|
في مفهوم الفقر والنظريات السوسيولوجية المفسرة له (رؤية تحليلية- سوسيولوجية)
حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث
(Hossam Aldin Fayad)
الحوار المتمدن-العدد: 8216 - 2025 / 1 / 8 - 00:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعيش فوق سطح كوكب الأرض أكثر من (8) مليارات من البشر حسب إحصائيات عام 2024 حيث يبلغ عدد سكان الدول النامية أكثر من (4.3) مليار يعيش منها ما يقارب (3) مليارات تحت خط مستوى الفقر وهو دولاران أميركيان في اليوم، ومن بين هؤلاء هنالك (1.2) مليار يحصلون على أقل من دولار واحد يومياً. فالفقر في جوهره يعني عدم قدرة الفرد على تلبية احتياجاته الأساسية من غذاء ولباس مع قلة أو انعدام الموارد، ويمكن أن يمتد الفقر إلى عوز عندما لا يستطيع الفرد تأمين قوت يومه الأساسي. لذا تشغل ظاهرة الفقر حيزاً كبيراً في الأدبيات الاجتماعية وتمثل قضية هامة للمخططين وصانعي القرار كعائق في وجه التنمية الاجتماعية والاقتصادية وسبب رئيس لكثير من المشكلات الاجتماعية. بناءً على ما سبق سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على مشكلة الفقر بكل أبعادها، بالإضافة إلى توضيح الاتجاهات السوسيولوجية المفسرة لها من خلال مناقشة العناصر التالية:
أولاً- تعريف الفقر: الفقر في اللغة هو الحاجة، وهو مشتق من انفقار الظهر أي انكسار فقاره، فكأن الفقير مكسور الظهر من شدة حاجته والفقير الذي له ما يأكل، والمسكين من لا شيء له، فالفقير إذن هو المحتاج، أي الشخص الذي لا يملك ما يكفي لتغطية نصف احتياجاته الأساسية. كما يشير مصطلح " الفقر" إلى العوز والنقص في الخيرات والأشياء اللازمة للحياة. بذلك يعبّر الفقر عن حالة اجتماعية واقتصادية معقدة تتجاوز مجرد نقص الدخل المادي. هو حالة من الحرمان الشديد من الحقوق الأساسية للإنسان، بما في ذلك الحق في الغذاء والماء والمسكن والصحة والتعليم والعمل خلاصة القول هو " عدم القدرة على تحقيق مستوى معين من المعيشة المادية يمثل الحد الأدنى المعقول والمقبول في مجتمع ما من المجتمعات في فترة زمنية محددة ". ومن الجدير بالذكر أن علم الاجتماع ينظر إلى مصطلح الفقر نظرة نسبية، نظراً لارتباطه بمستوى المعيشة الملائم في المجتمع وبتوزيع الثروة والتوقعات الاجتماعية. ويمكن لنا تقسيم الفقر إلى أبعاد متعددة، وهي كالآتي: 1- الفقر المطلق: هو حالة الحرمان من الاحتياجات الأساسية للحياة، مثل: الغذاء، والماء، والمأوى، والملبس. ويطلق عليه أيضاً الفقر المدقع هو حالة من الحرمان الشديد من الاحتياجات الأساسية للإنسان، بما في ذلك الغذاء والماء النظيف والمأوى والرعاية الصحية والتعليم. إنه حالة تعيق التنمية البشرية وتؤثر سلباً على حياة الملايين حول العالم. ويعرّف البنك الدولي الفقر المدقع على أنه العيش بأقل من (1.90) دولار أمريكي في اليوم. هذا الرقم يمثل الحد الأدنى اللازم لتغطية تكاليف الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة. 2- الفقر النسبي: يقارن مستوى معيشة الفرد أو الأسرة بمستوى المعيشة السائد في المجتمع. بمعنى آخر يشير هذا المصطلح إلى حالة عدم قدرة الفرد على تأمين متوسط مستوى المعيشة الذي يحظى به الأفراد في مجتمعه. يتسم الفقر النسبي بمجموعة من الخصائص تتمثل في الآتي: - يمكن للأفراد في حالة الفقر النسبي أن يؤمنوا احتياجاتهم الأولية والأساسية. - لا يمكن للأفراد الذين يعانون من الفقر النسبي تأمين الأشياء التي تجعل حياتهم أسهل مثل امتلاك سيارة خاصة أو غير ذلك. - يمكن للأفراد استغلال الفرص المتاحة حين يمر اقتصاد بلدهم بنمو، ولكن بنسب أقل من غيرهم. - يتأثر الفقر النسبي بالبيئة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد، ولذلك يختلف الفقر النسبي من دولة إلى أخرى على عكس الفقر المطلق الذي يكون ذاته في الدول كافةً. 3- الفقر متعدد الأبعاد: يُنظر إلى مفهوم الفقر المتعدد الأبعاد، ليشمل عدة عوامل ومؤشرات حياتية، تقيس مدى الرفاه الاجتماعي، المعيشي والاقتصادي، فهي تشمل، الصحة، السكن، مستوى الدخل، العمل، الأمن والأمان، الحرية الشخصية، التعليم، واستخدام الممتلكات، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع دائرة الاستهداف، ويجعلها أكثر دقة، وعدالة في توزيع الموارد. بذلك يعتبر الفقر حالة من الحرمان في عدة أبعاد، بما في ذلك الصحة، والتعليم، والمعيشة، والمستوى المعيشي.
ثانياً- أسباب الفقر: في حقيقة الأمر، تتعدد أسباب الفقر وتختلف من مجتمع لآخر ومن فترة إلى أخرى، ولكن يمكن لنا تلخيصها في الأسباب التالية: 1- أسباب اقتصادية: مثل البطالة، وانخفاض الأجور، والتضخم، وعدم المساواة في توزيع الدخل. حيث تلعب العوامل الاقتصادية دوراً كبيراً في زيادة شدة الفقر، وهذا راجع إلى التباينات الكبيرة في توزيع الدخل بين الفقراء والأغنياء، وكذلك ارتفاع الإنفاق في المدن على حساب الريف مما أدى إلى تعميق فجوة الفقر، ومن جهة أخرى يؤدي تدني الإنتاجية إلى بطء معدلات النمو وقلة الإنتاج وسوء نوعيته، وعليه فإن نسبة تشغيل اليد العاملة تتناقص مما يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع معدلات البطالة والتي تمس الفئات الفقيرة وخاصة في المدن النامية الكبيرة. 2- أسباب اجتماعية: مثل التمييز، والوصم والاستبعاد الاجتماعي، ونقص التعليم، والهجرة القسرية. حيث تلعب العوامل الاجتماعية دوراً بارزاً في التعميق من حدة الفقر، حيث إن تدني الخدمات التعليمية يؤدي إلى انتشار الأمية في أوساط الفقراء، وكذلك ضعف التدريب والتأهيل يقلل من الحصول على فرص العمل، وعليه تصبح الأسر الفقيرة غير قادرة على تلبية حاجاتها الأساسية بسبب ضعف الدخل، كما أن تدني الخدمات الصحية وضعف شبكات الضمان الاجتماعي يؤدي إلى سوء التغذية وانتشار الأمراض التي تفتك بهم وهذا ما يزيد الأسر الفقيرة أكثر فقراً ونقصد به الفقر المدقع. كما يؤدي النمو السكاني الهائل إلى زيادة عدد أفراد الأسرة مما يؤدي بالمقابل إلى ارتفاع نسبة الإعالة فيها، أي زيادة الأعباء على نفقات الأسرية بشكل لا يتناسب مع دخلها الشهري، فتصبح غير قادرة على تلبية أدنى متطلبات المعيشة لأفرادها مما يزيد من فقرها. 3- أسباب سياسية: مثل: الاستبداد السياسي، وسوء الإدارة الحكومية، والفساد، والحروب والصراعات التي تؤدي إلى تدمير البنية التحتية وتشريد الملايين، مما يزيد من حدة الفقر. حيث لا تكتفي الحروب بالدمار وقتل البشر وتشريدهم. بل تخلف وراءها الأمراض والفقر المدقع. حيث قال تقرير حديث للأمم المتحدة إن الحروب والنزاعات المسلحة في بعض البلدان، تسببت في ارتفاع معدل الفقر بثلاث مرات، كون عدد النزاعات المسلحة المسجل في 2023 سجل أعلى مستوى له منذ الحرب العالمية الثانية. 4- أسباب بيئية: مثل الكوارث الطبيعية، وتدهور الأراضي، ونقص المياه. حيث أدى التغير المناخي إلى التأثير على الزراعة والإنتاج الغذائي، مما يزيد من حدة الفقر. وفي هذا السياق صدر تقرير البنك الدولي حول " كيفية حماية الفقراء من الكوارث الطبيعية "، الذي يشير إلى أن حجم الخسائر المترتبة على الكوارث الطبيعية من فيضانات وأعاصير وزلازل وبراكين يناهز 520 مليار دولار، ما يؤدي إلى زيادة عدد الفقراء في العالم، وبصفة خاصة في الدول النامية، وبصورة أخص بين فقرائها الـ 26 مليوناً، ويشير التقرير إلى أنه إذا تم التحكم في الكوارث الطبيعية بصورة أسرع وأكفأ، فإنه يمكن توفير 100 مليار دولار في السنة تعود منفعتها إلى الحد من الفقر في العالم. 5- أسباب تتعلق بانتشار الأوبئة: تؤثر الأوبئة مثل جائحة كوفيد-19 (كورونا) على الاقتصادات وتزيد من معدلات الفقر. وبعد جائحة كورونا بدأ الاقتصاد العالمي في التعافي من الويلات الاقتصادية لهذه الجائحة، مع توقع تحقيق معدل نمو بنسبة 5.6% في عام 2021. لكن هذا التعافي متفاوت. إذ تواجه البلدان الأفقر أزمة أعمق وأطول أمدا أدت إلى زيادة معدلات الفقر في العالم وعكس مسار الاتجاهات الأخيرة لتقليص عدم المساواة. والنتيجة هي أن تأثير جائحة كورونا هو الأكبر بالنسبة للفئات الأشد فقراً في العالم. ففي عام 2021، انخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأشد فقراً من السكان في توزيع الدخل العالمي بنسبة 6.7% عن توقعات ما قبل الجائحة، في حين انخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأشد ثراء من السكان بنسبة 2.8%. والسبب في هذا الاختلاف الكبير هو أن الأربعين في المائة الأشد فقراً من السكان لم يبدأوا في استعادة خسائر دخلهم، في حين استعاد الأربعين في المائة الأكثر ثراء ما تجاوز 45% من خسائر دخلهم الأولية. وبين عامي 2019 و2021، انخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأشد فقراً من السكان بنسبة 2.2%، في حين لم ينخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأعلى ثراء إلا بنسبة 0.5%. وفي الختام، يمكن القول بأن الفقر له عديد من الأبعاد السلبية التي بدورها تعزز من عمق الظاهرة، فهي أسباب ونتائج في ذات الوقت، كعجلة تدور تحتاج إلى من يوقف رحاها، ويظهر الفقر جلياً في المجتمعات الهشة بالأخص مجتمعات اللجوء والنزوح.
ثالثاً- آثار الفقر على الفرد والمجتمع: يعتبر الفقر ظاهرة ذات تأثير سلبي على أغلب الفئات الهشة اجتماعياً، ويمتد أثر الفقر على الفرد والمجتمع ليشكل عبئاً حقيقياً على الموارد والفرص المتاحة، وينعكس على مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات. بذلك للفقر آثار سلبية عميقة على الأفراد والمجتمعات، وهي كالآتي: أ- تأثير على الصحة: ارتفاع معدلات الأمراض، سوء التغذية، وانخفاض متوسط العمر المتوقع. بذلك يظهر أثر الفقر صحياً بانتشار الأمراض والأوبئة نتيجة قلة الثقافة الصحية وضعف القدرة المالية ضمن المجتمعات الفقيرة، حيث لا يمتلك الفقير التكاليف اللازمة للعلاج أو الاستشارات الطبية. ب- تأثير على التعليم: انخفاض معدلات الالتحاق بالمدارس، وارتفاع معدلات التسرب المدرسي. بمعنى آخر، ينجم عن الفقر انتشار الجهل نتيجة تراجع اهتمام الأهل بالتعليم على حساب البحث عن مصادر دخل إضافية. ويكون الأطفال هم المتضرر الأكبر من التسرب المدرسي حيث يضطرون للمساعدة ذويهم بتحقيق الدخل عبر العمالة في مهن تكون في الغالب عالية المخاطر. ج- تأثير على التنمية: يعيق الفقر التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويؤدي إلى استمرار الدائرة المفرغة للفقر. د- تأثير على الاستقرار الاجتماعي: يزيد الفقر من خطر اندلاع الصراعات والعنف، حيث يمتد الأثر السلبي للفقر ليشمل تهديد حالة الأمن القومي في المجتمعات، فشعور الحرمان المترافق مع الجهل والإحباط وغياب العدالة الاجتماعية يشكل بؤرة مناسبة لتوليد العنف على مختلف مستوياته الأسرية والمجتمعية. وتتجلى آثار الفقر في تولد العنف بعدة أشكال: - التعنيف المنزلي تجاه الأطفال والنساء (الأكثر هشاشة). - انتشار حالات الجريمة من سرقة ونهب في المجتمع. - الاضطرابات السياسية والأمنية نتيجة بعض الاحتجاجات التخريبية والجرائم.
رابعاً- مكافحة الفقر: لمكافحة الفقر، يجب علينا اتباع نهج شامل يركز على ما يلي: 1) النمو الاقتصادي المستدام: وهو التنمية الاقتصادية التي تحاول تلبية احتياجات البشر ولكن بطريقة تحافظ على الموارد الطبيعية والبيئة للأجيال القادمة مما يؤدي إلى خلق فرص عمل، وتشجيع الاستثمار، وتنويع الاقتصاد. 2) التوزيع العادل للثروة: تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتوفير شبكات أمان اجتماعي. بمعنى أدق، فمن واجب الدولة، ضمان التوزيع العادل للثروة في المجتمع، ويتحقق ذلك من خلال آليتين أساسيتين هما العمل والحاجة، فعلى أساس العمل الذي يبذله المواطن، ينال حصته من المال العام. ولذا تسعى الدولة في أن ينال العاملون لديها أو في القطاع الخاص أجوراً عادلة ومنصفة وكريمة، ما يحقق مبدأ العدالة الاجتماعية 3) التعليم: أي الاستثمار في التعليم الجيد للجميع، وتوفير فرص التعلم مدى الحياة، حيث يسهم التعليم في رفع مستوى الوعي والفهم حول أهمية التنمية المستدامة ومبادئها من خلال المناهج التعليمية. وتقوم المناهج الدراسية بتعزيز الوعي وتعليم قيم وسلوكيات وأساليب الحياة اللازمة من أجل تحقيق مستقبل مستدام. كما يساهم التعليم في التنمية الاقتصادية بتأهيل الأفراد لسوق العمل، وهذا يعمل على رفع الوعي بالعمل وزيادة فرص العمل لديهم. 4) الرعاية الصحية: ضمان الحصول على الرعاية الصحية الأساسية للجميع. حيث لا يتمكن الكثير من الفقراء، بل نسبة كبيرة من الشرائح السكانية متوسطة الدخل من الحصول على الرعاية الصحية الضرورية في كثير من البلدان. وتحاول المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية مساعدة الدول والشرائح الاجتماعية الفقيرة على سد العجز في الخدمات الصحية الضرورية. وتحث الاتفاقيات الدولية الحكومات على تقديم الرعاية الصحية وخصوصاً للشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجاً وتعتبرها جزءاً من حقوق الإنسان. وتلجأ الشرائح السكانية الأوفر حظاً والأعلى دخلاً للرعاية الصحية العامة بدرجة أقل نظراً لقدرتها على توفير رعاية طبية بمواردها الذاتية. ولا تستهدف الرعاية الصحية الحكومية الشرائح السكانية الغنية ولا توفر ولا ينبغي أن توفر بعض الخدمات الصحية أو المرافقة للخدمات الصحية التي يطلبها السكان الأعلى دخلاً. وهذا قد يفسر تراجع حماسة الشرائح السكانية مرتفعة الدخل والمؤثرة على صناعة القرار للإنفاق على الرعاية الطبية العامة. ومن هذا المنطلق تكتسب الرعاية الصحية التي تستهدف الفقراء والشرائح السكانية الأخرى الضعيفة ومنخفضة الدخل أهمية قصوى في تحسين أوضاع هذه الشرائح. 5) الحوكمة الرشيدة: أي مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة. في حقيقة الأمر، لم يظهر الاعتراف العالمي التدريجي بالحاجة إلى الحوكمة الرشيدة إلا منذ التسعينيات وما بعدها. وعلى الرغم من وجود معاني مختلفة لمصطلح الحكومة الرشيدة، إلا أن المصطلح يرتبط بشكل عام بالأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر ضرورية لتحقيق التنمية. وبالتالي، فإن (الحوكمة الرشيدة) هي العملية التي تدير بها المؤسسات العامة الشؤون العامة وتدير الموارد العامة بطريقة تعزز سيادة القانون وإعمال حقوق الإنسان (الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية). خلاصة القول، تعتبر مشكلة الفقر ظاهرة متعددة الأوجه لا يمكن فهم الفقر بشكل كامل من خلال التركيز على بعد واحد فقط. ومكافحة الفقر تتطلب جهوداً مشتركة حيث يجب على الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والأفراد العمل معاً لمكافحة الفقر المجتمعي. أي إن الفقر مشكلة معقدة تتطلب حلولاً شاملة ومتعددة الأبعاد. من خلال العمل الجماعي والالتزام السياسي، يمكننا بناء مستقبل أكثر عدالة ورخاء للجميع.
خامساً- تفسير النظريات السوسيولوجية المعاصرة لمشكلة الفقر: في هذا السياق سنحاول الاعتماد على مجموعة من مقولات النظريات الحديثة والمعاصرة لفهم وتحليل وتفسير مشكلة الفقر، وهي كالآتي: أولاً- النظرية الماركسية: تعتبر الماركسية نظرة نقدية للرأسمالية، حيث تقدم تحليلاً عميقاً لأسباب الفقر وتداعياته. وترى الماركسية أن الفقر ليس حالة فردية أو نتيجة لخلل في شخصية الفرد، بل هو نتيجة مباشرة للبناء الاقتصادي، والاجتماعي، للمجتمع الرأسمالي. بذلك ترفض هذه النظرية اعتبار مشكلة الفقر ناتجة عن طبيعة إنسانية وتنتقد بشدة أصحاب هذا الاتجاه وخاصة الاتجاه المالتوسي وتضع هذه الظاهرة في سياقها التاريخي منتقدة في الوقت ذاته أطروحات الاقتصاد السياسي الذي أُسس على الإيديولوجية المبنية على احترام وتقديس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، حيث يرى ماركس أن الوضع الأمثل للنظام الرأسمالي يقتضي وجود طبقتين طبقة مالكة لوسائل الإنتاج (غنية) وطبقة غير مالكة لوسائل الإنتاج (فقيرة)، كما يقتضي وجود جيش احتياطي من العمال العاطلين للتحكم في المطالب وأشكال التفاوض بين الطبقتين الأمر الذي ينتج عنه طبقة عريضة فقيرة وطبقة قليلة مالكة لكل وسائل الإنتاج. 1- تُرجع الماركسية أسباب الفقر إلى ما يلي: أ- الاستغلال الطبقي: يرى ماركس أن " تاريخ المجتمعات الإنسانية ليس إلا صراع طبقي "، وبالتالي يذهب إلى أن المجتمع الرأسمالي ينقسم إلى طبقتين رئيسيتين: البرجوازية (مالكي وسائل الإنتاج) والبروليتاريا (الطبقة العاملة). الاستغلال يتمثل في استيلاء البرجوازية على فائض القيمة الذي ينتجه العمال، مما يؤدي إلى تركز الثروة في أيدي قلة وزيادة الفقر بين الجماهير. ب- الملكية الخاصة بوسائل الإنتاج: يعتبر ماركس أن الملكية الخاصة بوسائل الإنتاج هي جوهر المشكلة، فهي تسمح لقلة من الناس بالسيطرة على الاقتصاد وتوجيهه لصالحهم الخاص، مما يؤدي إلى عدم المساواة وتعميق الفقر. ج- أزمات الرأسمالية الدورية: ترى الماركسية أن الرأسمالية عرضة لأزمات دورية تؤدي إلى زيادة البطالة والفقر، فهذه الأزمات ناتجة عن التناقضات الداخلية للرأسمالية، مثل التفاوت المتزايد بين الإنتاج والاستهلاك. د- الإيديولوجية البرجوازية: تعمل البرجوازية على نشر إيديولوجية تحمّل الفقراء مسؤولية فقرهم، وتبرر عدم المساواة. وهذه الإيديولوجية تساعد على الحفاظ على النظام الرأسمالي ومنع الثورة. 2- حلول مقترحة للقضاء على مشكلة الفقر حسب وجهة نظر الماركسية: تنحصر تلك الحلول والمقترحات فيما يلي: أ. الثورة الاشتراكية: ترى الماركسية أن الحل الوحيد الجذري لمشكلة الفقر هو الثورة الاشتراكية التي تقضي على الملكية الخاصة بوسائل الإنتاج وتؤسس مجتمعاً اشتراكياً يعتمد على الملكية الجماعية والعدالة الاجتماعية. ب. إلغاء الاستغلال الطبقي: تسعى الماركسية إلى بناء مجتمع خالٍ من الطبقات الاجتماعية (التفاوت الطبقي) والاستغلال، حيث يتم توزيع الثروة بشكل عادل بين جميع أفراد المجتمع. ج. قيام الدولة الاشتراكية: حيث تلعب الدولة الاشتراكية دوراً حيوياً في التخطيط للاقتصاد وتوزيع الثروة، وضمان حصول الجميع على الاحتياجات الأساسية. 3- تقييم وجهة نظر الماركسية لمشكلة الفقر (رؤية نقدية): من خلال مناقشة ما يلي: أ. نقاط القوة: تنحصر فيما يلي: 1) قدمت الماركسية تحليلاً عميقاً لأسباب الفقر في المجتمع الرأسمالي. 2) أثرت بشكل كبير على الحركات الاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء العالم. 3) دعت إلى بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة (بناء المجتمع الشيوعي). ب. نقاط الضعف: يمكن لنا نقد نظرة الماركسية لمشكلة الفقر من خلال ما يلي: 1) تم انتقاد الماركسية لتبسيطها الشديد للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية. 2) فشلت التجارب الاشتراكية في تحقيق العدالة الاجتماعية الموعودة. 3) هناك جدل حول إمكانية الثورة البروليتارية (الفاعل الثوري التاريخي) في حل مشكلة الفقر. في الختام، قدمت الماركسية رؤية نقدية عميقة لمشكلة الفقر، من خلال تسلط الضوء على أسبابها الجذرية القائمة في قلب الواقع الاجتماعي أي إنها ليس مشكلة لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إليها، إلا أنها لا تزال تشكل إطاراً نظرياً هاماً لفهم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. ثانياً- النظرية البنائية الوظيفية: ترتكز نظرية البنائية الوظيفية على فكرة التكامل بين الأجزاء في كل واحد، والاعتماد المتبادل بين العناصر المختلفة للمجتمع، بذلك فإن التغيير في أحد الأجزاء من شأنه أن يحدث تغيرات في الأجزاء الأخرى. يرى أصحاب هذه النظرية أن البناء الاجتماعي هو عبارة عن نسق كلي مترابط ومتماسك، وهو بدوره مكون من مجموعة أنساق جزئية تربطها علاقات متبادلة، ولكل من هذه الأنساق دور ووظيفة يقوم بها، وأن حدوث أي خلل يصيب أداء أي عضو في النسق يؤدي ذلك إلى حدوث خلل في باقي الأنساق وفي البناء الكلي من حيث تركيبته الوظيفية. فهي تفسر الظواهر الاجتماعية من خلال المؤسسات الاجتماعية، حيث إن تماسك وانسجام هذه المؤسسات فيما بينهما يحسن من أدائِها الوظيفي، وترى هذه النظرية أن كل نسق يقوم بدوره وعملياته الاجتماعية على ضوء بنائه الداخلي الذي يوجد فيه، سواء كان بنية مادية أو بنية اجتماعية. وعلى عكس النظرية الماركسية التي تركز على مفهوم الصراع الطبقي في رؤيتها لمشكلة الفقر، تذهب النظرية البنائية الوظيفية إلى أن المجتمع عبارة عن كائن حي متكامل، حيث تلعب كل جزء دوراً محدداً في الحفاظ على استقرار النظام الاجتماعي. 1- تفسر النظرية البنائية الوظيفية لمشكلة الفقر: أ- الفقر كوظيفة اجتماعية: ترى النظرية البنائية الوظيفية أن الفقر ليس مجرد حالة فردية أو اجتماعية غير مرغوبة، بل هو جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي وله وظائف معينة. ب- حافز للعمل: وجود الفقراء يحفز الأغنياء على العمل بجد للحفاظ على مكاسبهم، كما يحفز الفقراء على السعي لتحسين أوضاعهم. ج- توفير الخدمات: وجود الفقراء يخلق حاجة إلى مؤسسات اجتماعية تقدم الخدمات لهم، مثل: المؤسسات الخيرية والخدمات الاجتماعية. د- تحديد الهوية: من خلال مقارنة أنفسهم بالفقراء، يشعر الأغنياء بقيمتهم الاجتماعية ومكانتهم. هـ- عدم التوازن كسبب للفقر: عندما يحدث خلل في النظام الاجتماعي، مثل: الاضطرابات الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة الفقر وعدم الاستقرار. و- الأدوار الاجتماعية: ترى النظرية أن للأفراد أدواراً اجتماعية محددة، والفقراء هم من يؤدون دوراً معيناً في النظام الاجتماعي. 2- نقد النظرية البنائية الوظيفية: يمكن لنا نقد النظرية البنائية الوظيفية من خلال التركيز على النقاط التالية: أ- تبرير الوضع القائم: تنتمي هذه النظرية إيديولوجياً إلى النظريات المحافظة (أي المحافظة على الوضع القائم)، حيث يرى منتقدو هذه النظرية أنها تميل إلى تبرير الوضع القائم، وعدم ترسيخ مبادئ المساواة الاجتماعية، حيث تعتبر الفقر جزءاً طبيعياً من النظام. ب- إغفال الصراع الطبقي: تتعرض النظرية لانتقاد لتجاهلها للصراعات والصراعات التي تحدث في المجتمع، وخاصة الصراع الطبقي. ج- تبسيط أسباب حدوث الفقر في المجتمع: تُتهم النظرية بأنها تبسط الأسباب الكامنة وراء الفقر، حيث تقلل من أهمية العوامل الاقتصادية والسياسية لأنها تتصف بالنظرية المحافظة. خلاصة القول تقدم النظرية البنائية الوظيفية تقدم نظرة مختلفة تماماً عن الماركسية لمشكلة الفقر. بينما ترى الماركسية أن الفقر هو نتيجة للاستغلال والتفاوت الطبقي، بينما ترى النظرية البنائية الوظيفية أن الفقر هو جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي وله وظائف معينة. ومن الملاحظ أن كلتا النظريتين تقدمان تفسيرات قيمة لمشكلة الفقر، ولكن لكل منهما نقاط قوتها وضعفها. ولفهم أعمق لمشكلة الفقر، يجب علينا الأخذ بمقولات نظريات سوسيولوجية أخرى من أجل تحقيق التفسير التكاملي. ثالثاً- النظرية التفاعلية الرمزية: على عكس النظريات البنيوية التي تركز على الأبنية الاجتماعية الكبرى، تهتم بدراسة التفاعلات اليومية بين الأفراد وكيفية بناء المعاني الاجتماعية من خلال هذه التفاعلات. 1- يرى هذا المنظور مشكلة الفقر من خلال التركيز على النقاط التالية: أ- الفقر كبناء اجتماعي: لا تنظر النظرية التفاعلية إلى الفقر كمجرد حالة اقتصادية، بل كبناء اجتماعي يتشكل من خلال التفاعلات اليومية بين الأفراد والمؤسسات. المعاني المرتبطة بالفقر، مثل "الكسل"، "الفشل"، أو "الحاجة"، تتكون وتتطور من خلال التفاعلات اللغوية وغير اللغوية بين الأفراد. ب- تأثير التسميات: تلعب التسميات والتصنيفات الاجتماعية دوراً حاسماً في تشكيل هوية الفقراء. عندما يُصنف شخص ما على أنه " فقير"، فإن هذا التصنيف يحمل معه مجموعة من التوقعات والسلوكيات التي يتوقع من الشخص أن يتبناها. ج- التفاعلات اليومية: تؤثر التفاعلات اليومية بين الفقراء وغير الفقراء على كيفية فهمهم لأنفسهم وللعالم من حولهم. قد يؤدي التمييز والوصم الاجتماعي إلى انخفاض احترام الذات لدى الفقراء، مما يزيد من صعوبة الخروج من دائرة الفقر. د- دور المؤسسات: تلعب المؤسسات الاجتماعية، مثل المدارس، ووسائل الإعلام، والسلطات، دوراً مهماً في ترسيخ المعاني المرتبطة بالفقر. وقد تنقل هذه المؤسسات صوراً نمطية عن الفقراء، مما يعزز الفجوات الاجتماعية ويصعب دمج الفقراء في المجتمع. 2- آليات التعامل مع الفقر حسب نظرية التفاعلية الرمزية: تنحصر بما يلي: أ- إعادة تعريف الهوية: تشجع النظرية التفاعلية على إعادة تعريف الهوية الاجتماعية للفقراء، وذلك من خلال تغيير المعاني المرتبطة بالفقر وتشجيع النظرة الإيجابية إلى الذات. ب- تغيير التفاعلات: تسعى النظرية إلى تغيير طبيعة التفاعلات بين الفقراء وغير الفقراء، من خلال تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل، وتقليل التمييز والوصم الاجتماعي. ج- تمكين الفقراء: تركز النظرية على تمكين الفقراء من خلال منحهم الأدوات والمعرفة اللازمة للمشاركة الفعالة في المجتمع واتخاذ قرارات تؤثر على حياتهم. 3- نقاط القوة والضعف: تنحصر فيما يلي: أ- نقاط القوة: 1) تركز النظرية على الجانب الإنساني للفقر، وتسلط الضوء على أهمية التفاعلات الاجتماعية في تشكيل المعاني والهويات. 2) تقدم النظرية رؤى قيمة حول كيفية تغيير النظرة الاجتماعية للفقر وتمكين الفقراء. ب- نقاط الضعف: 1) قد تقلل النظرية من أهمية العوامل الاقتصادية والسياسية التي تساهم في خلق الفقر. 2) قد يصعب تطبيق الحلول التي تقدمها النظرية في الواقع، خاصة في المجتمعات التي تعاني من تفاوتات كبيرة في الثروة والسلطة. خلاصة القول، تقدم لنا النظرية التفاعلية الرمزية نظرة فريدة لمشكلة الفقر، حيث تركز على البناء الاجتماعي للمعاني والهويات المرتبطة بالفقر. وهذه النظرية تشجع على إعادة التفكير في كيفية التعامل مع الفقر، وذلك من خلال تغيير النظرة الاجتماعية للفقراء وتمكينهم من المشاركة الفعالة في المجتمع. رابعاً- نظرية التبادل الاجتماعي: تعتبر نظرية ذات بُعد اجتماعي نفسي تسعى إلى فهم التفاعلات الاجتماعية على أنها عبارة عن تبادلات بين الأفراد والمجموعات، حيث يسعى كل فرد إلى تحقيق أقصى قدر من المكافأة بأقل قدر من التكلفة. 1- تفسير نظرية التبادل الاجتماعي لمشكلة الفقر من خلال التركيز على النقاط التالية: أ- عدم التوازن في التبادل: ترى هذه النظرية أن الفقر ينشأ عندما يكون هناك عدم توازن في التبادلات الاجتماعية. فالأفراد الفقراء غالباً ما يقدمون موارد أكثر مما يحصلون عليه، سواء كانت هذه الموارد مادية أو رمزية (مثل: الاحترام والاعتراف). ب- قلة الموارد المتاحة: يفتقر الفقراء إلى الموارد التي يمكنهم تقديمها في التبادلات الاجتماعية، مما يضعف قدرتهم على الحصول على موارد أخرى. ج- الشبكات الاجتماعية الضعيفة: غالباً ما يكون لدى الفقراء شبكات اجتماعية ضعيفة، مما يحد من فرصهم للحصول على المعلومات والدعم والمساعدات التي يحتاجونها. د- الوصم الاجتماعي: يواجه الفقراء وصماً اجتماعياً، مما يقلل من قيمتهم الاجتماعية ويجعل من الصعب عليهم بناء علاقات إيجابية مع الآخرين. 2- آليات تكريس الفقر وفقاً لهذه النظرية: تنحصر من خلال الآليات التالية: أ- دائرة الفقر: يرى أنصار هذه النظرية أن الفقر يدخل في دائرة مفرغة، حيث يؤدي نقص الموارد إلى ضعف القدرة على الاستثمار في التعليم والتدريب، مما يقلل من فرص الحصول على وظائف جيدة، وبالتالي يستمر الفقر. ب- القبول بالوضع الراهن: قد يقبل الفقراء بوضعهم، ويرون أن التغيير صعب أو مستحيل، مما يقلل من دافعهم للخروج من الفقر. 3- تقييم رؤية نظرية التبادل الاجتماعي لمشكلة الفقر: يمكن لنا توضيح ذلك من خلال ما يلي: أ- نقاط القوة: 1) تركيز على التفاعلات الاجتماعية: تساهم النظرية في فهم كيفية تأثير التفاعلات اليومية على حياة الأفراد، وكيف يمكن أن تساهم في تعزيز أو تقليل الفقر. 2) أداة تحليلية قوية: يمكن استخدام هذه النظرية لتحليل العلاقات الاجتماعية المختلفة، وفهم الدوافع وراء سلوك الاجتماعي للأفراد. ب- نقاط الضعف: أ- تبسيط العلاقات الاجتماعية: تتهم هذه النظرية بأنها تبسط العلاقات الاجتماعية المعقدة، وتقلل من أهمية العوامل الهيكلية والاجتماعية التي تؤثر على الفقر. ب- إغفال الجانب الوجداني: تركز النظرية بشكل كبير على الجانب العقلاني في التبادلات الاجتماعية، وتتجاهل الدور الذي تلعبه العواطف والعلاقات الاجتماعية الوثيقة. ج- عدم كفاية لشرح جميع أشكال الفقر: قد لا تكون هذه النظرية كافية لشرح جميع أشكال الفقر، مثل الفقر البنيوي الذي ينتج عن عدم المساواة في توزيع الثروة والسلطة. خلاصة القول، تقدم نظرية التبادل الاجتماعي منظوراً مفيداً لفهم مشكلة الفقر، حيث تربط بين الفقر والتفاعلات الاجتماعية التي يدخل فيها الأفراد. ومع ذلك، يجب أن يتم استخدام هذه النظرية جنباً إلى جنب مع نظريات أخرى للإحاطة بمشكلة الفقر من كافة الجوانب. خامساً- نظرية التشكيل البنائي: تقدم نظرية التشكيل البنائي لأنتوني جيدنز رؤية متكاملة للواقع الاجتماعي، حيث تتفاعل البنى الاجتماعية مع أفعال الأفراد، وتؤثر فيها وتتأثر بها في الوقت نفسه. 1- تفسير نظرية التشكيل البنائي لمشكلة الفقر من خلال التركيز النقاط التالية: أ- التفاعل بين البنية والفعل: ترى هذه النظرية أن الفقر ليس مجرد حالة ثابتة، بل هو نتيجة لتفاعل مستمر بين البنى الاجتماعية (مثل: النظام الاقتصادي، والسياسات الحكومية، والقيم الثقافية) وأفعال الأفراد. فالفقراء ليسوا ضحايا سلبيين، بل يتفاعلون مع أوضاعهم ويحاولون تغييرها. ب- إعادة إنتاج البنية: البنى الاجتماعية التي تؤدي إلى الفقر، مثل التفاوت في توزيع الثروة والسلطة، يتم إعادة إنتاجها من خلال تفاعلات الأفراد اليومية. فالأفعال التي يقوم بها الفقراء، مثل: (البحث عن عمل أو الاعتماد على المساعدات الاجتماعية، تساهم في الحفاظ على هذه البنى). ج- إمكانية التغيير: على الرغم من أن البنى الاجتماعية قوية، إلا أنها ليست جامدة. فالأفراد لديهم القدرة على تغيير هذه البنى من خلال العمل الجماعي والتعبئة السياسية. د- دور المعرفة والوعي: تلعب المعرفة والوعي دوراً حاسماً في تغيير البنى الاجتماعية. عندما يدرك الفقراء أسباب فقرهم، ويصبحون واعين بحقوقهم، يصبحون أكثر قدرة على التحدي والمقاومة. 2- ملامح مميزة لنظرية جيدنز في فهم الفقر تنحصر فيما يلي: أ- تركيز على الفعل: تركز النظرية على دور الفعل الفردي والجماعي في إنتاج وإعادة إنتاج البنى الاجتماعية. ب- التركيز على المعرفة والوعي: تؤكد النظرية على أهمية المعرفة والوعي في تمكين الأفراد من تغيير أوضاعهم. ج- التركيز على التغيير الاجتماعي: لا ترى النظرية الفقر كحالة ثابتة، بل كظاهرة اجتماعية قابلة للتغيير. 3- مقارنة نظرية التشكيل البنائي بنظريات أخرى أهمها: أ- النظريات البنيوية الوظيفية: تختلف نظرية جيدنز عن هذه النظريات في أنها تعطي أهمية أكبر لدور الفعل الفردي والتغيير الاجتماعي. ب- النظرية التفاعلية الرمزية: تتشابه نظرية جيدنز مع النظرية التفاعلية في التركيز على التفاعلات الاجتماعية، ولكنها تختلف في أنها تعطي أهمية أكبر للبنى الاجتماعية. خلاصة القول، تقدم نظرية التشكيل البنائي عند جيدنز رؤية متكاملة لمشكلة الفقر، حيث تربط بين البنى الاجتماعية وأفعال الأفراد. هذه النظرية تشجع على التفكير في حلول مبتكرة لمشكلة الفقر، من خلال التركيز على تمكين الفقراء وتعزيز الوعي بحقوقهم. سادساً- نظرية رأسمال الثقافي: يعتبر رأسمال الثقافي مفهوم أساسي في نظرية بيير بورديو، وهو يشير إلى مجموعة المعارف والمهارات والقيم التي يكتسبها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية والتعليم، والتي تؤهله للنجاح في المجتمع. ويرى بورديو أن هذا الرأسمال ليس مجرد معرفة نظرية، بل هو مجموعة من السلوكيات والعادات التي تحدد طريقة تفكير الفرد وتفاعله مع العالم من حوله. 1- العلاقة بين رأسمال الثقافي والفقر: يربط بورديو بين رأسمال الثقافي والفقر بعلاقة وثيقة. فهو يرى أن الفقر ليس مجرد نقص في الدخل المادي، بل هو حالة اجتماعية معقدة تتأثر بالعديد من العوامل، بما في ذلك رأسمال الثقافي منها يلي: أ- الاستبعاد الاجتماعي: فالأفراد الذين يفتقرون إلى رأسمال ثقافي كافٍ، غالباً ما يجدون صعوبة في الوصول إلى فرص التعليم الجيد والوظائف ذات الدخل العالي. وهذا الاستبعاد الاجتماعي يعزز من حدة الفقر ويجعل من الصعب على هؤلاء الأفراد الخروج من هذه الدائرة. ب- انتشار العنف: يرى بورديو أن الفقر يؤدي إلى انتشار العنف والانحراف، وذلك لأن الأفراد المحرومين من الفرص التعليمية والاجتماعية قد يلجؤون إلى سلوكيات عنيفة للتعبير عن غضبهم وإحباطهم. ج- إعادة إنتاج الطبقات: يرى بورديو أن رأسمال الثقافي يتم توريثه من جيل إلى آخر، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية. فالآباء الذين يمتلكون رأسمالاً ثقافياً مرتفعاً، غالباً ما ينقلون هذا الرأسمال إلى أبنائهم، مما يمنحهم ميزة تنافسية في الحياة، والعكس هو الصحيح. 2- آليات عمل رأسمال الثقافي: يمكن لنا تحددها من خلال مناقشة ما يلي: أ- الهابيتوس: يعتبر بورديو أن الهابيتوس هو مجموعة من الاستعدادات والتوجهات التي يكتسبها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية، وهو يشكل طريقة تفكيره وتصرفه. فالهابيتوس الخاص بالطبقات الاجتماعية المختلفة يختلف، مما يؤثر على فرص النجاح في الحياة. ب- المجالات الاجتماعية: يرى بورديو أن المجتمع يتكون من مجالات اجتماعية مختلفة، ولكل مجال قواعده الخاصة وأشكال رأسماله. فالنجاح في مجال معين يتطلب امتلاك نوع معين من رأسمال الثقافي. 3- توظيف مفهوم رأسمال الثقافي في مكافحة الفقر: يمكن ذلك من خلال الإجراءات التالية: أ- الاستثمار في التعليم: يجب التركيز على توفير فرص تعليمية جيدة للجميع، بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية. ب- تطوير البرامج الثقافية: يجب تطوير برامج ثقافية تساهم في تنمية مهارات الأفراد وقدراتهم. ج- مكافحة التمييز: يجب مكافحة جميع أشكال التمييز، سواء كان على أساس العرق أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية. د- تغيير البنى الاجتماعية: يجب العمل على تغيير البنى الاجتماعية التي تعزز عدم المساواة. خلاصة القول، يرى بيير بورديو أن رأسمال الثقافي يلعب دوراً حاسماً في تحديد فرص الفرد في الحياة. فهو يرى أن الفقر ليس مجرد نقص في الدخل المادي، بل هو حالة اجتماعية معقدة تتأثر بالعديد من العوامل، بما في ذلك رأسمال الثقافي. من خلال فهم العلاقة بين رأسمال الثقافي والفقر، يمكننا تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لمكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية. سابعاً- نظريات التحديث: هي مجموعة من النظريات الاجتماعية والاقتصادية التي تحاول تفسير عملية التحول من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة. هذه النظريات تربط بين عملية التحديث والتطور الاقتصادي والاجتماعي، وتعتبر أن التحديث هو الحل الأمثل لمشكلة الفقر. 1- الأساس المنطقي لنظريات التحديث: ترتكز نظريات التحديث على الفرضية القائلة بأن المجتمعات التقليدية تعاني من الفقر والجهل والمرض بسبب التمسك بالعادات والتقاليد القديمة، واعتمادها على الزراعة والصناعات الحرفية. في المقابل، ترى هذه النظريات أن المجتمعات الحديثة تتميز بالصناعة والتكنولوجيا، وارتفاع مستوى المعيشة، وتوزيع أكثر عدالة للثروة. 2- العناصر الأساسية لعملية التحديث: تنحصر فيما يلي: أ- التنمية الاقتصادية: تعتبر النمو الاقتصادي هو المحرك الرئيسي للتحديث، ويتم ذلك من خلال الاستثمار في الصناعة والتكنولوجيا، وتشجيع روح المبادرة والريادة. ب- التغيير الاجتماعي: يشمل هذا التغيير تحولات في القيم والمعتقدات والأعراف الاجتماعية، والتحول من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، وزيادة مستوى التعليم. ج- التحديث السياسي: يتضمن هذا التغيير بناء مؤسسات ديموقراطية قوية، وتقوية دور الدولة في التنمية، وتطوير البنية التحتية. 3- رؤية نظريات التحديث إلى الفقر: ترى هذه النظريات أن الفقر هو نتيجة لعدم وجود التحديث، وأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي الحل الأمثل للقضاء على الفقر. فمن خلال زيادة الإنتاجية، وتوفير فرص العمل، وتحسين مستوى المعيشة، يمكن القضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية. 4- انتقادات الموجهة لنظريات التحديث: على الرغم من شعبية نظريات التحديث، إلا أنها تعرضت لمجموعة من الانتقادات، وهي كالآتي: أ- التبسيط الزائد: تتهم هذه النظريات بتبسيط شديد لعملية التحديث، وعدم الاعتراف بالتعقيدات الثقافية والاجتماعية التي تواجهها الدول النامية. ب- إغفال التفاوت: تركز هذه النظريات على النمو الاقتصادي الكلي، وتغفل عن التفاوت في توزيع الثروة، مما قد يؤدي إلى زيادة الفقر بين بعض الفئات الاجتماعية. ج- الاعتماد على النموذج الغربي: تتهم هذه النظريات بأنها تعتمد على النموذج الغربي للتحديث، وتتجاهل خصوصية كل مجتمع وتاريخه. خلاصة القول، قدمت نظريات التحديث إطاراً لفهم عملية التنمية في الدول النامية، ولكنها تحتاج إلى تطوير وتعديل لتلائم الظروف المعاصرة. ويجب أن تأخذ هذه النظريات في الاعتبار التنوع الثقافي، والاجتماعي، والتحديات البيئية، والتفاوت في توزيع الثروة، وأن تسعى إلى تحقيق تنمية مستدامة وشاملة.
وفي الختام حاولنا من خلال هذا المقال العلمي تقديم نظرة سوسيولوجية متكاملة حول تفسير مشكلة الفقر في المجتمعات المعاصرة، إلا أن هذه المشكلة تعتبر من المشكلات المعقدة والشائكة تختلف باختلاف المجتمعات من حيث الزمان والمكان، واختلاف المظاهر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فيها. لذا هي بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود البحثية لفهمها وتفسيرها بهدف الحد من آثارها السلبية على الواقع الاجتماعي والإنساني مع مراعاة خصوصية الواقع المدروس.
#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)
Hossam_Aldin_Fayad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب السجون: نافذة على عالم المعاناة الإنسانية والإبداع (دراس
...
-
التحليل السوسيولوجي للنص الأدبي (رواية البؤساء للكاتب الفرنس
...
-
الأدب والمجتمع وجهان لعملة واحدة
-
الإذلال الاجتماعي: الوجه الآخر لنزع الصفة الإنسانية
-
الرؤى السلوكية بين التوجيه والسيطرة في فضاء السلوك الإنساني
-
المنهج التاريخي ودراسة الظواهر الاجتماعية (محاولة لفهم الحاض
...
-
أهمية البعد التاريخي في الدراسات السوسيولوجية
-
يوتوبيا الخلاص النهائي للإنسان المعاصر
-
منهج المسح الاجتماعي والدراسات الوصفية
-
في تأسيس النظرية السوسيولوجية محاولة للفهم
-
ترسيخ الوعي النقدي للغة من أجل التحرر الاجتماعي
-
قضايا الثقافة (الثقافة نمط حياة)
-
إرهاصات نظرية الاختيار العقلاني في تفسير السلوك الإنساني
-
في تحليل الخطاب (اللغة والواقع الاجتماعي)
-
اللغة كمرآة للثقافة (توأم في جسد واحد)
-
حول مفهوم التحليل السوسيولوجي
-
المنهج التجريبي في البحوث الاجتماعية
-
الثقافة؛ رؤية معاصرة لمفهوم قديم...
-
البحث الاجتماعي وأنواعه
-
الشخصية التجنبية (اضطراب نفسي يتسم بالخوف والحذر الشديد)
المزيد.....
-
بيان سعودي يعلق على خريطة -إسرائيل التاريخية- بعدما نشرتها -
...
-
وفاة جان ماري لوبان.. لماذا يصف جزائريون -اليميني المتطرف- ب
...
-
ملكة جزماتي.. -طباخة ميركل- تتحدث لترندينغ عن عودتها إلى سور
...
-
شاهقة مائية استثنائية وأمطار غزيرة وسيول جارفة تضرب السعودية
...
-
تحذيرات صارمة من فريق ترامب لموظفي البنتاغون.. إثبات الولاء
...
-
هل العالم مستعد لمواجهة الجائحة المقبلة؟
-
توقف حركة الطيران بين سوريا والإمارات بشكل مؤقت
-
فريق ترامب يعتقد أن التوصل إلى اتفاق أمني بين روسيا والولايا
...
-
مسؤولون إسرائيليون: الجيش اللبناني ضعيف.. قادة يتعاونون مع ح
...
-
فرنسا: تصريحات ترامب حول غرينلاند شكل من أشكال الإمبريالية
المزيد.....
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|