أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الصباغ - قتل الأب عند دوستويفسكي















المزيد.....



قتل الأب عند دوستويفسكي


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8217 - 2025 / 1 / 9 - 06:31
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


سيغموند فرويد
ترجمة محمود الصباغ
استهلال المترجم
أمضى سيغموند فرويد عامين (1926-1928) يعد هذه المقالة (على مضض-كما يقول) عن "الروسي الملعون"، الذي زعم أنه لم يرق له.
وحسبما هو معروف من حياة فرويد لم يثر المقال كثير اهتمام حين صدروه؛ رغم محاولته إدخال مرض الصرع إلى دائرة النقاش أثناء صياغته مسوغات عقدة "قتل الأب" عند الكاتب الروسي. حيث افترض إصابة دوستويفسكي بما دعاه عصاب "الصرع الهستيري"، وهو شكل خطير من أشكال الهستيريا؛ وربطها بما دعاه "المرض القديم المقدس" لجهة عدم التداخل بين الحالة النفسية والنمو الذهني الكامل للمريض، ويرد فرويد حالة الصرع الهستيري عند دوستويفسكي إلى حادثة مأساوية عاشها في شبابه؛ والمتمثلة في مقتل أبيه على أيدي الفلاحين، ليستنتج منها استحواذ رغبة "قتل الأب" عليه حسب مقتضيات التحليل النفسي الفرويدي.
ومثل هذا التفسير يتناسب تماماً مع المركبات الأوديبية التي استند إليها فرويد لفهم حالة دوستويفسكي (من لا يتذكر مقولة ليفي شتراوس الشهيرة "معرفتنا بالأسطورة قبل فرويد ليست هي ذاتها بعدها"). ويرى فرويد أن الكاتب عكس رغبته هذه في رواية "الإخوة كارامازوف". حين تظهر رغبة ديميتري في قتل أبيه، وهو فعل مُدان اجتماعياً ودينياً (كما يشير الكاتب في الرواية، وكما يذكر فرويد في المقالة أيضاً).
يظهر أن دوستويفسكي لم يتعافَ من شعوره بالذنب بسبب موت أبيه فنراه يعيش نوبات صرع عصابية، تعيده إلى ذكريات الطفولة المبكرة، ويقارن السلوك الأوديبي عند دوستويفسكي بمضاهاته مع أعمال سوفوكليس وشكسبير، بالاستناد إلى أدوات التحليل النفسي، كما هو مبين في النص، فينظر إلى الدوافع كنوع من "نرجسية طفيفة الانحراف".
وعمل فرويد، بهدف استكمال التحليل، على تفكيك العوالم النفسية لشخصية دوستويفسكي إلى أربعة عوالم أو عناصر أولية: دوستويفسكي الكاتب ودوستويفسكي العصابي ودوستويفسكي الأخلاقي ودوستويفسكي الخاطئ. فيضع الجانب الإبداعي (دوستويفسكي الكاتب) في مكان لا يقارن مع غيره ويصنفه ضمن أهم المبدعين. لكنه يدين الأخلاقي، بالأحرى يرفضه؛ لأنه بدل من تحوله إلى قدوة للإنسانية اكتفى بالتحول إلى "آثم عظيم" يخضع للسلطة الأرضية "القيصر" والسلطة السماوية "الرب"؛ حتى في اللحظات التي لم يكن قد حسم خياراته فيها بعد بين الإيمان وعدمه، فبدا سادياً نحو العالم الخارجي (حين يتعلق الأمر بالأشياء الصغيرة على حد قول فرويد) ونحو نفسه (حين يتعلق الأمر بالأشياء الكبيرة كما يقول فرويد أيضاً)، ثم بدا مازوشياً في نهاية المطاف؛ وبكلمات فرويد الشخص الأكثر لطفاً واعتدالاً والأكثر فائدة.
وهذا ما تشهد عليه إسقاطات فرويد لشخصياته الروائية (عادة ما تظهر عنيفة وأنانية ومن طبيعة إجرامية؛ ويؤكد فرويد على هذا التماهي من اعتراف دوستويفسكي بالشروع في اعتداء جنسي على فتاة صغيرة؛ وكذلك شغفه بالقمار) ويقرن فرويد "قتل الأب" بفرضيته التي تحدث عنها في كتابه "الطوطم والتابو" والتي نسبها إلى سلوك "القطيع البدائي" في فجر التاريخ البشري، التي يعاد تكرارها في خيال كل فرد من أفراد القبيلة؛ وما يرافقها من شعور بالندم ثم محاولة التكفير عن الذنب.. وكذلك الطفل، حين يعيش، في مراحل حياته الأولى، حالة تناقض في علاقته مع أبيه بسبب الصراع على الأم، ولكن بسبب من قوة الأب وقسوته (في نظر الطفل) سيتسبب هذا في خوف شديد من الأب (الخوف من الإخصاء أو الختان)، فيتخلى عن رغبته في امتلاك الأم والقضاء على الأب، ولكن لا يزال هناك شعور بالذنب اللاواعي.
يرى فرويد أن هذا الثنائية (الخوف والشعور بالذنب) واضحة لدى دوستويفسكي، إذ تعزز توجهاته ذات الطبيعة الجنسية الثنائية القوية اشتراطات العصاب عنده، مما يؤدي إلى تكثيف دفاعه ضد الأب "شديد القسوة"، لتتحول العلاقة بينه وبين الموضوع / الكائن الأبوي إلى علاقة بين الأنا والأنا العليا، ومنذ اللحظة التي امتلك فيها دوستويفسكي إحساساً واقعياً برغبته في قتل أبيه؛ تحول هذا الإحساس إلى نوبات صرع هستيري.
يفسّر فرويد هذا بعدم اكتمال النوبات في مرحلة الطفولة لتعطي شكلاً حقيقياً من الصرع، إلا بعد الحدث الصادم المتمثل في مقتل والده.
ويظهر التحليل النفسي الفرويدي أن هذا كان أساس العصاب عنده، وهو ما ظهر في رواية الإخوة كارامازوف بشكل واضح. وما مخاوف دوستويفسكي الشاب من الموت، (التي ترافقت مع حالة من الخمول) إلا نوع من التماهي مع الموتى أو مع شخص كان يرغب في موته، أو لعلها آلية للعقاب الذاتي. وقد تأكد هذا العقاب -الاستنتاج دائماً حسب فرويد- في السجن الحقيقي في سيبيريا، حيث يرى أن عوارض أزمات دوستويفسكي لم تختفِ في حقيقة الأمر بسبب السجن؛ إنما لم تعد تؤثر عليه بشكل واضح على الأقل. لكن السجن لعب دوراً مهماً في الجانب الأخلاقي عنده (لا يغيب عن بالنا هنا تقسيم فرويد لشخصية دوستويفسكي) حين يحل القيصر محل الأب.
وهكذا مضى دوستويفسكي أبعد من ذلك؛ حين ماثل بين المصاب بالصرع وقاتل الأب -تتويجاً لتماثله مع المجرمين العاديين والسياسيين والدينيين- لكن ديون المقامرة (وهو النقص الأخلاقي الثاني الذي يفترضه فرويد في شخصية دوستويفسكي) والتي ستلبي الحاجة إلى العقاب الذاتي، تمكّنه من الكتابة والنجاح كروائي (صفة سيرفعها فرويد إلى مصاف الإبداع).
أحد أهم المآخذ على فرضية فرويد عن مسألة "قتل الأب" عند دوستويفسكي تتمثل في الافتقار إلى المعلومات الموثوقة عن الحياة المبكرة للكاتب الروسي. وحقيقة مرضه (الصرع). فضلاً عن بعض المقاربات المنهجية في ضوء مفاهيم التحليل النفسي التي أتت بعد فرويد؛ والتي تدحض أو تضعف افتراضاته، فتشخيص الصرع الهستيري -لدى بعض أهل الاختصاص- لا يعدّ صحيحاً، لأن غالبية أعراض دوستويفسكي لا تتوافق معه. كما أن الافتراض الفرويدي بتماهي دوستويفسكي الطفل مع "عقدة أوديب" هو مجرد تكهن غير مثبت فعلاً ولذلك لا يمكن اعتباره مصدر اهتمام له لأن رغبته السابقة في قتل والده ليست سوى افتراض دون دليل واضح، وينطبق هذا على ديمتري (بطل الإخوة كارامازوف)، إذ لا يمكننا القول بتغلب عقدة أوديب عليه؛ ذلك لأن دوافعه للانتقام لا تتناسب مع حبه تجاه والدته (وهذه الميزة هي جوهر تشخيص عقدة أوديب).
وإذن ليس هناك ما يؤكد هذا الجزء من فرضية فرويد عن ديمتري، فنحن في الواقع لا نملك يقيناً حقيقياً يدفعنا لتفسير رغبة قتل أبيه كإجراء مضاد تجاه اختفاء والدته وموتها عندما كان في الثالثة من عمره. (والدة دوستويفسكي توفيت وهو بعمر 15 عاماً)
كان لافتاً للنظر أن ينهي فرويد مقالته باستعراض قصة قصيرة لستيفان تسفايغ بعنوان "أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة" وجدها مناسبة لتأكيد افتراضاته عن دوستويفسكي (لا سيما شغفه بالقمار وعلاقته بزوجته الشابة) ويحلل فرويد قصة تسفايغ على أنها خيال شاب (مدمن على القمار أيضاً)، حيث تدخلت أمه في صلب حياته الجنسية لحمايته من العادة السرية، وهو إكراه افترضه فرويد موجوداً عند دوستويفسكي (يعتقد فرويد أن العادة السرية هي أساس كل إدمان)، وقد خاض فرويد نقاشاً مع ثيودور ريك (جزء منه موجود في المقالة أدناه) وكذلك مع ستيفان تسفايغ ( وقد كانا صديقين).
نشرت المقالة في كتاب WRITINGS ON ART AND LITERATURE (الصفحات 254-275). مطبوعات جامعة ستانفورد الأمريكية 1997.
.......
قتل الأب عند دوستويفسكي: سيغموند فرويد
يمكننا تمييز أربعة جوانب في شخصية دوستويفسكي الغنية: الفنان المبدع، العصابي، الأخلاقي، وأخيراً الخاطئ، بالأحرى الآثم؛ فكيف نستطيع، والحال هذا، تأمل هذه التعقيدات المربكة في الجوانب الشخصية لدوستويفسكي التي يبدو فيها الوجه الإبداعي هو الأقل حيرةً وإثارة للجدل؛ فمكانته في الأدب لا تقل شأناً عن مكانة شكسبير. ولعل "الإخوة كارامازوف" هي أروع ما كتب في فن الرواية على الإطلاق؛ كما يعتبر عرض شخصية كبير المحققين إحدى أعظم قمم الأدب العالمي، وأحد أكثر المواضيع قيمة وتقديراً.
ورغم ما يحظى به هذا الجانب الإبداعي، فلا ينبغي لنا الركون والاستسلام إزاء تحليل بقية جوانب شخصية دوستويفسكي. وسوف يكون الجانب الأخلاقي منها، هو الأكثر عرضة للهجوم والانتقاد؛ وفي هذا الشأن، سوف يكون حُكمنا متسرعاً فيما لو أردنا تصنيفه ضمن مكانة أخلاقية عالية استناداً إلى أن الإنسان الذي عايش عمق الخطيئة هو وحده القادر على الوصول إلى أعلى ذروة أخلاقية.
فالإنسان الأخلاقي هو من يتفاعل مع محنة الغواية حالما يشعر بها في أعماق قلبه؛ دون الاستسلام لها. وأما صاحب الأخطاء المتكررة، والذي يعبر عن ندمه وتوبته من خلال تقويمات أخلاقية ذات معايير عالية، سيجد نفسه وجهاً لوجه أمام انتقادات عديدة بحجة استسهاله الأمور. فهو لم يستطع تحقيق جوهر الأخلاق، أي الإحجام أو التخلي الطوعي، لأن السلوك الأخلاقي في الحياة يمثل مصلحةً إنسانيةً عملية. ويذكرنا هذا بالهمجيين البرابرة وهجراتهم العظيمة، فيقتلون ويندمون ثم يكفّرون عن جرائم قتلهم، حتى باتت كفارة القتل أداة فعليّة وأسلوباً حقيقياً لتبرير فعل القتل.
هكذا كان يتصرف إيفان الرهيب بالضبط. ولعل هذه التسوية الأخلاقية تمثل، في الواقع، سمة روسية مميزة. كما أن مساعي دوستويفسكي الأخلاقية لم تصل إلى نتائج يمكن وصفها بالعظيمة، إذ انحدر به الأمر إلى موقف رجعي خضع فيه للسلطتين الزمانية والروحية وتبجيل القيصر والإله المسيحي والنزعة القومية الروسية الضيقة؛ إثر صراعات شديدة للتوفيق بين مطالب الفرد الغريزية ومطالب المجتمع -وهو الموقف الذي وصل إليه أصحاب العقول الكسالى.
وهذا ما سيمثل نقطة ضعف تلك الشخصية العظمية. وهذا ما جعله أيضاً يفوّت على نفسه فرصة أن يصبح مُعلّماً ومُحرّراً للإنسانية، بل جعل من نفسه أحد حراس سجنها. ولن يكون مستقبل الحضارة الإنسانية مديناً له بالكثير ليشكره عليه. ويبدو سبب فشله هذا يعود لحالة الاضطراب العصابي التي عاشها. وإلا فإن عظمة ذكائه وقوة محبته للإنسانية ربما كانت ستشق له درب حياة رسولية أخرى.
وسوف يثير اعتبار دوستويفسكي خاطئاً أو مجرماً معارضة عنيفة، لا يجوز استنادها إلى تقويم محدود وسطحي philistine للمجرمين*؛ بل سرعان ما يتضح الدافع الحقيقي لهذه المعارضة. فهناك سمتان أساسيتان في المجرم: أنانيته غير المحدود ورغبته / دافعه القوي للتدمير. وسيكون غياب الحب وانعدام التقدير العاطفي للموضوعات "الإنسانية" هو القاسم المشترك بين هذين الأمرين، والشرط الضروري للتعبير عنهما.
وسوف نتذكر على الفور التناقض الذي قدمه دوستويفسكي في هذا الشأن؛ أي توقه الشديد للمحبة وقدرته الهائلة على الحب التي يمكن رؤيتها في مظاهر اللطف المبالغ فيه للمحبة والمساعدة حيث كان ينتظر منه، بحق، الكراهية والانتقام، مثلما هي، على سبيل المثال، علاقاته مع زوجته الأولى وعشيقها. ولما كان الأمر كذلك، فلا بد من التساؤل عن سبب وجود أي إغراء يمنعنا من تصنيف دوستويفسكي بين المجرمين، ويأتينا الرد من اختياره لمادة كتابته، وهو ما يجعله شديد التمايز والتركيز على الشخصيات الأخرى العنيفة الإجرامية والأنانية، مما يشير إلى وجود ميول مماثلة في داخله، وكذلك تركيزه على بعض الحقائق في حياته، مثل شغفه بالمقامرة واعترافه المحتمل بالاعتداء الجنسي على فتاة صغيرة (1).
ويجري تفسير هذا التناقض بالقول إن غريزة دوستويفسكي المدمّرة القويّة، والتي كان من الممكن أن تجعله مجرماً بسهولة، كانت موجهة في حياته الفعلية ضد شخصه بالأساس (أي نحو الداخل بدلاً من الخارج) فوجدت، بالتالي، تعبيراً عنها في المازوشية والشعور بالذنب. بيد أن شخصيته واصلت الاحتفاظ بسمات سادية في الكثير من الحالات، على هيئة انفعال وهياج، وحب التعذيب وعدم تسامحه حتى تجاه الأشخاص الذين أحبهم، والتي تظهر أيضاً في الأسلوب الذي يعامل به قراؤه كمؤلف.
وهكذا، كان دوستويفسكي سادياً تجاه الآخرين في الأمور الصغيرة؛ أما في المواضيع الكبيرة فقد تجلت ساديته تجاه نفسه، أي كان في الواقع مازوشياً -أي شخصاً أكثر رقة ورحمة واعتدالاً ولطفاً وأكثر فائدة.
ولغرض الدراسة هنا؛ اخترنا ثلاثة جوانب من شخصية دوستويفسكي المعقدة، أحدهما كمي واثنان نوعيان؛ وهذه الجوانب هي على التوالي: الكثافة الاستثنائية لحياته العاطفية، وشخصيته الغريزية الفطرية المنحرفة، التي ميزته حتماً كشخص سادي مازوشي أو مجرم، والجانب الثالث نقصد به موهبته الفنية العصية على التحليل.
قد يكون هذا المزيج موجوداً واقعياً دون مرافقة حالة عصابية. فثمة هناك أشخاص مازوشيون كاملون دون أن يكونوا عصابيين. ولكنه سيكون من الضروري، بناء على توازن القوى بين احتياجاته الغريزية والموانع المعارضة لها (من بينها أساليب التسامي المتاحة) تصنيف دوستويفسكي ضمن إطار "الشخصية الغريزية".
يعتمد الموقف هنا على الوجود المتزامن للعصاب؛ أي التداخل، الذي، كما قلنا، لم يكن شرطاً حتمياً، لكنه يظهر بسهولة أكبر كلما زاد ثراء المضاعفات التي يجب على الأنا ego التغلب -أو السيطرة- عليها. لأن العصاب، في الحقيقة، مجرد علامة على عدم نجاح الأنا في خلق تركيبة مناسبة، مما يجعله يفقد وحدته أثناء هذه المحاولة.
فكيف تظهر، إذن، حالته العصابية بدقة؟
يصف دوستويفسكي نفسه بأنه شخص مصاب بالصرع epileptic، وهذا ما كان يعتبره الآخرون، بسبب النوبات الشديدة المصحوبة بفقدان للوعي المترفقة مع تشنجات عضلية وإنهاك شديد وخمول. ومن المحتمل جداً، في هذه الحالة، أن يكون هذا الصرع المزعوم مجرد عرض من أعراض العصاب، وبالتالي يجب تصنيفه على أنه صرع هستيري hystero-epilepsy أي هستيريا شديدة؛ علماً أنه لا يمكننا التأكد بصورة تامة من هذه النقطة لسببين؛ أولاً، لأن البيانات غير المؤكدة حول صرع دوستويفسكي المزعوم غير كافية وغير موضع ثقة، وثانياً، لا يتوفر لدينا فهم كامل للحالات المرضية المرتبطة بنوبات تشبه الصرع.
وسوف نبدأ من النقطة الثانية. مع التأكيد على عدم ضرورة استعراض المسار الباثولوجي للصرع بأكمله، فليس لهذا الأمر أهمية في سياق تحليل المشكلة. ولكن يمكننا قول ما يلي: لا يزال الداء المقدس morbus sacer القديم ماثلاً أمام أعيننا كموضوع مرض سريري واضح ومعرّف بأعراض تشنج عديدة غير مفهومة، وتغيير الشخصية إلى حالة هياج وعدوانية، ويترافق هذا مع هبوط متدرج ومستمر لجميع القدرات العقلية.
لكن السمات العريضة لهذه الصورة ما زالت غامضة وتفتقر إلى الدقة التامة. فنوبات الصرع التي قد تكون من طبيعة عنيفة في بدايتها، مصحوبة بقضم اللسان وسلس البول وقد تتطور لتصل إلى حالة صرع خطيرة epilepticus مع أخطار حدوث إصابات وتأذي ذاتي شديد، يمكنها الاقتصار على فترات زمنية قصيرة من "الغيبوبة"، أو نوبات دوار سريعة أو قد يحل محلها فترات زمنية قصيرة يقوم خلالها المريض بأشياء خارجة عن طباعه الشخصية، كما لو كان تحت سيطرة اللاوعي.
ورغم أن هذه النوبات، على النحو الذي نفهمه عنها، يتم تعيينها عموماً بأسباب جسدية بحتة غير مفهومة لنا، قد تكون مدينة بظهور أعراضها الأولى إلى أسباب محض عقلية (مثل الخوف) أو بسبب تفاعلها مع محفزات عقلية أخرى تستجيب لها. وبرغم وضوح تأثير الضعف الذهني المميز في الغالبية العظمى من الحالات، فمن الممكن عدم حدوث تداخل أو تأثير للتحديات أو الصعاب أو الضغوط العاطفية على القدرة الذهنية العالية، مثلما هو معروف في (حالة هيلمهولتز Helmholtz**). (الحالات الأخرى التي تم التأكيد عليها بامتلاكها ذات التأثير قد تكون محل جدل أو موضع ريبة مثلما هي حالة دوستويفسكي نفسه).
قد يعطي الأشخاص ضحايا الصرع انطباعاً بالبلادة وتوقف النمو العقلي؛ تماماً كما يصاحب المرض في كثير من الأحيان أعراض بلاهة واضحة وعيوب، بالأحرى عاهات دماغية شديدة، حتى لو لم يكن ذلك عنصراً أساسياً في التشخيص السريري أو القصة المرَضية. ويمكن ملاحظة هذه النوبات أيضاً، بكل اختلافاتها، لدى آخرين يظهرون نمواً عقلياً كاملاً، في الوقت الذي يعيشون حالة فرط عاطفة شديدة غير خاضعة للسيطرة والتحكم بشكل كافٍ.
ولا عجب، إذن، في ظل هذه الظروف، استحالة تقديم تشخيص سريري واحد يؤكد على حالة موضوع "الصرع epilepsy". وسوف يستدعي التشابه في الأعراض الواضحة رؤية وظيفية لها.
ويبدو الأمر كما لو أن هناك نظاماً أو آليةً تتوضع عضوياً لتفريع أو تسهيل إفرازات الغرائز غير الطبيعية، والتي يمكن الاستفادة منها واستخدامها في ظروف مختلفة تماماً -سواء في حالة اضطرابات النشاط الدماغي بسبب تأثيرات نسيجية أو إصابات شديدة السميّة، وأيضاً في حالة السيطرة غير الكافية على الاقتصاد الذهني [بمعنى كيفية تنظيم وتوزيع واستخدام الطاقة النفسية والعمليات العقلية لتحقيق التوازن النفسي -المترجم] وفي الأوقات التي يصل فيها نشاط الطاقة العاملة في العقل إلى مستويات عالية من الخطورة والتأزم.
ويقف وراء هذا الانقسام أحد ملامح هُوية الآلية الأساسية للتفريغ الغريزي غير البعيدة عن الممارسات الجنسية، التي هي من طبيعة سامة بالأساس؛ ووصف الأطباء الأوائل الاتصال الجنسي كصرع بسيط، وأقروه، بالتالي، كتخفيف وتكييف لنوبة الصرع لتصريف المحفزات (2).
ومما لا ريب فيه خضوع "رد فعل الصرع"، لو جازت لنا تسمية هذا العنصر المشترك، لتأثير حالة الاضطراب العصابي التي يتمثل جوهرها في التخلص، من الكميات المتراكمة من الإثارة والمحفزات عبر أدوات ووسائل جسدية، كان من المحال التعامل معها أو التخلص منها نفسياً.
وهكذا، تصبح نوبة الصرع أحد أعراض الهستيريا وشكلاً من أشكالها؛ تتكيف معها الحالة النفسية وتتعدل بها، كما يحدث تماماً خلال عملية التصريف والإفراز الجنسي الطبيعية. لذلك من الصواب تماماً التمييز بين الصرع العضوي والصرع "العاطفي". وتكمن أهمية الدلالة العملية لهذا في أن الشخص المصاب بالنوع الأول [الصرع العضوي] يعاني من عارض أو مرض دماغي، في حين أن المصاب بصرع عاطفي يعاني من اضطراب عصابي. ويؤثر الصرع العضوي على حياة المريض العقلية بسبب اضطراب خارجي غريب، بينما يعبر الصرع العاطفي عن اضطراب يمس حياة المريض العقلية بحد ذاتها.
وإذن، من المرجح انتماء صرع دوستويفسكي للنوع العاطفي؛ علماً أنه لا يمكننا إثبات هذا الترجيح بشكل قاطع. وللقيام بذلك، يتوجب علينا أن نكون في وضع يسمح لنا بإدخال أول ظهور للنويات، وتقلباتها اللاحقة، في سياق حياته العقلية.
وفي الحقيقة؛ نحن لا نعرف إلا القليل جداً عن هذه السياقات. ولا يقدم لنا وصف تلك النوبات ذاتها أي معلومات شافية حول العلاقة بينها وبين تجارب وخبرات دوستويفسكي، وإن وجدت مثل هذه المعلومات فهي متناقضة وفي أحسن الحالات غير مكتملة. ولا مناص من اللجوء إلى أحد الافتراضات الأكثر احتمالاً، أي إرجاع نوبات صرعه إلى طفولته المبكرة، وأن أعراضاً أكثر اعتدالاً منها حلت محل الأعراض السابقة، ولم تتخذ شكلاً من أشكال الصرع إلا بعد المحنة الكارثية التي عاشها في عامه الثامن عشر؛ أي مقتل والده (3). ولعله من المفيد إلى حد كبير، لو استطعنا إثبات توقف تلك النوبات تماماً أثناء نفيه في سيبيريا، لكن ثمة روايات تتناقض مع هذا الافتراض (4).
وليس خفياً انشغال العديد ممن كتبوا سيرته الذاتية بالعلاقة الواضحة بين مقتل الأب في رواية "الإخوة كارامازوف" ومصير والد دوستويفسكي نفسه، وقد دفعهم هذا إلى العودة لتأملات "مدرسة حديثة محددة في علم النفس".
فمن وجهة نظر التحليل النفسي (لأنها هي المقصودة هنا)، نميل إلى رؤية ذات الحدث كتعبير عن أشد الصدمات قسوة؛ واعتبار رد فعل دوستويفسكي عليها نقطة تحول في اضطرابه العصابي. ولكن إذا ما أردت إثبات هذا الرأي من الناحية التحليلية النفسية، فسأضطر إلى تجشم مخاطرة استعراض غموض التحليل وبالتالي صعوبة فهم جميع القراء، من غير أهل الاختصاص الذين ليسوا على دراية بلغة ونظريات التحليل النفسي وغير معتادين على مصطلحاتها.
وعلى هذا، سيكون لدينا نقطة انطلاق واحدة مؤكدة. فنحن نعلم دلالات أهمية الموت التي حملتها نوبات دوستويفسكي الأولى في طفولته المبكرة، أي قبل وقت طويل من إصابته بـ "الصرع".
فقد تنبأت تلك النوبات بالخوف من الموت وراوحت بين حالات خمول وسبات. وأتاه المرض لأول مرة عندما كان لا يزال صبياً، على شكل حزن مفاجئ غير مبرر. شعور كما لو أنه سيموت من فوره، كما أخبر صديقه سولوفييف لاحقاً. وفي الواقع تبع ذلك حالة مشابهة تماماً للموت الحقيقي. فيخبرنا شقيقه أندريه أن فيودور الصغير اعتاد ترك ملاحظات صغيرة قبل النوم، موضحاً خشيته الوقوع في هذا النوم الشبيه بالموت أثناء الليل، ولذلك كان يتوسل تأجيل دفنه لمدة خمسة أيام. (Fiilop-Miller and Eckstein, 1925, lx.).
ونحن نعرف معنى ومغزى نوبات الموت هذه (5). فهي تشير إلى التماهي مع شخص ميت؛ إما مع شخص ميت حقاً، أو مع آخر لا يزال على قيد الحياة؛ ويتمنى أن يكون ميتاً. والحالة الأخيرة هي الأكثر أهمية. فتمثل نوبة الصرع هنا قيمة تقيس مقدار العقوبة، بمعنى أن يتمنى أحدهم موت شخص ما؛ ثم وعند حد معين يصير هو نحن هذا الشخص، ثم يميت نفسه. وسوف تعمد نظرية التحليل النفسي، عند هذه المرحلة، إلى التأكيد على أن هذا الشخص الآخر بالنسبة للصبي عادة ما يكون والده، من الناحية المبدئية، وبالتالي ستكون نوبة الصرع (التي يطلق عليها نوبة هستيرية) عقاباً ذاتياً ضد رغبة موت الأب المكروه.
إن قتل الأب Parricide، وفقاً لرأي معروف، هي الجريمة الرئيسة والأولية للبشرية وكذلك للفرد. (انظر مقالاتي Totem and Taboo, 1912-13.) وتشكل، على أي حال، المصدر الرئيس للشعور بالذنب، رغم عدم معرفتنا ما إذا كانت هي المصدر الوحيد أم لا؛ إذ لم تتمكن الأبحاث بعد من إثبات الأصل النفسي للشعور بالذنب وما يتبعه، على وجه اليقين، من حاجة إلى التكفير عن الجريمة. بيد أنه ليس من الضرورة بمكان أن تكون هي المصدر الوحيد. فالوضع النفسي معقد ويتطلب المزيد من الإيضاحات. نظراً لأن العلاقة بين الفتى والأب هي، كما نقول، علاقة "متناقضة". وسوف نلاحظ، على وجه العموم، أن شعوراً بالمودة تجاه الأب يترافق مع دافع الكراهية نحو التخلص منه كمنافس. وسوف تعمل كلتا الحالتين السابقتين على تماثل الابن ذهنياً مع شخصية الأب. فيرغب الفتى في الحلول محل والده لأنه معجب به ويريد أن يكون مثله، وفي ذات الوقت يرغب، بالأحرى يريد إبعاده عن طريقه.
لكن هذا التطور سرعان ما سيصطدم، برمته، بعائق قوي. ففي لحظة معينة، سيفهم الطفل أن محاولة إبعاد والده كمنافس سيعاقبه عليها بالخصاء castration. [يشير النص في العموم إلى فهم فرويد لمعنى فقدان جزء من الجسم من الناحية الرمزية، وهي هنا الخصاء أو الختان، في سياق فهم آليات عمل العقل الباطن وأثرها على السلوك والتجارب الشخصية، وهذا لا يعني "عمليات طبية جراحية محددة"، فالتهديد بالعقوبة يعتبر "رمزاً نفسياً" لما يمكن أن يتعرض له الطفل لو حاول منافسة والده على "حب الأم" -المترجم]. لذلك سيتخلى عن رغبته في امتلاك أمّه والتخلص من أبيه، خوفاً من الإخصاء -أي من أجل الحفاظ على رجولته-.
وبقدر ما يتبقى من رواسب هذه الرغبة في اللاوعي فإنها ستشكل أساس الشعور بالذنب. ونعتقد أن ما نصفه هنا يعبر عن عمليات طبيعية أي المصير الطبيعي لما يسمى بـ "عقدة أوديب". لكن الأمر يتطلب لفهمه الكثير من التوسع المهم.
وسوف تنشأ تعقيدات إضافية أخرى عندما يتطور العامل التكويني الذي نسميه الثنائية الجنسية بصورة كبيرة نسبياً عند الطفل، وهنا ستشتد ميوله للانحراف نحو الأنوثة، تحت تهديد فقدان رجولته بالإخصاء، ليضع نفسه -بدلاً من ذلك- في مكان والدته ويتولى دورها كموضوع لحب والده. لكن الخوف من الخصاء يجعل هذا الحل مستحيلاً أيضاً. ويدرك الصبي بوجوب خضوعه أيضاً للعقوبة إذا ما أراد أن يحبه والده كامرأة. وهكذا، فإن كلا الدافعين، كراهية الأب وحبه، يؤديان إلى الكبت. وثمة فروقات نفسية معينة تعبر عنها حقيقة اختفاء كراهية الأب بسبب الخوف من خطر خارجي (الخصاء)، في حين يتم التعامل مع حب الأب كخطر غريزي داخلي، رغم أنه يعود، أي حب الأب، بشكل أساسي إلى ذات الخطر الخارجي.
إن ما يجعل كراهية الأب غير مقبولة هو الخوف منه. فالخصاء فعل فظيع، سواء كعقاب أو كثمن للحب. ومن بين عاملين يكبتان كراهية الأب، يمكن تسمية العامل الأول، أي الخوف المباشر من العقاب والخصاء، بالعامل العادي السويّ. ويبدو أن تكثيف حدّته المرضيّة لا يأتي إلا عند إضافة العامل الثاني، أي الخوف من الموقف الأنثوي.
وهكذا، يصبح التصرف الفطري القوي ثنائي الجنس أحد الشروط المسبقة أو المعززة للعصاب. وعلينا بالتأكيد افتراض مثل هذا التصرف ثنائي الجنس عند دوستويفسكي، ويظهر بشكل قوي قابل للتطبيق (كمثلية جنسية كامنة) في الدور المهم الذي تلعبه الصداقات الذكورية في حياته، وفي سلوكه المتميز برقة غريبة لافتة للنظر تجاه منافسيه في الحب وفي فهمه الملحوظ للمواقف التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال المثلية الجنسية المكبوتة، كما تظهر العديد من الأمثلة من رواياته.
أشعر بالأسف هنا وفي هذه اللحظة لعدم قدرتي على تغيير الحقائق التي ستجعل من القارئ غير المعتاد على موضوعات التحليل النفسي ينظر إليها كمواقف بغيضة تفتقر إلى الحد الأدنى من الذوق العام والمصداقية بآن معاً؛ بسبب هذا الاستعراض للمشاعر المتضادة (الحب والكراهية) تجاه الأب وتحولاتها تحت تأثير التهديد بالخصاء.
وطالما الأمر كذلك، فسوف أتوقع أن تثير هذه العقدة castration complex نفوراً عاماً ورفضاً أكثر. لكن لا يسعني إلا الإصرار على أن تجربة التحليل النفسي قد وضعت هذه الأمور في سكة تحدٍ بعيداً عن الشكوك، كما علمتنا التجربة القدرة على إدراك مفتاح جميع أنواع حالات الاضطراب العصابي، ومن هنا ينبغي علينا تطبيقه على ما يسمى بالصرع لكاتبنا. لذا، فالأشياء الغريبة عن وعينا ستكون بلا شك هي الأشياء التي تتحكم بحياتنا النفسية اللاواعية!

لكن ما قيل حتى الآن لا يستنفذ عواقب كبت كراهية الأب في عقدة أوديب. وهناك شيء جديد يجب إضافته؛ فالتماهي مع الأب، رغم كل شيء، يجعله يحتل مكاناً ثابتاً في الأنا، ومع ذلك سوف يبقى كجزء منفصل، أو مستقل في الأنا، بمعنى ضمن المحتوى النفسي للذات وعلى عكس بقية محتوى الأنا [يعبر فرويد هنا عن فكرة تحول المحتوى النفسي حيث يدخل الفرد في ذاته، ولكنه يحتفظ بطابع مميز منفصل داخل بنيته الشخصية؛ وهو ما يسمح بتأطير جزء من التجارب أو الأحاسيس ضمن الذات بطريقة يحتفظ فيها بفرادة هويته دون الذوبان التام في بنية الشخصية العامة -المترجم].
ثم نعطيها اسم الأنا العليا super-ego وتكون وريثة التأثير الأبوي وننسب إليها أهم الوظائف. وإذا كان الأب صارماً وعنيفاً وقاسياً، فسوف تتولى الأنا العليا هذه الصفات منه، وعبر العلاقات بين الأنا والأنا العليا، تتم إعادة تأسيس وظهور السلبية التي كان من المفترض أن يتم كبتها. فتتحول الأنا العليا لتصبح سادية، وتتحول الأنا إلى المازوشية - أي في حالة سلبية وبطريقة أنثوية في أعماق الأنا.
وتتطور في الأنا حاجة شديدة للعقاب تقدم ذاتها كضحية للقدر من ناحية، وتشبع، من ناحية أخرى، رغبتها بسوء المعاملة من قبل الأنا العليا؛ من ناحية أخرى (أي بمعنى الشعور بالذنب). لأن كل عقاب هو، في نهاية المطاف، خصاء، وبالتالي إشباع وتحقيق للموقف السلبي القديم تجاه الأب بما يجعل حتى القدر، في النهاية، ليس سوى إسقاط لاحق للأب.
يجب أن تكون العمليات الطبيعية في تكوين الوعي مماثلة للعمليات غير الطبيعية الموصوفة هنا.
لم ننجح بعد في تعيين الحدود الفاصلة بينهما. لكننا سنلاحظ هنا عزو الجزء الأكبر من النتيجة أو الحل إلى المكون السلبي للأنوثة المكبوتة. وبالإضافة إلى هذا، يجب أن يكون ذلك ذا أهمية كعامل عرضي ما إذا كان الأب، الذي يخشاه بأي حال، عنيفاً في الواقع؛ وهذا الأمر كان صحيحاً في حالة دوستويفسكي، ويمكننا إرجاع حقيقة إحساسه الاستثنائي بالذنب وسلوكه المازوشي في الحياة إلى مكون أنثوي قوي على وجه الخصوص. وبالتالي، يمكن فهم صيغة المعادلة المتعلقة بدوستويفسكي كما يلي: شخص يتمتع بنزعة قوية ثنائية جنسية، وقدرة على الدفاع عن نفسه بدرجة كبيرة للاستقلالية عن أب شديد القسوة والصرامة.
وسوف تضاف خاصية الثنائية الجنسية هذه إلى مكونات طبيعته كنا قد تعرفنا عليها بالفعل. ويمكن، بالتالي، فهم الأعراض المبكرة من النوبات الشبيهة بالموت بصفتها تماهياً مع هوية الأب من جانب الأنا، وهو ما تسمح به الأنا العليا كنوع من العقاب.
"أردت قتل أبيك لتصبح أنت بنفسك أبيك.. ها أنت الآن أبيك؛ لكنك أبٌ ميتٌ".
هذه هي آلية الأعراض الهستيرية العادية. وأكثر من ذلك
"الآن أبوك يقتلك.. أنت من سيقتله أبوه الآن".
وتعتبر أعراض الموت، بالنسبة للأنا، إشباعاً في الخيال للرغبة الذكورية وإرضاء مازوشياً في ذات الوقت. أما بالنسبة للأنا العليا، فسوف تعتبر إشباعاً عقابياً - أي إشباع سادي. وكلاهما، الأنا والأنا العليا، يؤديان دور الأب.
خلاصة القول، تحولت العلاقة بين الشخص والأب بصفتها علاقة وجود، مع احتفاظها بمحتواها، إلى علاقة بين الأنا والأنا العليا؛ بمعنى إعداد جديد على مسرح جديد. وقد تختفي ردود الفعل الطفولية الأوديبية هذه ما لم يغذيها الواقع بمعطيات وعناصر جديدة. لكن شخصية الأب تبقي هي ذاتها كما هي، أو بالأحرى سوف تتدهور مع مرور الوقت وتقادم السنين، وبالتالي ستبقى كراهية دوستويفسكي لوالده ورغبته في موت ذلك الأب الشرير على حالها.
ولكن ما هو خطير هنا أن يحقق الواقع مثل هذه الرغبات المكبوتة.
لقد أصبح الخيال حقيقة واقعة، وبناء على ذلك يتم تعزيز جميع التدابير الدفاعية. وبالتالي ستتخذ نوبات دوستويفسكي الآن طابع الصرع؛ وما زالت، أي تلك النوبات، تظهر بلا شك تمثيلاً لوالده كأحد أشكال العقاب، لكنها صارت الآن مريعة، مثل موت والده المرعب نفسه. بيد أن ما يستعصي التكهن به هو المحتوى الإضافي الذي أضيف إلى هذه النوبات، لا سيما المحتوى الجنسي.
ثمة ما يستحق الانتباه هنا
يحدث أن يتم اختبار، وسط هالة نوبة الصرع تلك، مشاعر غبطة فائقة. ولعل هذا يعتبر تسجيلاً للانتصار والشعور بالتحرر الذي يشعر به المصاب بتلك النوبات لدى سماعه خبر موت الأب، ليتبعه على الفور عقاب أشد قسوة. لقد توقعنا مثل هذا التتابع من الانتصار ثم الشعور بالفجيعة، الانتقال بالمشاعر من الفرح الاحتفالي السار إلى مشاعر الأسى والحزن الشديدين. وهذا أمر كنا قد تطرقنا له في موضوع الإخوة في العشيرة البدائية الذين قتلوا أباهم، ونجده يتكرر في حفل الوجبة الطوطمية (6).
وإذا ما تأكد لنا أن دوستويفسكي لم يكن يعاني من نوبات صرع أثناء وجوده في سيبيريا، فإن هذا من شأنه إثبات فقط الرأي القائل بأن تلك النوبات هي شكل من أشكال العقاب، والسبب وراء هذا هو عدم الحاجة إليها عندما كان يعاقب بطريقة أخرى. لكن هذا لا يمكن إثباته. بل يفسر، على الأقل ضرورة العقاب من جانب اقتصاده العقلي، أي حقيقة تجاوزه الناجح لسنوات البؤس والإذلال هذه.
كان نفيه إلى سيبيريا كسجين سياسي حكماً ظالماً ولا بد من أنه كان يعرف ذلك، لكنه قبل العقوبة غير المستحقة على يد الأب الصغير، أي القيصر، كبديل عن العقوبة التي يستحقها على خطيئته ضد والده الحقيقي.
وبدلاً من معاقبة نفسه، جعلها تخضع للعقاب على يد بديل والده، ويعطينا هذا ملمحاً واضحاً عن التبرير النفسي للعقوبات التي يفرضها المجتمع. حيث يرغب الكثير من المجرمين في العقاب بسبب طلب الأنا العليا له، وبالتالي توفر هذه الأنا العليا على نفسها عقاب ذاتها بذاتها (7).
كل من هو على دراية بالتحول المعقد للمعنى الذي تمر به الأعراض الهستيرية سيدرك عدم قدرته على متابعة فهم معنى نوبات دوستويفسكي من هذه المقدمة (8). ويكفي الافتراض بعدم تغير معناها الأصلي رغم جميع التراكمات اللاحقة.
ويمكننا القول باطمئنان أن دوستويفسكي لم يتحرر قط من مشاعر الذنب الناجمة عن نيته قتل والده. كما حددت مشاعر الذنب موقفه في المجالين الآخرين اللذين تلعب فيهما علاقة الأب دوراً حاسماً، موقفه من سلطة الدولة ومن الإيمان بالرب. فانتهى به الأمر في المجال الأول إلى الخضوع الكامل لأبيه الصغير، أي القيصر، الذي كان قد أدى معه في الواقع كوميديا القتل التي غالباً ما مثلتها نوباته في هذه الأداء المسرحي.
ويكتسب القصاص والتكفير هنا اليد العليا. أما في المجال الديني فقد احتفظ بحرية أكثر؛ ووفقاً لتقارير جديرة بالثقة، بقي حتى آخر لحظات حياته ينوس بين الإيمان والإلحاد. لقد جعله عقله العظيم غير قادر على تجاهل أي من الصعوبات الفكرية التي يقود إليها الإيمان. وكان يأمل، عبر استعراض فردي لتطور في تاريخ العالم، إيجاد مخرج وتحرر من الشعور بالذنب في المثل الأعلى للمسيح، وحتى الاستفادة من آلامه كادعاء بأنه يلعب دوراً شبيها بدور المسيح. فإذا لم يحقق حريته، بشكل عام، وأصبح رجعياً، فذلك لأن الشعور بالذنب تجاه الأب، والموجود في البشر بشكل عام، والذي تستند إليه المشاعر الدينية، قد بلغ لديه درجة عالية من التكثيف الفردي، إلى حد جعله غير قادر على التغلب عليه رغم عظمة ذكائه.
وإذ نصوغ الموضوع بهذه الطريقة فسوف نتعرض لا شك إلى العديد من الانتقادات بتهمة التخلي عن الحيادية التحليلية وإخضاع دوستويفسكي لأحكام تقويمية لا يمكن تبريرها إلا من وجهة نظر متحيزة تتعلق بالنظرة إلى العالم Weltanschauung. وقد يأخذ الرأي المحافظ جانب كبير المحققين Grand Inquisitor ويحكم على دوستويفسكي بطريقة مختلفة، وتبدو هذه الاعتراضات لها وجاهتها؛ ولا يسعنا للتخفيف من وقع الأمر إلا القول إن قرار دوستويفسكي يظهر كما لو تم تعيينه بواسطة تثبيط ذهني ناتج عن اضطرابه العصابي.
وليس من قبيل الصدفة المحضة أن ثلاثة أعمال من روائع الأدب في كل العصور: "أوديب ملكاً" لسوفوكليس، و"هاملت" لشكسبير، و"الإخوة كارامازوف" لدوستويفسكي، قد تعاملت وعالجت الموضوع ذاته. أي قتل الأب parricide. وفوق هذا، تكشف هذه الأعمال الثلاثة عن الدافع وراء الفعل ألا وهو التنافس الجنسي للفوز بالمرأة.
كانت دراما سوفوكليس المستمدة من الأسطورة الإغريقية الاستعراض الأكثر وضوحاً من بين تلك الأعمال؛ حيث يقترف البطل نفسه الفعل الإجرامي؛ لكن المعالجة الشعرية مستحيلة دون تشذيب واقتضاب وتمويه. ويبدو أن الاعتراف الصريح بقصد ارتكاب جريمة قتل الأب، كما سنصل إليها في سياق التحليل، غير مقبولة دون إعداد تحليلي. حيث تقدم الدراما اليونانية، مع الاحتفاظ بوقائع الجريمة، التمويه أو التخفي الضروري ببراعة عبر إسقاط دافع البطل اللاواعي في الواقع على شكل إكراه قدري غريب عنه. فيرتكب البطل الفعل الإجرامي (قتل الأب) عن غير قصد ويبدو أنه غير خاضع ظاهرياً لتأثير المرأة؛ بيد أن هذا التأثير (دور المرأة) ينبغي وضعه في الاعتبار حالما يجد البطل نفسه في ظرف لا يمكّنه من امتلاك الملكة الأم إلا بعد تكرار فعله الإجرامي على الوحش الذي يرمز إلى الأب. وبعد أن يكتشف ذنبه ويعيه، نراه لا يحاول تبرئة نفسه، بل سيلجأ إلى حيلة مصطنعة لفكرة القدر. ولو كانت جريمته تدخل في إطار فعل كامل وواعٍ لكان سيعترف بها وبعقابه على هذا الأساس -وهو ما قد يظهر على نحو غير عادل لطرقنا التحليلية العقلية، وإن كان مبرراً وصحيحاً تماماً من الناحية النفسية.
أما في المسرحية الإنجليزية، يظهر الاستعراض بطريقة غير مباشرة أكثر. فليس البطل من يرتكب الجريمة؛ إنما شخص آخر لا يعتبر القتل بالنسبة له قتل للأب. الأمر الذي يجعل الدافع المحظور للتنافس الجنسي للمرأة لا يحتاج إلى التمويه أو التخفي. علاوة على ذلك، نرى انعكاس عقدة أوديب لدى البطل، من خلال معرفة تأثير الجريمة التي اقترفها الآخر عليه. يجب الانتقام لهذه الجريمة، لكنه يجد نفسه، عاجزاً، بصورة غريبة، عن القيام بذلك. نحن نعلم أن شعوره بالذنب هو الذي يعوقه، بطريقة متسقة تماماً مع العمليات العصابية، ويتم إزاحة شعور الذنب إلى تصور عدم كفايته لأداء مهمته. وهناك دلائل على أن البطل يشعر بالذنب بطريقة تتجاوز فرديته؛ فهو يحتقر الآخرين بطريقة لا تقل عن احتقاره لنفسه: "لأننا إن عاملنا غيرنا كما نعامل أنفسنا، فمن بوسعه تجنب القصاص".
أمّا الرواية الروسية فتقفز خطوة أبعد من ذلك، ولكن في ذات الاتجاه؛ فهناك أيضاً جريمة قتل يرتكبها شخص آخر. لكن هذا الآخر تربطه بالقتيل علاقة البنوة ذاتها التي تربط البطل ديمتري، كما يتم الاعتراف صراحةً، في هذه الحالة، بدافع التنافس الجنسي؛ إنه شقيق البطل، ومن الحقائق اللافتة للنظر أن دوستويفسكي نسب إليه مرضه، الصرع المزعوم، كما لو كان يسعى إلى الاعتراف بأن الجانب العصابي في الشخص الذي يعاني من الصرع هو من قتل الأب. ثم، مرة أخرى، في خطاب الدفاع في المحاكمة، بطرح تلك السخرية الشهيرة المرتبطة بعلم النفس: "مثل سيف ذي حدين" (9). وهذا في الحقيقة تمويه رائع، إذ لا يتطلب الأمر منا سوى عكسها لنكتشف مغزى رؤية دوستويفسكي العميقة للأشياء.
ليس علم النفس هو الذي يستحق السخرية، بل إجراءات التحقيق القضائي. وبالتالي ليس مهماً معرفة من ارتكب الجريمة فعلاً؛ فعلم النفس يهتم فقط بمعرفة من أرادها عاطفياً ومن رحب بها عندما وقعت (10).
ولهذا السبب، يمكن افتراض أن جميع الإخوة مذنبون بذات الدرجة والقدر، باستثناء شخصية أليوشا المتناقضة. فهو يظهر شهوانياً وحسياً ومندفعاً وساخراً ومتشككاً ومجرماً مصاباً بالصرع. وهناك مشهد خاص مفتوح وكاشف للغاية في رواية "الإخوة كارامازوف" يعبر عن الكاتب؛ حين يدرك الأب زوسيما، في سياق حديثه مع ديمتري، أن هذا الأخير لديه استعداد لقتل أبيه، فيجثو على الأرض ويخر ساجداً عند قدميه.
ولما كان من المستحيل النظر إلى هذه الحركة كنوع من التعبير عن الإعجاب بموقف ديمتري؛ فلا بد أن القصد منها الإشارة إلى رفض الأب زوسيما تجربة احتقار أو بغض القاتل؛ ولهذا السبب نراه يتذلل ويتواضع أمامه. وفي الواقع يظهر تعاطف دوستويفسكي مع المجرم بلا حدود، ويتجاوز الشفقة التي يستحقها البائس التعيس ويذكرنا بـ "الرهبة المقدسة" التي كانت تحيط بالمجانين والمصابين بالصرع في العصور السابقة. فالمجرم بالنسبة له يكاد يكون فادياً، أخذ على عاتقه ذنب هو في الأصل من نصيب غيره كان عليهم تحمله.
لم تعد هناك حاجة لأحد أن يقتل، لأنه قتل بالفعل. ويجب أن نكون ممتنين له، لأنه لولاه، لكنا سنضطر نحن للقتل بأنفسنا.
هذه ليس مجرد شفقة طيبة، بل تمييز على أساس دوافع قاتلة مماثلة -في الواقع، هي نرجسية منزاحة displaced قليلاً. (نحن لا نشك، بقولنا هذا، في القيمة الأخلاقية لهذه اللطافة). ربما تكون هذه بشكل عام آلية التعاطف اللطيف مع الآخرين، وهي آلية يمكننا تمييزها بسهولة خاصة في هذه الحالة المتطرفة لروائي مثقل بشعور الذنب. إذ ليس هناك شك في أن هذا التعاطف عن طريق هذا التمثل للهُوية كان عاملاً حاسماً في تحديد اختيار دوستويفسكي لمادة روايته وأبطاله. فهو تعامل أولاً مع المجرم العادي (الذي قد تكون دوافعه ذات منفعة ذاتية وأنانية) وتعامل مع المجرم صاحب الدوافع السياسية والدينية. ولم يعد حتى نهاية حياته إلى المجرم الأصلي، قاتل الأب، واستخدمه، في عمل فني، لتقديم اعترافه والتصريح بذنبه.
إن نشر أوراق دوستويفسكي بعد وفاته ونشر مذكرات زوجته ألقى ضوءً ساطعاً على مرحلة مهمة في حياته، وهي الفترة التي قضاها في ألمانيا عندما كان يسيطر عليه هوس القمار (راجع 1925 Fiilop-Miller and Eckstein)، وهو هوس لا يمكن لأحد النظر إليه إلا بوصفه نوبة اندفاع عاطفي واضحة وسقيمة. لم يكن هناك نقص في تبريرات سلوكه الرديء وغير اللائق. وكما يحدث في كثير من الأحيان مع العصابيين، اتخذ شعور دوستويفسكي بالذنب شكلاً ملموساً على هيئة عبء الديون، وكان قادراً على اللجوء وراء ذريعة أنه كان يحاول من خلال مكاسبه على طاولات القمار تمكينه من العودة إلى روسيا دون أن يقع في قبضة دائنيه. لكن هذا لم يكن أكثر من ذريعة وكان دوستويفسكي حاد البصيرة وصادق بما يكفي للاعتراف بالحقيقة. كان يعلم أن الشيء الرئيس هو القمار بذاته؛ اللعب من أجل اللعب le jeu pour le jeu (11).
تظهر جميع تفاصيل سلوكه اللاعقلاني المندفع هذا الجانب، بل وأكثر من ذلك أيضاً.
لم يكن يهدأ قط حتى يخسر كل شيء. كان القمار، بالنسبة له وسيلة أخرى لمعاقبة الذات أيضاً. ومرة تلو الأخرى كان يقطع وعوداً لزوجته الشابة أو يعهدها بكلمة شرف بالابتعاد عن اللعب من جديد؛ أو عدم اللعب أكثر في ذلك اليوم بالذات. بيد أنه، وكما تقول الزوجة، كان دائماً ما يخالف وعوده تقريباً. وعندما كانت تصل خسائره إلى أشد حالات الاحتياج بشاعةً، كان يستمد منها الإشباع المرَضي ثانيةً. ثم كان بمقدوره توجيه اللوم إلى نفسه وتوبيخها وإذلالها أمامها، ويدعوها إلى احتقاره والشعور بالأسف لأنها تزوجت عجوز خاطئاً مثله. وعندما يقوم بإفراغ ما يثقل ضميره، يعود الأمر في اليوم التالي من جديد كما كان آخر مرة. واعتادت زوجته الشابة على هذه السلسلة، لأنها لاحظت أن الشيء الوحيد الذي يمثل أملاً حقيقياً في الخلاص -أي إنتاجه الأدبي- لم يكن له الاستمرار بطريقة مثلى إلا عندما خسرا كل شيء ورهنا آخر ما يملكان.
بطبيعة الحال لم تفهم سر هذه الصلة. فعندما كان يشبع إحساسه بالذنب بالعقوبات التي يفرضها على نفسه، تصبح مثبطات عمله أقل حدة فيسمح لنفسه بالتقدم خطوات على طريق النجاح (12).
أي جزء من طفولة المقامر المدفونة بعمق هو الذي يعيد تكرار نفسه في هوسه باللعب؟
يمكن بسهولة تخمين الإجابة من خلال قصة كتبها شتيفان تسفايغ؛ أحد كتابنا الشباب الذي كرس بالمناسبة دراسة عن دوستويفسكي نفسه (1920)، عندما عمد إلى تضمين قصة أطلق عليها "Vierundzwanzig Stunden aus dem Leben einer Frau" [أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة] ضمن مجموعته المكونة من ثلاث قصص Die Verwirrung der Gefiihle [ارتباك المشاعر] (1927).
تنطلق تحفة تسفايغ الصغيرة بالأساس من فكرة إظهار مدى عدم المسؤولية التي يمكن أن تكون عليها امرأة، وإلى أي مدى يمكن أن تدفعها تجربة غير متوقعة إلى التصرف بغرابة حتى بالنسبة لها نفسها. لكن القصة تحكي أكثر من ذلك بكثير إذا ما تم إخضاعها لمعطيات التفسير التحليلي، حيث سنجد أنها تمثل (دون أي نية اعتذارية أو تبريرية) شيئاً مختلفاً تماماً، أو شيئاً إنسانياً عاماً، أو بالأحرى شيئ ذكوري. ومثل هذا التفسير واضحاً للغاية بحيث لا يمكن مقاومته. ومن خصائص طبيعة الإبداع الفني أن المؤلف، وهو صديق شخصي لي، استطاع التأكيد لي، عندما سألته، أن التفسير الذي طرحته عليه كان غريباً تماماً على معرفته وقصده، رغم ظهور بعض التفاصيل المنسوجة في السرد كما لو أنها مصممة صراحة لإعطاء فكرة عن السر الخفي.
تدور القصة حول سيدة مسنة متميزة تتحدث إلى المؤلف عن تجربة مرت بها قبل أكثر من عشرين عاماً. لقد أصبحت أرملة في سن مبكرة من عمرها وهي أم لولدين لم يعودا بحاجة إليها. وفي عامها الثاني والأربعين وفي إحدى رحلاتها التي كانت دون هدف لزيارة صالات القمار في مونت كارلو، تصادف هناك، حيث لم تكن تتوقع شيئاً آخراً من الحياة، من بين جميع الانطباعات الرائعة التي ينتجها المكان، أن تعجب لدرجة الافتتان بيدين ماهرتين في اللعب بدت لها وكأنها تخونان جميع مشاعر المقامر سيء الحظ. صاحب تلك اليدين كان شاباً وسيماً - يجعله المؤلف، كما لو كان من غير قصد بعمر الابن الأكبر للسيدة التي تروي قصتها- بدا الشاب كأنه غارق في قعر بئر من اليأس وكان الشاب يهم بمغادرة الصالة بعد أن فقد كل شي. كان واضحاً من هيئته أنه يغادر بقصد مبيت لوضع حد لحياته اليائسة في حدائق الكازينو.
تتبعه المرأة وقد تملكها شعور قهري لا يمكن تفسيره بالتعاطف معه وبذل كل ما يوسعها من جهد ممكن لإنقاذه؛ لكنه ينظر لها كواحدة من أولئك النساء المزعجات اللواتي يكثر وجودهن هناك؛ فيحاول التخلص منها. لكنها تبقى معه وتجد نفسها مضطرة، بأكثر الطرق الطبيعية الممكنة، للذهاب معه إلى غرفته في الفندق؛ ثم مشاركته سريره.
بعد ليلة الحب المرتجلة تلك التي أتت دون ترتيب أو قصد، تفرض على الشاب، الذي هدأ الآن على ما يبدو، وعداً وعهداً بأنه لن يقامر مرة أخرى، وتعطيه المال اللازم لعودته إل بلده؛ وتعد بمقابلته في المحطة قبل مغادرة قطاره.
بعد هذا، بدأت السيدة تشعر -الآن- بتعاطف وحنان كبيرين تجاهه، وبدت مستعدة للتضحية بكل ما لديها من أجل الاحتفاظ به وتقرر الذهاب معه بدلاً من وداعه؛ ولكن يقف في طريقها العديد من العقبات تؤخرها عن اللحاق به في المحطة وتفوّت موعد القطار. وبسبب حالة الشوق نحو الفتى الضائع منها التي بدأت تعيشها عادت من جديد إلى الصالة القمار التي كانت قد التقت به فيها، وهناك، ويا لهول المفاجأة، رأت من جديد تلكما اليدين الماهرتين اللتين أثارتا تعاطفها لأول مرة. فقد عاد الشباب غير المؤمن إلى لعبته، فاقتربت منه وذكرته بوعده، لكنه بدا مهووساً بشغفه باللعب، فوصفها بأنها "مفسدة للمرح"، وطلب منها الابتعاد عنه، وسوف يعيد لها مالها -التي حاولت أن تنقذه به- حالما يربح، فتتركه وتبتعد وبداخلها مشاعر إذلال عميقة لتعلم لاحقاً أن الشاب قد انتحر؛ وأنها لم تفلح في محاولتها لإنقاذه.
تبدو القصة التي يتم سردها ببراعة، والتي لا تشوبها شائبة، كاملة في حد ذاتها ومن المؤكد أنها ستحدث تأثيراً عميقاً على القارئ.
لكن التحليل يبين لنا أن ابتكار الكاتب يعتمد أساساً على خيال رغبوي ينتمي إلى فترة البلوغ، التي يستذكرها الكثير بوعي ووضوح. حيث يجسد الخيال رغبة الصبي في أن تدفعه أمه بنفسها إلى الحياة الجنسية بإنقاذه من الضرر المخيف الذي تسببه العادة السرية. (تتشابه في الأصل الأعمال الإبداعية العديدة التي تتناول موضوع الخلاص) ويتم استبدال "رذيلة" الاستمناء بالإدمان على القمار (13). والتركيز على نشاط اليدين العاطفي ينم هنا عن هذا الاشتقاق. في الواقع، شغف اللعب هو ما يعادل الإكراه القديم على الاستمناء. كلمة "اللعب" هي الكلمة الفعلية المستخدمة في الحضانة لوصف نشاط اليدين أثناء مرورها على الأعضاء التناسلية.
إن الطبيعة التي لا تقاوم للإغراء، والقرارات الجليلة، التي يتم الحنث بها دائماً، وعدم القيام بذلك مرة أخرى، والمتعة المذهلة والضمير السيئ الذي يخبر الشخص أنه يدمر نفسه (ينتحر) -جميع هذه العناصر تبقى دون تغيير في عملية الاستبدال.
صحيح أن قصة تسفايغ ترويها الأم وليس الابن. ويجب أن تشكل هذه الفكرة فخراً للابن الذي يعتقد: "إذا كانت والدتي تعرف فقط ما هي المخاطر التي تنطوي عليها العادة السرية بالنسبة لي، فإنها بالتأكيد ستنقذني منها بالسماح لي بإغداق كل حناني على جسدها".
ترتبط معادلة الأم مع العاهرة التي صنعها الشاب في القصة، إلى الخيال ذاته. فالمرأة غير المتاحة والتي لا يمكن الوصول إليها، يجعلها الخيال في متناول اليد.
الضمير السيئ الذي يصاحب الخيال يؤدي إلى النهاية التعيسة للقصة.
ومن المثير للاهتمام أيضاً ملاحظة كيف تسعى الواجهة التي قدمها مؤلفها للقصة إلى إخفاء معناها التحليلي. لأنه من الصعب للغاية أن تهيمن الحياة الجنسية للنساء على هذا النحو بواسطة دوافع مفاجئة وغامضة. وعلى العكس من ذلك، يكشف التحليل عن دافعٍ كافٍ للسلوك المفاجئ لهذه المرأة التي كانت تتجنب الحب حتى الآن، فهي سيدة وفية لذكرى زوجها المتوفى، وقد حصنت نفسها ضد جميع عوامل الجذب المماثلة. ولكن -وهنا يكون خيال الابن على حق- لم تفلت، كأم، من نقل حبها اللاواعي تجاه ابنها تماماً، وسوف يقبض عليها القدر في هذه المنطقة غير المحمية.
إذا كان الإدمان على القمار، مع المحاولات الفاشلة للتخلص منه والفرص التي تتيحها لعقاب الذات، هو تكرار للإكراه على الاستمناء، فلن نتفاجأ عندما نجد أنه احتل مثل هذه المساحة الكبيرة في حياة دوستويفسكي.
فبعد كل شيء، لا نجد أي حالة من حالات من العصاب الشديد لم يلعب فيها الرضا الجنسي التلقائي للطفولة المبكرة والبلوغ دوراً. والعلاقة بين الجهود المبذولة لقمعها والخوف من الأب معروفة جيداً بحيث لا تحتاج إلى أكثر من الإشارة إليها (14).
.....
ملحق رسالة من فرويد إلى ثيودور ريك
[بعد بضعة أشهر من نشر مقال فرويد عن دوستويفسكي، ناقش الموضوع ثيودور ريك في مجلة Imago (في العدد الثاني 1929- 15، 232-242). ورغم أن تعليقات ريك كانت تقديرية بشكل عام، إلا أنه جادل بإسهاب قسوة موقف فرويد الشديدة غير المبررة من أخلاق دوستويفسكي؛ واختلف أيضاً معه بخصوص ما ورد في الفقرة الثالثة من المقال عن الأخلاق. كما انتقد، بالمناسبة، شكل المقال، لا سيما نهايته التي تبدو كأنها منفصلة عن بقية المقال.
وأرسل فرويد رسالة إلى ريك يرد فيها على انتقاداته تلك بعد أن اطلع عليها (1). قام ريك بإصدار مقالته، بعد ذلك بوقت قصير في كتاب من الأوراق المجمعة (1930)، ووافق فرويد على تضمين رسالته فيه. نشرت ترجمة إنكليزية للنقد والرد في كتاب ريك "من ثلاثين عاماً مع فرويد"From Thirty Years with Freud (New York, 1940 and London, 1942). وبإذن من الدكتور تيودور ريك، ننشر رسالة فرويد في ترجمة منقحة]
14 نيسان 1929
... لقد قرأت مراجعتك النقدية لدراستي عن دوستويفسكي بسرور كبير. وتستحق جميع الاعتراضات الواردة النظر والإقرار واعتبارها مناسبة إلى حد ما، بطريقة لا تستوجب مني الكثير للدفاع عنها؛ لكن المسألة ليست من هو على صواب أو من هو على خطأ بطبيعة الحال (1). وأعتقد أنك تطبق معياراً عالياً جداً على هذه الجزئية التافهة.
لقد كتبت المقالة، على مضض، كنوع من خدمة لشخص ما (2). غالباً ما أكتب على مضض في الوقت الحالي، ولا شك إنك لاحظت ذلك. غير أن هذا لا يعني، بالطبع، تبرير الأحكام المتسرعة أو الخاطئة، بل تأمل معمار الإهمال الكلي للمقال برمته. ولا يمكنني السجال في التأثير المضطرب الناتج عن إضافة تحليل تسفايغ. لكن بعض المبررات قد تظهر لو قمنا بفحص أعمق. إذا لم تكن قد أعاقتني اعتبارات المكان الذي ستظهر فيه مقالتي، لكان عليّ بالتأكيد أن أكتب: "قد نتوقع أنه في تاريخ العصاب المصحوب بمثل هذا الشعور الشديد بالذنب، سيتم لعب دور خاص من خلال النضال ضد الاستمناء. يتم تحقيق هذا التوقع تماماً من خلال إدمان دوستويفسكي المرضي على القمار. لأنه، كما نرى من قصة تسفايغ القصيرة... وهذا يعني أن مقدار المساحة المعطاة للقصة القصيرة لا يتوافق مع العلاقة: تسفايغ – دوستويفسكي؛ ولكن مع العلاقة الأخرى: الاستمناء - العصاب. ومع ذلك، كانت النتيجة غير موفقة.
ما زلت شديد التمسك بعرض تقويم اجتماعي موضوعي علمي للأخلاق، ولهذا السبب لا أود حرمان الشخصية السطحية المحدودة Philistine الممتازة من شهادة السلوك الأخلاقي الجيد، على الرغم من أنها كلفتها القليل من الانضباط الذاتي (3). ولكن إلى جانب ذلك، أمنح صحة النظرة النفسية الذاتية للأخلاق التي تدعمها. ورغم اتفاقي مع حكمك على العالم والبشرية كما هي اليوم، لا يمكنني، كما تعلم، اعتبار رفضك المتشائم لمستقبل أفضل أمراً مبرراً.
وكما تقترح، قمت بتضمين دوستويفسكي العالم النفسي في عباءة دوستويفسكي الفنان المبدع. وثمة اعتراض آخر ربما كنت قد أثرته ضده هو أن رؤيته اقتصرت إلى حد كبير على الحياة العقلية غير الطبيعية.
تأمل عجزه المذهل في مواجهة ظواهر المحبة. كل ما كان يعرفه حقاً هو الرغبة الفجة والغريزية والخضوع المازوشي والمحبة بدافع الشفقة.
أنت محق أيضاً في الشك بأنني لا أحبه حقاً رغم إعجابي الشديد بقوته وتفوقه؛ ذلك لأن التحليل قد استنفذ صبري على الطبيعة المرضية. فأنا لست متسامحاً في مسائل الفن والحياة. هذه سمات شخصية بالنسبة لي وليست ملزمة للآخرين.
أين ستنشر مقالتك (4)؟ لقد قوّمتها بدرجة عالية جداً. فقط مادة البحث العلمي هي التي يجب أن تكون بلا افتراضات. أما بقية البحوث الأخرى فلا يمكن تجنب اختيار وجهة نظر ما. وهناك، بالطبع، العديد منها.
.....
هوامش المترجم
* تتكرر philistine كثيراً هنا؛ وتدل في اللغة الإنكليزية على الشخص السطحي الذي لا يبدي اهتماماً للفنون والأدب، أو يبدي اهتماماً محدوداً؛ ويتميز بشغفه بالراحة الآنية المادية دون اهتمام أو تعمق بالأمور الثقافية أو الروحية. وحسب سياقات استخدامها في المقال فهي تشير إلى هذا المعنى بالضبط، وتقدم انطباع سلبي ومنحاز، علماً أن الكلمة بالأساس تشير إلى مجموعة بشرية سكنت فلسطين في العصور القديمة -كما يزعم علماء الآثار- وحروبهم مع بني إسرءيل، حسب السرديات الكتابية، ولعل هذه الجزئية الأخيرة هي المسؤولة عن تقديم المعنى المجازي في اللغات الأوروبية لكلمة Philistine
** هيرمان هيلمهولتز (Hermann von Helmholtz)، فيزيائي وطبيب ألماني من أبرز علماء القرن التاسع عشر. برع في عدة مجالات من العلوم، مثل الفيزياء والأعصاب والبصريات. له إسهامات مهمة في فيزيولوجيا الإدراك وعلم النفس ونظريته الشهيرة لمبدأ حفظ الطاقة والأسس الميكانيكية للديناميكيا الحرارية، وقام بأعمال تجريبية لقياس سرعة انتقال الإشارات العصبية مستخدماً الخصائص التشريحية للعصب الوركي عند الضفدع، ومن السياق الذي يتحدث به فرويد عنه يظهر كأنه كان يعاني من مشاكل صحية ربما أثرت على أدائه العلمي، ولكن هذا لم يمنعه من تحقيقي إنجازاته المعروفة.
....
هوامش المصدر
1.انظر مناقشة هذا في Fiilop-Miller and Eckstein (1926). كتب شتيفان تسفايغ (1920): "لم تتوقف حواجز الأخلاق البرجوازية. ولا يمكن لأحد القول بالضبط إلى أي مدى تجاوز حدود القانون في حياته الخاصة أو كم من الغرائز الإجرامية لأبطاله تحققت في نفسه. للاطلاع على العلاقة الحميمة بين شخصيات دوستويفسكي وتجاربه الخاصة، انظر ملاحظات رينيه فيلوب-ميلر في القسم التمهيدي من Fiilop-Miller and Eckstein (1925)، والتي تستند إلى N. Strakhov [1921]. [يظهر موضوع الاعتداء الجنسي على فتاة غير ناضجة عدة مرات في كتابات دوستويفسكي -خاصة في اعتراف ستافروجين Stavrogin’s Confession بعد وفاته وحياة الخاطئ العظيم The Life of a Great Sinner]
2. [راجع مقالة فرويد السابقة عن النوبات الهستيرية 9, 234 (1909 * 2)، Standard Ed.]
3. انظر Rene Fiilop-Miller (1924). [راجع أيضاً رواية إيمي دوستويفسكي Aimee Dostoevsky (1921) في حياتها مع والدها.] من الأمور ذات الأهمية الخاصة المعلومات التي تفيد بأنه في طفولة الروائي "حدث شيء فظيع لا ينسى ومؤلم"، والتي تتبع العلامات الأولى لمرضه (من مقال كتبه سوفورين في صحيفة Novoe Vremya, 1881، مقتبس في مقدمة xlv Fiilop-Miller and Eckstein (1925)، وانظر أيضاً Orest Miller (1921,140): "ومع ذلك، هناك دليل خاص آخر حول مرض فيودور ميخائيلوفيتش، والذي يتعلق بشبابه المبكر ويجعل المرض مرتبطاً بحدث مأساوي في الحياة الأسرية لوالديه. ولكن رغم تقديم هذا الدليل لي شفهياً من شخص كان صديقاً مقرباً لفيودور ميخائيلوفيتش، إلا أنني لا أستطيع حمل نفسي على إعادة إنتاجه بشكل كامل ودقيق لأنني لم أحصل على تأكيد لهذه الإشاعة من أي جهة أخرى. لا يمكن لكتاب السيرة الذاتية والعاملين في مجال البحث العلمي الشعور بالامتنان لهذا التقدير.
4. تؤكد معظم الروايات، بما في ذلك رواية دوستويفسكي، على العكس من ذلك أن المرض لم يتخذ طابعه الأخير، أي الصرع، إلا خلال المنفى السيبيري. لسوء الحظ، هناك سبب لعدم الثقة في بيانات السيرة الذاتية للعصابيين. حيث تظهر التجربة أن ذكرياتهم تقدم تلفيقات مصممة لقطع الروابط السببية البغيضة. ومع ذلك، يبدو من المؤكد أن احتجاز دوستويفسكي في سجن سيبيريا قد غير بشكل ملحوظ حالته المرضية. راجع Fiilop-Miller (1924, 1186).
5. [قدم فرويد التفسير بالفعل في رسالة إلى فليس بتاريخ 8 -11- 1897 (Freud, 1950*2, Fetter 58).]
6. انظر Totem and Taboo [1912-13)، Section 5 of Essay IV, Standard Ed., 13,140].
7. [راجع ‘Criminals from a Sense of Guilt’، the third essay in Freud’s ‘Some Character-Types Met with in Psycho-Analytic Work’ (1916d), Standard Ed., 14, 332.-1
8. أفضل وصف لمعنى ومحتوى نوباته قدمه دوستويفسكي نفسه، عندما أخبر صديقه ستراخوف أن تهيجه واكتئابه بعد نوبة صرع يرجع إلى حقيقة أنه بدا لنفسه مجرم ولم يستطع التخلص من الشعور بتحمله عبء ذنب غير معروف بأنه ارتكب بعض الآثام العظيمة التي اضطهدته. (Fiilop-Miller, 1924,1188.) يرى التحليل النفسي في مثل هذه الاتهامات الذاتية علامات على الاعتراف بـ "الواقع النفسي"، ويسعى لجعل الذنب المجهول معروفاً للوعي.
9. [التشبيه في الألمانية (كما في الأصل الروسي): "عصا ذات طرفين". وتعبير "السكين الذي يقطع كلا الاتجاهين" مشتق من الترجمة الإنجليزية لكونستانس غارنيت. وردت العبارة في القسم 12، الفصل 10، من الرواية.].
ملاحظة المترجم اخترنا في العربية القول "سيف ذو حدين" لتؤدي المعنى المقصود. ولعل قصد فرويد هنا إمكانية فهم الوضعين بطرق مختلفة. لذا، عندما يطلب منا "عكسها" لنكتشف المعنى الحقيقي، فهو يريدنا أن ننظر إلى الوضع من زاوية مختلفة لنحصل على تفسير أعمق. بمعنى أن نعكس الفكرة عن طريق التفكير في فهم الطريقة التي يمكن لعلم النفس أن يكون "سكيناً تقطع في كلا الاتجاهين" بشكل إيجابي أو سلبي. ويمكن النظر إلى الدور الإيجابي لفهم السلوك البشري وتحسين الحالة النفسية، وفي الوقت ذاته، تبين الجوانب السلبية انتقادات الاستخدام السيء له أو القضايا الأخلاقية. فالهدف هو النظر للأمور من زوايا مختلفة لنصل إلى فهم أعمق للموضوع. لكن فرويد يشير بهذا المجاز بتوجه ساخر من علم النفس في خطاب الدفاع في المحكمة، ويصف هذا التوجيه بأنه "سكين تقطع في كلا الاتجاهين". أي أن السخرية لا تتعلق بعلم النفس بقدر ما تتعلق بإجراءات التحقيق القضائي لو أردنا عكس هذا التوجيه لكشف المعنى الحقيقي.
10. [يمكن العثور على تطبيق عملي لهذا على قضية جنائية فعلية في تعليقات فرويد على قضية هالسمان Halsmann Case (1931*5/)، p. 251 أدناه، حيث تمت مناقشة الأخوة كارامازوف مرة أخرى.]
ملاحظة المترجم: تتناول قضية هالسمان اتهام فيليب هالسمان بقتل والده الطبيب مردوخ هالسمان في العام 1928، والحُكم عليه بالسجن بعد محاكمة مثيرة للجدل تفاعلت معها الأوساط المحلية في النمسا ورافقها مشاعر عداء لليهود في ذلك الوقت. حُكم على فيليب هالسمان بالسجن لمدة عشر سنوات، وتم الطعن في الحكم (كانت عدة شهادات قد أتت من أشخاص مرتبطين بحركة هيمفير Heimwehr، ذات النشاط النازي المبكر). ولاقت المحاكمة تعاطفاً عالمياً مع فيليب هالسمان مما أدى إلى إعادة محاكمته وتخفيض الحكم إلى أربع سنوات، مع الإشارة إلى أن إدانته ارتبط أساساً بانتشار العداء للسامية، مما أكسب القضية بعداً عالمياً ونالت تأييد العديد من الشخصيات المشهورة آنذاك مثل سيغموند فرويد وألبرت أينشتاين وتوماس مان الذين دفعوا ببراءته. وفي سياق المقالة هنا، أكدت آراء فرويد حول عقدة أوديب، التي قدمها الخبراء الذين شهدوا في المحاكمة كدافع لسلوك هالسمان، أنها في الواقع مفهوم نفسي يُعتقد أنه يحدث عند الأطفال وهو عبارة عن رغبة غير شعورية عند الطفل بقتل والده والارتباط بوالدته، وتعد ظاهرة تتمثل في العديد من الثقافات والمجتمعات، وأشار فرويد بعدم وجوب استخدامها كدليل أو دافع للإدانة في القضية، لأنها لا تثبت بشكل كافٍ أو قاطع الجانب النفسي الخاص بالجاني.
11. يكتب في إحدى رسائله: "الشيء الرئيسي هو اللعب بحد ذاته؛ أقسم أن الطمع في المال لا علاقة له باللعب، رغم علم الجميع حاجتي الماسّة للمال".
12. لقد ظل دائماً على طاولات الألعاب حتى فقد كل شيء ودُمر تماماً. فقط عندما اكتمل الضرر تماماً، تقاعد الشيطان أخيراً من روحه وأفسح المجال للعبقرية الإبداعية (Fiilop-Miller and Eckstein, 1925, lxxxvi.)
13. [اقترح فرويد في رسالة إلى فليس (22 كانون الأول 1897) أن الاستمناء masturbation هو "الإدمان البدائي"، وتكون جميع الأنواع الأخرى اللاحقة مجرد بدائل له (Freud, 1950*2, Letter 79)]
14. معظم الآراء التي تم التعبير عنها هنا واردة أيضا في كتاب ممتاز لـ Jolan Neufeld (1923).
....
مصادر ملحق الرسالة
1.[انظر الحاشية 4 أدناه.]
2.[لا شك أن إيتنغون Eitingon هو الذي ضغط باستمرار على فرويد لإنهاء المقال (Jones, 1957, 152).]
3 [كتب ريك: "كان التخلي في يوم من الأيام معياراً للأخلاق؛ لكنه بات اليوم واحد من خيارات عدة. فإذا كان هو الخيار الوحيد، فإن المواطن الممتاز والسطحي والمحدود Philistine، الذي، بحساسيته الباهتة، يخضع للسلطات والذي يصبح التخلي عنه أسهل بكثير بسبب افتقاره إلى الخيال، سيكون أعلى بكثير من دوستويفسكي في الأخلاق.
4.[يظهر هذا كما لو أن ريك عرض مقالته على فرويد قبل نشرها في Imago، رغم احتمال وجود شيء ما يدور في ذهن فرويد مثل إعادة الطبع].



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الطوفان وأشياء أخرى (22)
- مختبر فلسطين: تسويق وتصدير تقنيات الاحتلال
- الطوفان وأشياء أخر (21)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (20)
- علم الآثار الكتابي في إسرائيل: حين يغمّس -إسرائيل فنكلشتين- ...
- عن الطوفان وأشياء أخرى (19)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (18)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (17)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (16)
- (إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل ...
- عن الطوفان وأشياء أخرى( 15)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (14)
- عن الطوفان واشياء أخرى (12)
- عن الطوفان واشياء أخرى (13)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (11)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (10)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (9)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (8)
- عن الطوفان وأشياء أخرى(7)
- عن الطوفان وأشياء أخرى(6)


المزيد.....




- بصورة تنُشر لأول مرة ورسالة مؤثرة.. الأمير ويليام يشيد بالأم ...
- لبنان.. إليسا ونانسي وراغب أول المهنئين لـ -فخامة الرئيس-
- حريق يستعر في هوليوود وأوامر بإخلاء إلزامي.. حرائق لوس أنجلو ...
- المعطيات الأخيرة عن حرائق الغابات في لوس أنجلس الأمريكية
- تعهد بـ-منع التآمر- على الأنظمة العربية.. أول كلمة لجوزاف عو ...
- جوزاف عون.. نظرة على سيرة الرئيس الرابع عشر للجمهورية في لبن ...
- تقرير أمريكي عن خسارة إيرانية -ثقيلة- وضربة -قاصمة- لطهران ف ...
- هاربين تُدهش العالم بمسابقة النحت على الجليد: لوحات بيضاء سا ...
- زاخاروفا ساخرة: متى سيعرض زيلينسكي مساعدته في إطفاء حرائق كا ...
- -نتنياهو عرض إسرائيل للخطر-.. أسلحة بالجيش المصري تثير قلق ت ...


المزيد.....

- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الصباغ - قتل الأب عند دوستويفسكي