أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أشرف حسن منصور - بروليتاريا المكاتب : رايت ميلز والطبقة الوسطى الأمريكية















المزيد.....



بروليتاريا المكاتب : رايت ميلز والطبقة الوسطى الأمريكية


أشرف حسن منصور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية


الحوار المتمدن-العدد: 1791 - 2007 / 1 / 10 - 11:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة:

يعد عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز رايت ميلز Charles Wright Mills من أعلام اليسار الجديد في أمريكا في منتصف القرن العشرين، و له العديد من المؤلفات في نقد المجتمع و السياسة و بناء القوة في أمريكا، و منها: ذوو الياقات البيضاء: الطبقات الوسطى الأمريكية White Collar: The American Middle Classes (1951) ( ) ، و صفوة القوة The Power Elite (1956) ( ) ، و الخيال السوسيولوجي The Sociological Imagination (1959)( ) ، و الماركسيون The Marxists (1960).

توضح لنا سوسيولوجيا رايت ميلز كيف يتم التعامل مع النظريات السياسية الليبرالية و الديمقراطية بمنظور نقدي لا يكتفي بالاقتصار على الفكر السياسي باعتباره نظرية بل يتعدى ذلك إلى الفحص السوسيولوجي لكيفية عمل النظرية السياسية في الواقع، و الشروط الاجتماعية و الاقتصادية التي تمارس في إطارها الديمقراطية الحديثة. و يعد كتابه "ذوو الياقات البيضاء" من أهم مؤلفاته، إذ يتناول أوضاع الطبقة الوسطى الأمريكية في منتصف القرن العشرين. و بتناوله لهذه الأوضاع من كافة النواحي الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية فهو يقدم نقدا للسياسة الأمريكية في النظرية و في الممارسة. فإذا اقتصرنا على الفحص النظري للفكر السياسي غرقنا في التفاصيل الداخلية للنظرية السياسية و ضعنا وسط التقسيمات و التفريعات النظرية التي لا نهاية لها و لن نستطيع الخروج من الإطار التصوري المجرد، أما التحليل السوسيولوجي الذي يمارسه ميلز فيثبت أن علم الاجتماع لا غنى عنه إذا أردنا نقد النظريات السياسية الغربية.

و على الرغم من أن رايت ميلز قد أجرى دراساته منذ نصف قرن، أي في الفترة الممتدة من الأربعينات و حتى أوائل الستينات، إلا أن هذه الدراسات لا تزال تتمتع بالجدة و الأصالة و لا تزال قادرة على إفهامنا لطبيعة الطبقة الوسطى و بناء القوة في المجتمع الأمريكي. فأعمال رايت ميلز تنتمي لتلك النوعية من الأعمال السوسيولوجية التي تتعدى أهميتها العصر الذي كتبت فيه و التي تحوز على نظرة شاملة تمتد إلى المستقبل. فلا تزال تحليلات ميلز صالحة لفهم المجتمع الأمريكي الحالي.

و الأكثر من ذلك أنها قادرة على إفهامنا لطبيعة الطبقات الوسطى في المجتمعات الأخرى. ففي حين لا تنطبق دراسته عن "صفوة القوة" Power Elite إلا على الصفوة الاقتصادية و السياسية و العسكرية للمجتمع الأمريكي، فإن دراسته عن الطبقة الوسطى الأمريكية في "ذوو الياقات البيضاء" White Collar تنطبق على معظم الطبقات الوسطى في كثير من بلدان العالم، و خاصة تلك التي شهدت تحولا نحو النموذج البيروقراطي الرأسمالي في إدارة الاقتصاد. فمع تحول مجتمعاتنا من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق تزايدت أهمية الشركات و المؤسسات الرأسمالية التي توظف مئات الآلاف من الموظفين الذين تنطبق عليهم تحليلات رايت ميلز. فما كان يقوله ميلز عن الطبقات الوسطى الأمريكية في منتصف القرن أصبح ينطبق على الطبقات الوسطى في بلادنا في النصف الثاني من القرن.

كما تتمثل أهمية دراسة رايت ميلز في "ذوو الياقات البيضاء" في أن الصورة التي رسمها لأوضاع الطبقات الوسطى الأمريكية في منتصف القرن أصبحت تنطبق على الطبقات الوسطى غير الأمريكية حاليا من جراء تحول العالم كله نحو النموذج الرأسمالي في الإنتاج و الإدارة، و ذلك في ظل عمليات الخصخصة و العولمة التي تحدث الآن.

الطبقة الوسطى الجديدة:

مع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين حدث تغير كبير في طبيعة و بناء الطبقة الوسطى. ففي القرن التاسع عشر كانت أغلب الطبقة الوسطى مكونة من رجال أعمال صغار و مزارعين يمتلكون مساحة لا بأس بها من الأرض الزراعية، بالإضافة إلى عدد قليل من الموظفين و المدرسين و أصحاب المتاجر. أما مع بداية القرن العشرين فقد أصبحت أغلبية الطبقة الوسطى مكونة من الموظفين و المدرسين و مندوبي المبيعات و المشتغلين في عمليات البيع في المتاجر الكبيرة Salesmen .

و على الرغم من أن عالم الأعمال الصغيرة في القرن التاسع عشر قد انتهى و لم يعد له وجود في القرن العشرين، إذ أخلى مكانه لرأس المال الكبير و المؤسسات العملاقة، إلا أن الخطابة السياسية الأمريكية لا تزال ترسم صورة للاقتصاد الأمريكي باعتباره لا يزال مكونا من المشروع الصغير و معتمد عليه و على رجل الأعمال الصغير. و بالطبع يتم الدفاع عن هذه الصورة الزائفة للاقتصاد باسم الليبرالية. صحيح أن الليبرالية كانت هي المعبرة بصدق عن نظرة و خبرات عالم الأعمال الصغير في القرن التاسع عشر، إلا أن هذا العالم لم يعد موجودا، و لم يعد رجل الأعمال الصغير هو عماد الاقتصاد، بل المشروع الكبير و المؤسسة الضخمة. و بذلك يتم الدفاع عن الرأسمالية الاحتكارية عن طريق ليبرالية المشروع الصغير. فالتوظيف الأيديولوجي لليبرالية كما يتم في أمريكا القرن العشرين يتمثل في استعارة ليبرالية الطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر للدفاع عن شرور رأس المال الاحتكاري في القرن العشرين.

قبل الحرب العالمية الثانية لم تكن نسبة الموظفين ذوي الياقات البيضاء عالية داخل الطبقة الوسطى الجديدة، و لم تكن سلبيات الرأسمالية قد طالتهم بعد نظرا لحصولهم على قدر كبير من التعليم مما فتح أمامهم مجالات واسعة للتوظف خاصة في المراحل المبكرة من نمو المؤسسات الكبيرة. و في هذه الفترة المبكرة استمتعت هذه الفئة بأوهام كبيرة حول ذاتها و اعتقدت في أهميتها و ضرورتها في المجتمع، و كانت لذلك واثقة من النظام. أما بعد ازدياد عددها فقد أصبحت عرضة أكثر لظروف العمل الأجير و سلبياته. فمنذ الكساد الكبير في بداية الثلاثينات عرف الموظفون كل المشكلات التقليدية للمجتمع الرأسمالي، إذ عمل الكساد على انحدار هذه الفئة إلى مستوى البروليتاريا. و قد تأثرت سلبا بالركود و الحرب و التضخم.( )

يتصف وضع الطبقة الوسطى الجديدة بالتناقض مقارنة بالطبقة الوسطى القديمة و بعمال المصانع. فالطبقة الوسطى القديمة المكونة على نحو واسع من صغار رجال الأعمال و أصحاب المحلات الصغيرة حاربت رأس المال الكبير و المؤسسات الاحتكارية باسم الملكية الصغيرة، أما الطبقة الوسطى الجديدة فتجد فرصها في العمل و أمانها الوظيفي في نفس هذه المؤسسات الاحتكارية التي تدين لها بالولاء. و قد حارب رجال الأعمال الصغار في الطبقة القديمة الاتحادات و النقابات العمالية، أما موظفو الطبقة الجديدة فعندما يتم تنظيمهم فهم ينتظمون في اتحادات و نقابات مماثلة لمثيلتها العمالية. و الطبقة الوسطى سواء كانت قديمة أو جديدة فإن صراعاتها تخدم الرأسمالية الاحتكارية، فرجال الأعمال الصغار في صراعهم مع الاتحادات و النقابات يشكلون رأس الحربة و يخدمون الرأسمالية الاحتكارية، و الموظفون في انتمائهم وولائهم للمؤسسات التي توظفهم يشكلون صمام الأمان ضد أي هجوم مباشر على هذه المؤسسات، فكيف تهاجم و هي توظف عمالة ضخمة و تفتح بيوت ناس كثيرة؟

لا ينشغل فرد الطبقة الوسطى الجديدة بأي صراع سياسي يتناسب مع ما تعانيه من أوضاع سيئة، و هو يفتقد لأي إحساس بمصالحه الاقتصادية و السياسية و لا يشعر بأي أزمة حادة متعلقة بوضعه الاجتماعي و الوظيفي. كما لا يمكن أن نفهم وضعه بمنظور حزبي أو نقابي أو طبقي، فلا هو منتم إلى اتحاد معين أو حزب ما، و لا يتمتع بالوعي الطبقي و التجانس ووحدة الهدف و الرؤية التي تجعله و قرناؤه يشكلون طبقة. إن ظروفهم الاقتصادية و الوظيفية هي بالفعل الشروط الموضوعية لتكوين طبقة، إلا أنها طبقة في ذاتها In Itself أي طبقة بالقوة و الإمكان فقط و ليست طبقة لذاتها For Itself أي طبقة متحققة بالفعل.( )

الموظفون و العمال:

يسير الموظفون خطوة أبعد من عمال المصانع فيما يتعلق بالاغتراب عن العمل. فالموظف لا يصنع شيئا، و على الرغم من أنه يتعامل في كثير من الأشياء التي يرغب فيها إلا أنه لا يستطيع الحصول على أي منها. فعلى العكس من عامل المصنع، لا يتجسد عمل الموظف في شيء مادي يستطيع أن يتأمله بلذة و متعة باعتباره مبدعه و خالقه.

و في عمله دائما ما يصطدم الموظف بالعميل و بمديريه، و يجب عليه دائما أن يكون الخاسر النمطي، فالزبون دائما على حق، و صاحب العمل أيضا على حق، أما الموظف فليس على حق أبدا. و يجب عليه أن يبتسم دائما ليكون محبوبا، و يحسن معاملة الناس و يكون لطيفا ظريفا معهم. فقد أصبحت صفات مثل الطيبة و الظرف و التفاهم جزءا من الوسائل التي يستطيع بها المرء أن يحصل على وظيفة و يحتفظ بها، تلك الصفات التي كانت حميمة و خاصة بالمرء ذاته و في منتهى الخصوصية. إنه يعمل على التغريب الذاتي Self-Alienation عندما يرتب خصائصه الشخصية لتكون أدوات لكسب عيشه.
عندما يحصل الناس على وظيفة فإنهم لا يبيعون وقتهم و جهدهم فقط، بل يبيعون شخصياتهم أيضا. إنهم يبيعون يوميا ابتساماتهم و إيماءاتهم "الطيبة"، و يجب عليهم أن يمارسوا كبت امتعاضهم و غضبهم، فالصفات الطيبة لها نفع تجاري و مطلوبة لتوزيع كمية أكبر من السلع و الخدمات و بطريقة أكثر ربحا. إن وضع الطبقة الوسطى في القرن العشرين أسوأ من وضع البروليتاريا في القرن التاسع عشر، فجميع السلبيات التي كانت تعاني منها البروليتاريا و التي شخصها ماركس بدقة تعود للظهور بل و تظهر بالإضافة إليها سلبيات أخرى جديدة. فإذا كان العمل المصنعي يؤدي إلى الاغتراب، فإن العمل في مجال الخدمات يؤدي إلى التغريب الذاتي. فالفرد نفسه أصبح هو القائم بعملية التغريب بعد أن كانت ميكانزمات أخرى خارجية هي التي تقوم بذلك. فموظف الخدمات لا يبيع نتاج عمله، بل يبيع شخصيته، أي ابتساماته و تعامله الحسن و ظرفه و رقته و طابعه الصدوق Friendliness .( ) و إذا كانت الأخلاق الكانطية تنص على معاملة الآخرين لا كمجرد وسائل بل كغايات، فإن العالم المعاصر لا يجعل المرء يعامل الآخرين كوسائل و حسب، بل يجعله يعامل نفسه كوسيلة. و إذا كان الاغتراب يعني ضمن معانيه الكثيرة اغتراب الناس عن بعضهم البعض و ذلك لمعاملة كل واحد منهم للآخر باعتباره وسيلة، فإن الاغتراب يتوسع و تكون له معان جديدة مختلفة عندما يصنع المرء من نفسه وسيلة. عندئذ يصبح الاغتراب عن ذات المرء و كيانه و ماهيته.( )

كما يشير ميلز إلى سيادة نفس السياق الذي كان يتم في إطاره العمل المصنعي و هو الإبهام Anonymousity . فالعامل لا يعرف ما الذي يستعبده بالضبط، إذ يتخفى الاستغلال الرأسمالي وراء آليات السوق و قوانينه ووراء المساواة الزائفة و العدالة الوهمية لعقد العمل. كما أن العامل يساهم في العمل الاجتماعي العام و في خلق ثروة من يستغلونه و كل ذلك من وراء ظهره و بطريقة مبهمة لا يدركها. و هذا الإبهام هو نفس السياق الذي يعمل فيه ذوو الياقات البيضاء. فالإدارة و المراقبة و الجزاء و المكافأة كلها تتم بطريقة آلية و مجهولة بالنسبة للموظف. فقد أصبح العنصر اللاشخصي في العمل هو الذي يسيطر على الشخصية و يحكم عليها و يقيمها و يكافئها أو يعاقبها. ( ) فالبائع أو مندوب المبيعات على سبيل المثال يتم عزله عن عمليات تحديد السعر و اختيار نوع السلعة التي يبيعها و حتى عن عملية الفصال و المساومة، أي يتم عزله عما كان عليه البائع من قبل و ما كان يجعله بائعا.

لم تعد وسائل الإنتاج مجرد آلات و ماكينات و حسب، بل أصبحت أيضا هي شخصية المرء نفسه، و من هنا يجب على المرء أن يعمل على تخارج Externalize كل ما هو طيب و جيد لديه ليبيع أكثر و يكسب أكثر. فعملية نزع الملكية Expropriation أصبحت تتعدى بكثير نطاق العمل الصناعي و تتوسع حتى تصل إلى عالم ذوي الياقات البيضاء. فالنـزع لم يعد للملكية فقط، بل للخصائص الشخصية أيضا، و الانفصال لم يعد انفصال العامل عن وسائل إنتاجه و منتجات عمله و حسب، بل انفصال الموظف عن التنظيم البيروقراطي الذي يتحكم فيه و يحكمه طوال حياته.( ) و الحقيقة أن رايت ميلز بهذا التحليل يعيد الارتباط القديم بين التخارج و الاغتراب الذي كان موجودا في فلسفة هيجل و أعمال ماركس الأولى و الذي يعبر عنه في الألمانية بمصطلح واحد يعني الاثنين في نفس الوقت و هو Entausserung .( ) و يلمح ميلز هنا إلى أطروحة ازدياد البؤس Increasing Misery التي وضعها ماركس، و يذهب إلى ضرورة الانتباه إلى الأبعاد السيكولوجية لعمل ذوي الياقات البيضاء. فلأن عملهم مكتبي و خدمي و تعاملهم مع الأشخاص لا مع الأشياء فإن بؤسهم سيكولوجي بالدرجة الأولى لا مادي، لكن هذا لا يعني أنهم لا يعانون البؤس المادي، بل يعانون منه بالإضافة إلى بؤس سيكولوجي غير معروف لدى العمال. ( )

و كما أن العامل لم يعد يملك الآلة بل أصبحت الآلة هي التي تمتلكه، فإن رجال الطبقة الوسطى لم يعودوا يملكون المشروع بل أصبح المشروع هو الذي يمتلكهم و يسيطر عليهم. و إذا كانت البروليتاريا تتصف بكونها لا تملك و سائل عيشها و تقع في الخط الأدنى من الفئات الفاقدة للملكية، فإن ذوي الياقات البيضاء لا يقعون بينهم و بين رأس المال كما يعتقد معظمهم، بل إنهم في نفس مرتبة البروليتاريا الفاقدة لأي نوع من الملكية و لوسائل عيشها كذلك. فهم يعملون في ملكية غيرهم و ليس لهم حق فيما تنتجه هذه الملكية.

يدعي ذوو الياقات البيضاء لأنفسهم مكانة اجتماعية أعلى من مكانة العمال المأجورين، بل و من صغار رجال الأعمال و المزارعين. و الحقيقة أن هذا الادعاء قد تم التركيز عليها باعتبارها هي الخاصية التي تميزهم. لكن هل هم على حق في ادعاء هذه المكانة العالية؟ ما هي الأسس التي يعتمدون عليها في هذا الادعاء؟ إن أحد هذه الأسس هو تطابق أماكن عملهم و نوعيته مع أماكن عمل الطبقة الوسطى القديمة و نوعيته و التي كانت تجلب لهم بالفعل مكانة عالية. و الحقيقة أن تطابق مكان العمل و نوعيته هما مجرد مظهر خادع و أساس واه لادعاء مكانة عالية، فالحقيقة الكبيرة التي تغيب عن أذهانهم أن الطبقة الوسطى القديمة كانت مالكة للمشروعات و المؤسسات التي تعمل بها على العكس من الطبقة الوسطى الجديدة التي انحدرت كثيرا و أصبحت متطابقة مع العمالة المأجورة. و يتمثل أساس آخر لادعاء مكانة عالية في أن الموظفين يرتدون ملابسهم العادية في أماكن عملهم، عكس العمال الذين يرتدون زيا خاصا في العمل، و يحتك الموظف احتكاكا مباشرا بمديريه و رؤسائه في العمل و لديه حرية أكثر في كيفية تنفيذ القرارات و الأوامر، إلا أن الملبس و القرب من المديرين ليست إلا أسسا واهية و زائفة لادعاء مكانة عالية و لا تغير من حقيقة أن العمل المكتبي أصبح قريبا جدا من العمالة المأجورة.( )

من بين الفروق التي كانت تميز العمل المكتبي عن العمل المصنعي أن العمل المكتبي لا يتضمن مجهودا جسميا و عضليا مثل الذي يتطلبه العمل المصنعي. إلا أن هذا الفرق لم يعد ذا أهمية الآن، بل ظل يتناقص كثيرا. فالعمل المكتبي أصبح شبيها بعمل المصنع من حيث أن الموظف أصبح متعاملا مع الآلة أكثر مما سبق، فمع كثرة الأجهزة و الأدوات المكتبية أصبح الموظف مشغلا لجهاز و أصبح عمله خاليا من المجهود الذهني و العقلي و أكثر آلية. و أصبح تشغيل الآلات المكتبية الخفيفة مماثلا لتشغيل آلات المصنع الخفيفة. ( )

و من بين هذه الفروق أيضا أن الأعمال المكتبية كانت تتطلب لأدائها تدريبا طويلا و تعليما ثانويا و عاليا في بعض الأحيان، و كان هذا أحد مصادر المكانة العالية التي يطلبها الموظف. أما الآن فإن أغلب الأعمال المكتبية لا تتطلب لأدائها إلا تدريبا لمدة 3 أشهر فقط، أي نفس الفترة التدريبية المطلوبة من عمال المصانع.

كما تضاءلت الفروق بين مرتبات عمال المصانع و مرتبات الموظفين، فمع قوة و نشاط اتحادات و نقابات العمال و أهميتها السياسية نجحت في رفع الحد الأدنى لأجور العمال، أما الموظفين فقد شهدت مرتباتهم ثباتا ملحوظا على مدي 3 عقود. و يرجع ذلك إلى دخول أعداد غفيرة منهم سوق العمل، فالمدارس و الكليات تخرج كل عام مئات الآلاف منهم و هذا ما يقلل الفرص المتاحة لمن لا يجد عملا و يفرض على الكثيرين قبول أجور أدنى.( )

إن ما كان يحدث للعمال في القرن التاسع عشر أصبح يحدث للموظفين في القرن العشرين، فالآلة أصبحت تحل محل الإنسان في العمل، و ما كان يقوم به عدد كبير من الموظفين أصبح يقوم به موظف واحد بتشغيل جهاز مكتبي واحد، و أدى ذلك بالتالي إلى تسريح الكثير من الموظفين و تضائل فرص العمل الجديدة.( ) و يتنبأ ميلز بأن الأزمة القادمة سوف تؤدي إلى الاستغناء عن موظفين أكثر و على نحو غير مسبوق، و قد حدث هذا بالفعل ابتداء من السبعينات من جراء سياسات الخصخصة و العولمة.

تغير العلاقات الاقتصادية:

شهدت الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية تركزا هائلا للثروات و الممتلكات في أيدي عدد صغير من الشركات العملاقة، و أصبحت للحرية السياسية و الأمان الاقتصادي من جراء ذلك معان مختلفة و أسس مغايرة. فعندما تكون الملكية موزعة على نحو واسع، و تكون الملكية الصغيرة هي في نفس الوقت وسيلة العيش المستقل، يكون الناس أحرارا و في أمان داخل حدود قدراتهم و في إطار سوق حر يضمن المساواة. و يؤدي هذا الأمان الاقتصادي إلى حرية سياسية، فالاثنان مرتبطان و متجذران في الملكية الصغيرة. و لا يكون الأمان الاقتصادي لفرد مهددا لأمان فرد آخر و لا لحريته.

لكن التركز المعاصر للملكية و الانتقال من الرأسمالية الليبرالية إلى الرأسمالية الاحتكارية قد غير من أسس الأمان الاقتصادي، فلم يعد هذا الأمان بالنسبة للطبقة الوسطى معتمدا على عمل المرء في ملكيته الخاصة، بل على حصوله على وظيفة و احتفاظه بها، و بهذا انتقل الأمان الاقتصادي من الملكية Property Ownership إلى الوظيفة Job holding . و خلخلت القوة المتضمنة في الملكيات الكبيرة التوازن القديم بين الأمن الاقتصادي و الحرية السياسية. فحرية المرء في أن يفعل ما يشاء في ملكيته أصبحت تعني الآن حريته في أن يفعل ما يشاء في حريات و أمن آلاف الموظفين الذين يعملون لديه. فالحرية و الأمان بالنسبة لهؤلاء الموظفين لم يعد يرتكز على الاستقلال الفردي بالمعنى القديم، أي بمعنى ملكية المرء لوسائل عيشه. فأن تكون حرا و آمنا هو أن تكون مسيطرا على ما تعتمد عليه في معيشتك، و لا يمكن أن يتوفر ذلك في وظائف الطبقة الوسطى التي تتحكم بها المؤسسات الاحتكارية. ( )

لم يعد الوضع الطبقي محددا بالملكية بل بحجم و مصدر الدخل. و بالنسبة للطبقة الوسطى فإن الوظيفة لا الملكية هي المصدر الوحيد للدخل، و ما يحدد فرصهم في الحياة ليس بيع و شراء ممتلكاتهم بل إمكانات بيع خدماتهم في سوق العمل. فكل ما يحلم به الناس لا يستطيعون الحصول عليه إلا بفضل دخلهم الوظيفي.

لم تعد المواجهة الطبقية بين أصحاب رؤوس الأموال و العمال المأجورين، بل بين كبار المديرين و الموظفين الذين تحت أيديهم. صحيح أن الفئات المتواجهة طبقيا تغيرت إلا أن أساس الاختلاف و التناقض الطبقي واحد. فكبار المديرين أصبحوا ممثلي كبار الملاك و مديري ملكياتهم الكبيرة، أما الموظفون فقد انحدر وضعهم حتى وصلوا إلى نفس مستوى العمالة المأجورة. و أصبحت سلطة المديرين هي سلطتهم في التحكم في حياة الموظفين، و سلطتهم هذه يستمدونها من الطابع الطبقي للملكية التي يديرونها. ليست المواجهة بين الفريقين مجرد تعبير عن تعارض وظيفي بين الرؤساء و المرؤوسين، بل هي في حقيقتها مواجهة طبقية. فالمديرون الجدد هم مديرو المؤسسات الرأسمالية الاحتكارية، و الموظفون الجدد هم بروليتاريا هذا النظام الإداري.( )

كما تغير كذلك مفهوم النجاح. ارتبطت فكرة الفرد الناجح بالأيديولوجيا الليبرالية حول التوسع و التقدم المستمر للرأسمالية. و قد مثل رجل الأعمال الذي يشق طريقه في سوق مفتوح هذا المعنى للنجاح. و كانت طريقة الصعود الاقتصادي و الاجتماعي وفقا للطراز الكلاسيكي لليبرالية هي تأسيس مشروع صغير و توسيعه عن طريق المنافسة مع مشروعات أخرى مثله. فالعامل يصبح رئيس عمال ثم رجل صناعة، و الموظف يصبح كاتب حسابات ثم تاجرا يعمل لحسابه الخاص، و العامل في متجر يعمل و يكون رأس مال حتى ينشئ متجره الخاص. و شكل الجهد الشاق و المنافسة في هذه الوسائل شخصية عصامية مستقلة كانت أساسا و ضمانا لديمقراطية ليبرالية مثالية.

لكن مع التحول من الرأسمالية الليبرالية إلى الرأسمالية الاحتكارية ظهرت تحولات مماثلة لمعاني النجاح. لم يعد النجاح مرتبطا لدى الطبقة الوسطى بتوسع الملكية و نمو المشروع الخاص، بل بالصعود الوظيفي في درجات محددة. أصبح النجاح لدى الكثيرين تسلقا و تحولت المنافسة إلى وصولية و انتهازية. و بعد أن كان المشروع الخاص و عمل المرء في ملكيته الخاصة تحقيقا للذات و دخولا في مغامرات و مخاطرات و قياسا لبطولة المرء و شجاعته، أصبح السلك الوظيفي مجالا لحسابات دقيقة سعيا وراء ترقية. "فالبيروقراطية لا تصنع أبطالا". ( )

لا يزال النظام الرأسمالي يستخدم أخلاقيات و قيم المشروع الحر الصغير كأيديولوجيا يبرر بها رأس المال الاحتكاري و عالم رجال الأعمال الكبار و المؤسسات الضخمة، و كتصوير زائف للنشاط الاقتصادي في المجتمع، في حين أن المجتمع لم يعد مكونا من رجال أعمال صغار بل من طبقة وسطى ضخمة عبارة عن موظفين لا تنطبق عليهم معايير و قيم المشروع الصغير. فالقيم السائدة في العالم الوظيفي للطبقة الوسطى أصبحت هي مسايرة الجو الوظيفي و تحمله بقدر الإمكان و التكيف مع المديرين و القواعد، لا الخوض الشجاع في عالم الأعمال و المخاطرة في سوق مفتوحة، و التماهي مع المؤسسة و الولاء لها بدلا من فضيلة التحكم الذاتي الأخلاقي الناتجة عن عمل المرء في ملكيته، تلك الفضيلة التي ترجع إلى أخلاق العمل البروتستانتية و التي تحدث عنها فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية". إن أخلاق العمل البروتستانتية هذه هي أخلاق المشروع الصغير الخاص الذي يديره فرد واحد، إلا أن الرأسمالية الاحتكارية لا تعرف المشروع الصغير و بالتالي لا تعرف أخلاق العمل البروتستانتية.

ما نكتشفه في كتاب رايت ميلز أن التحالف القديم الذي كان موجودا بين الرأسمالية و الطبقة الوسطى لم يعد موجودا في أمريكا القرن العشرين. لقد صارعت الرأسمالية كثيرا و دخلت معارك كثيرة باسم هذه الطبقة الوسطى و ادعاء بالدفاع عن مصالحها، بل توحدت مع الطبقة الوسطى في بعض الفترات، و كانت البورجوازية ذاتها هي التي تشكل الطبقة الوسطى في بداية ظهور الرأسمالية. إلا أن التطورات الحديثة للرأسمالية في القرن العشرين قد طحنت معها الطبقة الوسطى، و أصبحت تعاني من كل سلبيات الرأسمالية التي لم يكن يعاني منها إلا البروليتاريا. لقد انتهت كل الشروط الموضوعية، الاقتصادية و الاجتماعية، لتحالف الرأسمالية و الطبقة الوسطى، لكن لا تزال هذه الطبقة الوسطى مقيدة بالرأسمالية و لا تستطيع منها فكاكا و ذلك لأن البيروقراطية و أنساقها التراتبية و هياكلها الوظيفية هي التي تربطها بالنظام.

البيروقراطية الجديدة:

كانت العقلانية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر هي عقلانية الفرد و مرتبطة بحريته و رسالته في الحياة. أما الآن فقد اتخذت العقلانية شكلا آخر، فلم تعد تكمن في الفرد، بل في التنظيمات الاجتماعية التي تنتـزع العقلانية و الحرية من الفرد عن طريق التخطيط البيروقراطي و الحساب الرياضي. فالنظام الرياضي المعقد للحسابات التجارية و التنظيم التراتبي للصناعة و المكتب الحكومي المرشد يلغي كل الطرق الإبداعية للعمل الفردي. و في هذا الانتزاع البيروقراطي للعقلانية يصبح الموظفون قطع غيار سهلة التبديل في سلسلة كبيرة من السلطة التي تربط المجتمع ببعضه البعض.( )

لكن ما هي الإدارة في هذا السياق البيروقراطي الجديد؟ الإدارة هي شئ يكتب عنه أحدهم تقريرا لشخص آخر لا تعرفه و ربما لن تراه في حياتك. و هي توجيه مطبوع أو ورقة في ملف، و هي الإمضاء الذي لا يمكن أن تزوره و لا تجرؤ على مجرد التفكير في ذلك. إنها النظام الذي يصدر أوامر أعلى من أي شخص تعرفه عن قرب. إنها تصدر القرارات و تفصل كيفية تنفيذها و تحدد كل التفاصيل، إنها هي كل حياتك الوظيفية. يمكنك أن تكون أحد المديرين، لكن ذلك لا يجعلك مستقلا و مسيطرا، بل يجعلك أحد منفذي الأوامر. يمكنك أن تحمل سلطة، لكنك لست مصدرها و لا يمكن أن تحتفظ بها للأبد، فهي تعطى لك لتنفذ بها المزيد من الأوامر. المال الذي تتناوله يديك ملك لأناس آخرين، و الأوراق التي تصنفها تحمل مسبقا ملاحظات و توقيعات آخرين. أنت مدير و مدار في نفس الوقت. فباعتبارك أحد الخاضعين للإدارة ينظر إليك من أعلى، و باعتبارك أحد المديرين ينظر إليك من أسفل. أنت إله لدى مرءوسيك، و كلب لدى رؤسائك. ( )

لم يغير التوسع البيروقراطي من طبيعة الهيمنة الطبقية للرأسمالية و من استناد هذه الهيمنة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بل زاد منها و حماها. فلا يعني تحول المشروع الرأسمالي إلى تنظيم إداري بيروقراطي اختفاء قوة الملكية الخاصة و هيمنتها الطبقية، فالبيروقراطية تزيد و تقوي وتحمي الملكية الخاصة. إن كل التغيرات الإدارية و البيروقراطية مجرد مظهر خارجي خادع يكمن تحته نفس البناء الطبقي و العلاقات الطبقية التقليدية. و لا تستند البيروقراطية على العلاقات الطبقية الرأسمالية و حسب، بل هي تنظم صراع الطبقات أيضا. فهناك علاقة وثيقة بين النظام التراتبي للوظائف و الهياكل التنظيمية و الإدارية للمجتمع الحديث و بين الرأسمالية كنظام طبقي و أسلوب في توزيع القوة و السلطة. فالهيكل الوظيفي يتطابق مع التقسيم الطبقي، فقد تغير الشكل القديم للهيمنة الطبقية و المتمثل في ثنائية رأس المال و العمل المأجور و ظهر شكل جديد و هو التراتب الإداري، إلا أن المضمون واحد و هو سيادة نفس العلاقات الطبقية.( )

كما حل الجهاز البيروقراطي محل السوق باعتباره مجال الهيمنة الطبقية و الأداة التي تتم بها هذه الهيمنة. فلم يعد السوق هو الذي يحدد متى يعمل الناس و بأي سرعة و بأي أجر، فما يحدد ذلك الآن هو القرارات و اللوائح الإدارية. و كما كان العمال يعملون على خلق رأس المال الذي يستعبدهم كلما اشتغلوا أكثر، فإن الموظفين أيضا يبنون الجهاز البيروقراطي الذي يهيمن عليهم كلما عملوا أكثر.

الوعي الطبقي:

إن ذوي الياقات البيضاء صامتون سياسيا، و دائما ما يلحقهم السياسيون برجال الأعمال أو المزارعين أو العمال، لكن لا يشيرون إليهم باعتبارهم فئة متميزة قائمة بذاتها. كما يتمتعون بقدر كبير من اللامبالاة السياسية. صحيح أن هناك فئات أخرى غيرهم تتصف باللامبالاة مثل كثير من العمال و المزارعين، إلا أن الانتصارات الانتخابية ترجع فضل نجاحها إلى هؤلاء العمال و المزارعين، كما أن لديهم جماعات ضغط لا تكل و زعماء سياسيين يحومون حول السلطة و يعلنون تمثيلهم، أما الموظفين فليس لديهم جماعات ضغط و لا يجدون من يتحدث باسمهم. و على الرغم من أن الطبقة الوسطى الجديدة لا ملكية لها و عانت من هبوط في المكانة و من أزمة اقتصادية و اقترابا من العمالة المأجورة إلا أنها لم تأخذ بالأيديولوجيا الاشتراكية و لا أي أيديولوجيا أخرى. فلم يؤدي وضعها الاجتماعي و الاقتصادي إلى اعتناقها لمبادئ اشتراكية أو ثورية تتناسب مع هذا الوضع.

إن التقسيمات الدقيقة للعمل المكتبي و التدرجات الكثيرة للسلم الوظيفي لا تتيح أي فرصة لحدوث اندماج بين الموظفين أو لتكوين روح واحدة، أو إحساس بالانتماء لجماعة أو فئة، فضلا عن وعي طبقي مشترك. فكل هذه الأشياء يحل محلها التنافس و السعي نحو النجاح الشخصي و الترقية. فوضعهم كفئة متميزة تحطمه التدرجات الوظيفية المتناهية في التخصص. و يؤدي التنافس و التطلع الدائم إلى الدرجة الأعلى إلى تماهي الموظف مع الجهاز الإداري الذي يعمل به و عدم تمكنه من أن يأخذ منه مسافة نقدية يستطيع بها الحكم على عمله ووضعه فيه. و عندما يتطلع الموظف إلى الدرجة الأعلى و يصبح هذا التطلع مسيطرا على حياته و كيانه يشعر أن درجته التي هو عليها ليست له و لا ينتمي إليها و أنه يستحق الأفضل. "إن الصعود في المكانة داخل الهيكل الوظيفي هو نجاح زائف، لأنه لا يأتي بزيادة لها قيمة في الدخل و لا بفرص أفضل لتعلم مهارات أرقى".( )

و بمرور الوقت تصبح أهداف المشروع هي أهداف الموظفين العاملين فيه، و بذلك لا يكون لهم أهداف أخرى خاصة بهم، فهم يصبحون جزءا غير قابل للانفصال من المشروع. كما أن ما يحوزونه من سلطة مصدرها مجلس الإدارة، و حمايتهم ممن فوقهم و سلطتهم على من دونهم و علاقاتهم بالآخرين و ما يعرفونه و ما يفعلونه طوال حياتهم يرجع إلى قواعد و لوائح الإدارة، و من الطبيعي بعد ذلك أن تعتمد نظرتهم إلى أنفسهم أيضا على حياتهم الوظيفية، أي على الإدارة كذلك.

إن نسبة الموظفين المشتركين في نقابات خاصة بهم نسبة ضئيلة جدا، و يرجع السبب في ذلك إلى عوامل كثيرة منها أن الموظف يعتقد أن النقابة لن تصنع له شيئا، و أن لديه فرصا للترقي في عمله مما سيحسن وضعه و يغنيه عن النقابة، هذا بالإضافة إلى قرب الموظف من مديريه مما يقلل فرص الابتعاد عنهم و الانضمام لنقابة، كما أن تماهيه مع المؤسسة التي يعمل بها يمنعه نفسيا و عمليا من الانخراط في نقابة. هذا بالإضافة إلى أن انضمام الموظف لنقابة يهبط بمكانته في نظر مديريه، فهناك اعتقاد لاشعوري من قبل المديرين في أن من ينضمون لنقابة ليسوا قادرين على التعبير عن أنفسهم و التحدث إليهم بصراحة ووضوح، كما أن الانضمام لنقابة يعد في نظرهم تشبها و قربا من العمال مما يهبط من مكانة الموظف و يجعله في نفس مستوى العامل.

كان للعمل الحر قيما و مثلا معينة ارتبطت به منذ حركة الإصلاح الديني و امتدت طوال عصر الرأسمالية الليبرالية، و من هذه القيم و المثل أن العمل لم يكن كدحا و شقاء و إلزاما بل كان يتضمن اللعب و اللهو و الترفيه. كما كان العمل هو المعبر عن رسالة المرء في الحياة و تحقيقا للذات و إشباعا و إرضاء للنفس. لم يعد ذوي الياقات البيضاء الآن يربطون بين العمل و بين هذه القيم و المثل، بل لا يتذكرون أن كان للعمل مثل هذه القيم و المثل في يوم من الأيام. و لا يقيس الموظف ما يقوم به من عمل في الوقت الحالي بهذه القيم و المثل و يتخذها محكا و معيارا لتقييم وضعه الوظيفي. و حتى إذا شعر الموظف بتناقض بين هذه القيم و بين ما يقوم به من عمل فإن شعوره هذا لن ينتج عنه إدراكه لأزمة. فمن يدرك الأزمة و يستطيع المقابلة بين الوضع الحالي للعمل و مثله القديمة ليس الموظف أو العامل بل الباحث أو المؤرخ أو عالم الاجتماع، و ليس أي عالم اجتماع يستطيع ذلك، بل ذلك الذي يتمتع بخيال سوسيولوجي.( )

ففي ظل الظروف الحديثة للعمل يتعلم الموظف و العامل قبول عمله باعتباره لا معنى له، و يتعلم تأديته بلا مبالاة أو حماس، و يبحث عن المعنى و التسلية و الترفيه في أشياء أخرى خارج العمل. و عندما لا يستطيع المرء أن يعيش حياته داخل العمل يتحول إلى بناء حياة حقيقية خارج العمل، و بالتالي يصبح العمل تضحية بالوقت في سبيل الحياة الحقيقية خارجه. و هنا يحدث الانفصال بين العمل و اللعب، و بين العمل و الثقافة، و بالتالي يأخذ الناس هذا الانفصال على أنه واقعة وجودية و شرط إنساني أنطولوجي، و يتحول في أذهانهم إلى واقعة قائمة أمام الحس المشترك و الوعي المباشر، في حين أنه ليس إلا شرطا اجتماعيا مرتبطا بطبيعة العمل في ظل نظام رأسمالي.

أطروحة رايت ميلز في ضوء المشهد المعاصر:


الحقيقة أن الصورة التي رسمها رايت ميلز لأوضاع الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين كانت صورة مصغرة من الأوضاع التي شهدتها جميع الطبقات الوسطى في أنحاء العالم ابتداء من السبعينات. فوظائف الطبقة الوسطى أصبحت هي الوظائف الغالبة على قطاع العمل في جميع البلدان الصناعية، إذ تزايدت نسبة العالمين في قطاع الخدمات عن نسبة العاملين في القطاع الزراعي و القطاع الصناعي في الفترة من 1982 إلى 1992( ). و على الرغم من ذلك لم يتمكن قطاع الخدمات من استيعاب فائض العمالة الناتجة عن زيادة الاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين و العمال نتيجة للتطور التكنولوجي.

كما يؤكد عالم الاجتماع الأمريكي جيريمي ريفكن في كتابه الشهير "نهاية عهد الوظيفة" نفس هذا المعنى عندما يتحدث عن تآكل الطبقة الوسطى. إذ يذهب إلى أنه إذا كانت الموجة الأولى من إدخال الميكنة قد أثرت في عمال المهن الشاقة أكثر من غيرهم، فإن الثورة التكنولوجية الجديدة و ما صاحبها من إعادة هيكلة للوظائف بدأت تؤثر في التشكيلات الوسطى بمجتمع الشركات على نحو يهدد الاستقرار و الأمن الاقتصادي لأهم طبقة سياسية في المجتمع و هي الطبقة الوسطى ( ).

أما مارتن و شومان فيوضحان في كتابهما "فخ العولمة" كيف تعتدي الشركات المتعددة الجنسية على الدولة و سيادتها و تخرجها من الميدان الاقتصادي بالضغوط و الابتزاز بحجة القضاء على البيروقراطية و إعادة الهيكلة. و تؤدي هذه السياسات إلى وقوع الملايين ضحايا للسوق العالمية. فقد اتبعت هذه الشركات سياسة ثابتة طوال العقود الأخيرة تتمثل في تقليل مستمر للعمالة. كما أدت سياساتها المالية إلى تعظيم دخول المديرين مع الإقلال من مرتبات الموظفين، حتى أن الفروق تضاعفت بين الاثنين ( ). و يوضح مارتن و شومان أنه في ظل غياب أي ضغوط مضادة ورقابة حكومية يتم التخلي عن عقد اجتماعي كان معمولا به في الماضي، ألا و هو أن الشركات الرابحة تقاسم أرباحها مع العاملين بها، أي أن يكون الكل مستفيدا. أما ما يسود الآن فهو العمل بمبدأ "الرابح يحصل بمفرده على كل الثمار" Winner Takes All.( )

لقد قدم لنا رايت ميلز مجموعة من التوقعات حول مصير الطبقة الوسطى و التي ثبتت بالفعل صحتها. فإذا وضعنا في اعتبارنا أن رايت ميلز قد قام بدراساته هذه في أواخر الأربعينات و أوائل الخمسينات أدركنا أن توقعاته قد تحققت على مدى النصف الثاني من القرن العشرين. يذهب رايت ميلز إلى أن الطبقات الوسطى سوف تستمر في الازدياد العددي، و على الرغم من أنها لن تشكل قوة و لن تتبوأ سلطة عليا، إلا أنها سوف تكون عاملا كبيرا للاستقرار في التوازن العام للطبقات. و باعتبارها عاملا هاما في التوازن الطبقي فسوف تعمل على استمرار الرأسمالية و مؤسساتها الاحتكارية. فتوسع هذه الطبقات و امتدادها يقف حائلا أمام تحول الجزء الأكبر من المجتمع إلى بروليتاريا، و هي تقوم بوظيفة صمام الأمان بين العمل و رأس المال، فهي قادرة على التعامل مع الاثنين في نفس الوقت و التنسيق بينهما. و بذلك فهي تشكل جسرا طبقيا يخفف من حدة الاختلافات الطبقية و يسكن الصراع الطبقي، و هي القائم بعملية التساند الاجتماعي الذي يضع حدا للمشاحنات الطبقية. و هذا هو السبب في أن الطبقة الوسطى هي أول ما يتوجه إليه أي مرشح في حملة انتخابية. أما الليبرالية فهي في حقيقتها أيديولوجيا مصنوعة خصيصا لهذه الطبقات الوسطى، فهي أنسب أيديولوجيا لإدراج هذه الطبقات في النظام الرأسمالي و تبريره في نظرها.

"إلى أي اتجاه سوف ينتمون و إلى أي قوة سوف يتوجهون؟ إلى الاتجاه الذي سوف ينجح و يكسب، إنهم بذلك ينتظرون من ينجح في سلبية ليلحقوا به و يتبعوه. (و الحقيقة أن من ينجح يجب أن يكسبهم أولا، و يتم كسبهم بأن يتم شراءهم.) إنهم للبيع.. طبقة وسطى للبيع." ( )



الهوامش

1) C. Wright Mills: White Collar: The American Middle Classes. Oxford University Press, New York 1951.
2) C. Wright Mills: The Power Elite. Oxford University Press, New York 1956.
3) C. Wright Mills: The Sociological Imagination. Oxford University Press, New York 1959.
4) Mills, C. W.: White Collar, P. XV
5) Ibid: P. 351
6) Ibid: P. 184
7) Ibid: P. 188
8) Ibid: P. 183
9) Ibid: P. 226
10) حول الارتباط بين مفهومي التخارج و الاغتراب لدى هيجل و ماركس ارجع إلى:
Georg Lukacs: The Young Hegel: Studies in the Relations between Dialectics and Economics. Merlin Press, London 1975. P. 537.
11) Mills: White Collar, P. 182
12) C. Wright Mills: "A look at the White Collar" in C. Wright Mills: Power, Politics< and People. The Collected Essays of C. Wright Mills, edited by Irving Louis Horowitz. Oxford University Press, New York, 1963. P. 146.
13) Wright Mills: White Collar, P. 245
14) Ibid: P. 249
15) Ibid: P. 281
16) Wright Mills: "Liberal Values in the Modern World", in Wright Mills: Power, Politics, and People, Op. Cit. P. 191.
17) Wright Mills: "A Marx for the Managers", in C. Wright Mills: Power, Politics, and People.Op. Cit. P. 67.
18) Wright Mills: White Collar, P. 263
19) Ibid: P. XVII
20) Ibid: P. 80
21) Ibid: P. 111
22) Ibid: P. 255
23) Ibid: P. 228
24) أ.د رمزي زكي: وداعا للطبقة الوسطى. تأملات في الثورة الصناعية الثالثة و الليبرالية الجديدة. دار المستقبل العربي، القاهرة 1997. ص. 29-31
25) جيرمي ريفكن: نهاية عهد الوظيفة. انحسار قوة العمل العالمية و بزوغ حقبة ما بعد السوق. مركز الإمارات للدراسات و البحوث الاستراتيجية، أبو ظبي 2000. ص 242
26) هانس-بيتر مارتن و هارالد شومان: فخ العولمة. الاعتداء على الديموقراطية و الرفاهية. ترجمة د. عدنان عباس على، مراجعة أ.د رمزي زكي. سلسلة عالم المعرفة ( العدد 238)، الكويت 1998. ص 192.
27) المرجع السابق: ص 220.
26)Wright Mills: White Collar, P. 353-354



#أشرف_حسن_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة جديدة لفلسفة هيجل في الدولة
- الأيديولوجيا في عصر تكنولوجيا الاتصال
- الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي
- نقد هيجل لليهودية ودلالاته السوسيولوجية
- حسن حنفي والقراءة الفينومينولوجية للتراث الديني
- الرجل الشرقي والمرأة الشرقية: استبطان المرأة للهيمنة الذكوري ...
- نظرية الارتكاس الثقافي
- مقدمة في سوسيولوجيا التاريخ الإسلامي
- الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي: المدرسة النمساوية
- آدم سميث والليبرالية الاقتصادية
- هل الحجاب فريضة؟


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أشرف حسن منصور - بروليتاريا المكاتب : رايت ميلز والطبقة الوسطى الأمريكية