسود الذى يعتصر خصيتيه بإحكام وحذاء حرص على أن يرفعه كعبه عدة سنتيمترات. كم تمنى أن ينفخ الله في طوله قليلاً لكنه الآن لا يملك سوى أن يحمد الله على صنعه له بهذه الدقة.
أطل علىّ عبر الباب صائحا بحيوية:
ـ صباح الخير يا دكتورة.
ـ صباح الخير يا صالح.
ـ من إمتى بتلعب رياضة؟
قلتها وأنا أتطلع لجذعه، فقال:
ـ شهر
ـ شهر واحد فقط يا صالح؟!
ليل ثالث
ـ معلهش ولا مؤاخذة موش هتيجى إنت وتعلمينى.
قذفها في وجهي المتناوم (الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل) وملامحه تشي بالقرف واللامبالاة لأني قمت نحوه بمهمتي التبشيرية (اعتداء جسدي ـ مجتمع ذكوري ـ تقاليد بالية) ببساطة اتهم زوجته التي تم إجهاضها طبيّاً بأنها قتلت طفلهما الأول. سبّته. ضربها. جاءتني بما يسمى "حُبْسَة الكلام الهستيرية" وادعاء بعدم قدرتها على تحريك ساقيها (الحقيقة هي عدم رغبتها في تحريك ساقيها). أمه أنكرت وجود أية خلافات زوجية بين ابنها وزوجته بإصرار. الزوج غاضب غير قلق والأب غاضب قلق. أبقيت الأب معها ثم ألهبت الأغشية المخاطية لأنفها بكلوريد الإيثير عدة مرات. انتقضت. صرخت. "ضربني يا بابا.. ضربني قوى يا بابا". لن أنس أن أخبركم أن الزوجين يحترفان الهندسة المعمارية وقد تزوجا ـ طبقا لكلام الزوج ـ بعد قصة حب.
لم أندم على كوني جزءًا من هذه الحملة التبشيرية التي ينشغل بها البعض ممن يحملون لواءها ولا يعيرها البعض أي اهتمام لأنهم حملوا لواءها دون أن يشعروا. الجميع نبتوا من هنا... وسط هؤلاء الذين يدعونهم إلى نورهم غير مكتمل البهاء ولم يَفِدوُا من أرض أخرى. هذا النور جمعوا أشعته في حزمة ضوئية ـ قد تحرق أحيانا ـ من كتب الغرب ومن علوم الغرب ومن أخطاء الغرب. ليقل المنظّرون إن الغرب أفاد من علومنا التي ازدهرت في عصر المأمون أو غيره. ليقولوا إن مصابيح الأندلس أضاءت ظلام الليل قبل مصابيح شوارع لندن بسبعة قرون من الزمن على الأقل. ليدعوا الله أن يتغمد برحمته أرواح ابن النفيس وابن رضوان والزهراوى الأندلسي أو حتى موسى بن ميمون اليهودي!! لنقل إنهم اكتشفوا المخدّر الطبي وشخصوا الجزام والسل الرئوي والشلل وإنهم أول من فتتوا حصوات المثانة والحالب. كل ذلك لا يتجاوز بضعة أسطر كتبت بالحبر السرى في كتاب اليوم الذي يدرسه المبشرون كعماد أساسى لحملتهم التبشيرية. الحملة التي تتوجه للجماهير قائلة لهم: من فضلكم آمنوا بنا وبالسنوات التي قضيناها في استذكار كتب أعدّها أساتذتنا من مراجع الغرب وقالوا هذا من تأليفنا!. هذا إنجاز العلميين الجدد (لا العَلْمَانيين ولا الِعلْمَانيين). العلميون الذين ربما يلفقون نتائج التجارب، معطياتها، براهينها، جداول التلخيص، الرسوم البيانية والإحصائيات في البحوث العلمية (العلمية هنا نسبة للعلميين) لمشاريع التخرج ولنيل درجات الماجستير والدكتوراه. اليوم رأيت امرأة ترتدى الزى الفلاحى تسير على الإسفلت الساخن حافية. لا أذكر متى بدأت تلك الحملة القومية الشهيرة لمكافحة الحفاء؛ لكن الواضح أنها لم تؤت الثمار المرجوّة منها. لم تكن ملابسها ممزقة ولم يكن فيها من العته شئ واضح للعين المجردة غير قدمين حافيتين على أسفلت الظهيرة. كانت تمشى بين امرأتين ترتدي إحداهما (شبشبا) من المطاط والأخرى حذاء بلاستيكيا أزرق اللون. تربت على ظهريهما من آن لآخر (متحررة من تلك الغيرة الإنسانية المقززة!) ثم تبدّل أماكن الارتكاز في قدميها سريعًا سريعا. توقّف سيرى وتابعتهن ببصري حتى أفاقني من عجبنى طرقعة حدوات حصان أبيض يجر عربته الكارو على الإسفلت. كن في طريقهن إلى "القصر" كما يطلقون عليه أو المستشفى التعليمى كما يطلق عليه المبشرون ضد الخرافة والجهل والحفاء والخبث الريفي في غير المبرر وبعوض الفلاريا. رسالة كثيرا ما تضيقين بحملها رغم عهدك على ذاتك بأن تكونى على مبادئ العلميين الجدد الغير ضارة قدر المستطاع محتفظة لنفسك في كثير من الأحوال برحيق الانتقاد الحر! تضيقين بها ليس لرهق يعتريك من تنفيذها وإنما للفلسفة الأولية التي تحركك تجاه الأمر برمته والتي تفرض اعتيادك التعامل مع هذه المخلوقات ـ البشرية حتى لا يسئ أحد الفهم ـ بعقلية التبشير وكأنهم أهل هاواي الأصليين.. الحفاة العراة الذين يوضعون في أركان المتاحف لمطالعتهم والتندّر عليهم لأنهم لم يصيبوا مثقال حظ من الحضارة!
وماذا أصبنا منها نحن وكيف؟! المبشّرون من يقوم بتبشيرهم؟ والعلميون من يقوم بتعليمهم؟
لم يزوّدونا بعد بموقد بوتاجاز. لا أستطيع شرب كوب من الشاي أضمن نظافته ولا أستطيع سلق البيض الذي ملأت أمي به حقيبتي. لا يقدمون إفطارا لأن الأعداد دائما تتجاوز المتاح من دعم وإمكانيات، ويكون من المفترض أن ادخّر نصف وجبة العشاء التي لا أستطيع أن ألصق بها صفة الكرم إلى صباح اليوم التالي. بدأ الجوع يقرص معدتي ورائحة الدجاج المشوي الذي يتشارك فيه صالح وعماد وأنيسه وليلى يسيّل لعابي.
ليل رابع
لم أقرأ الكتاب الذي أعارني إياه خالد؛ وإنما أخذت أتشمم فيه رائحته التي كلما اقتربتُ منها تضوّعت بعيدًا عنى، وكلما تصوّرتُ أنها خُزّنت في ذاكرتي، لم أستطع استدعاءها مرة أخرى. فما يزيدني ذلك إلا التصاقًا بكتابه..برؤياه.. بالشعرات البيض اللاتي انتثرن وسط غابة سوداء من الشعر الأسود كشموع كعكة في العيد الثلاثين لميلاده. ثمة شحوب مضئ مخيف في جلد وجهه وأصابع كفيه النحيلات يزيده عمقًا تلك المساحة الرمادية الحليقة من ذقنه البارزة المدببة والعينان اللتان لا تشعران بالإنصاف تذبحان وتستجيران في الوقت ذاته. تعرضان عنى وتدخلان فيّ.ابتسمت لنفسي في المرآة.. في الحقيقة ضبطتني متلبسة بالابتسام بدون أي سبب واضح، فقلت لابد باب الروح مفتوح على مصراعيه. أثناء عبوري الكوبري الزجاجي ضبطتني متلبسة بالتحدث مع نفسي فقلت لابد باب الروح مفتوح على مصراعيه، وخالد قد دخل.
هل كان من اللائق أن أتحدث معه في أول حديث لنا سويّا عن العلميين الجدد، ورئيسة قسم الجراحة العامة التي أخذت اسمي الثنائي كبداية للانتقام منى لأني لم أقف لها وأوفّها التبجيل أثناء عبورها المحتم على "كونتر" الاستقبال ـ الذي أجلس خلفه ـ في طريقها لبوابة الخروج! والتوسع الأفقي الذي تشهده كلية الطب جامعة المنوفية الذي مفاده زيادة عدد الأسرّة دون زيادة مماثلة في عدد الأجهزة الطبية، أو رفع كفاءتها، أو إدخال فحوصات طبية حديثة على معامل التحاليل وأقسام الأشعة؟
أتاني ماشيًا لعمل رسم مخ، فأتيته هرولة. أجلّت ميعاد رسم مخه، واستعرت كتابه، وقلت سيأتي…..
مع مطلع الشباب وبداية مرحلة النضوج الفسيولوجي والعقلي لـ"غريب الصاوي"، أدرك أن أمه قد أورثته ميراثا لا بأس به، فقد وهبته عينين خضراوين بضراوة وسط وجه أسمر لفحته شمس الشقاوة وشعر أسود أجعد مما جعل العيون تتسمّر للبحلقة فيه، وكانت هذه ميزة عظيمة، عطية سماوية غلّفت روحه بثقة عالية بقدرات نفسية أهلّته لأن يكون الفتى الوحيد الذي يمتلك الشجاعة لممارسة "البصبصة" لـ "وداد" الجارة السابعة له في الحي الذي قطن به مؤخّرًا.
وداد كانت حلمًا متحركًا لشباب الحارة بشعرها البرتقالي الأجعد النائم فوق جبينها الأبيض كموجات بحر ارتمت على شواطئ الرمل البكر الذي لم تدنّسه قدم، وعينين زرقاوين شفافتين تحفيهما جفون مسدلة أغلب الوقت تدفع المفتون بها للاقتراب والاستكشاف اللذين يبوءان في أحايين كثيرة بالفشل الذريع، وأنف قيصري يتصل بالجبهة العريضة بمنخفض ناعم وشفتين ورديتين رقيقتين. مرات قليلات أزاحت فيها وداد بنت جرجس أفندي جفونها لتسمح لعينيها بمطالعة الولد الجرئ الذي يلحّ بـ "البصبصة" ثم تهرول إلى حال سبيلها مستجيرة من رصاص عينيه بزحمة الناس وجدران البيوت بعد أن تكون فلاشات بصرها قد غمرته