أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد صبيح - نشوة عابرة















المزيد.....


نشوة عابرة


خالد صبيح

الحوار المتمدن-العدد: 8213 - 2025 / 1 / 5 - 01:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


النشوة التي يمر بها السوريون الآن، أيٍّا كان مسماها؛ نشوة الخلاص، نشوة "النصر"، أو نشوة الارتماء في المستقبل، سمها ما شئت، هي نشوة مستحقة بالتأكيد، يستحقها الشعب الذي عانى من ضغط الاستبداد لعقود، لكنَّ تلك النشوة التي صاحبها شعور مفرط بالتفاؤل لدى مجموع واسع من السوريين ونخبهم، ليست غريبة على العراقيين الذين عاشوا، قبل عقدين من الزمن، ما يشبه تلك النشوة عند سقوط نسختهم من الاستبداد المنفلت في بغداد.

انتشى العراقيون آنذاك، لاسيما النخب المثقفة، وبنوا آمالا عريضة على مستقبل بلدهم، ورسموه بألوان رغباتهم الزاهية، لكنهم اكتشفوا بعد زمن قصير ما كانوا غافلين عنه.

اكتشفوا صلابة الواقع بوقائعه الخشنة وتعارضه مع رغباتهم وتصوراتهم عن مجتمعهم، وعن قدراتهم وتركيبتهم، بل وكشفوا أيضا عن ادراك مفرط في السذاجة لواقع السياسة كلها.

وما يعيشه السوريون الآن شبيه الى حد كبير بما عاشه وشعر به العراقيون قبلهم وأملوا به، ولا أتمنى أن يصابوا بخيبة الأمل التي أصابت جيرانهم العراقيين، بعدما اكتشفوا محدودية فرصهم، والمآل الذي وصل إليه نظامهم السياسي، وما يعيشه مجتمعهم من نكوص وتردي بالوعي والإرادة.

و ما كان العراقيون غافلين عنه، ويبدو أن السوريين سائرين نحوه، هو انعدام قدرتهم على ادراك طبيعة التبدلات الكبيرة التي طرأت على المجتمع الذي كان عليهم أن يحيوا فيه بعد سقوط النظام، لاسيما وأن المعارضة السياسية، والنخب الثقافية، كانت في غالبها تعيش في المنافي، ولم تكن في تواصل مع مجتمعها بسبب الانغلاق والجدران العازلة التي كان نظام "صدام حسين" يحيط بها المجتمع. وفوجئ كثيرون منهم بحجم ونوع التبدلات التي طرأت على الواقع الاجتماعي لحد لم يستطع عقلهم استيعابه، وقبل ذلك ادراك نوعه وحجمه واتجاهه.

ومن منظور مقارن، نجد أن هناك تشابهات و تناظرات عديدة بين الحالة العراقية والسورية، ولكن المقارنة بين نظامي الحكم في كلا البلدين، وطبيعة المجتمعين، تميل دائما، برأيي، لصالح السوريين.

فيصعب منطقيا وصف النظام السوري، رغم استبداده ودمويته، أنه توأم للنظام العراقي، على الأقل في مراحل ما قبل 2011، وذلك ببساطة لأن نظام "صدام حسين" لن يفوز بأي مقارنة بينه وبين أي نظام على الكرة الأرضية، فقد فاق الجميع بهمجيته وطغيانه، وشواهد ذلك أكثر من أن تحصى.

وقد يدخل في عالم الفكاهة السوداء القول، إن معارضي النظام العراقي، خصوصا التيارات العلمانية منهم، كانوا يتمنون، مجازا، لو أن مستوى استبداد نظام بغداد كان بنفس شكل الاستبداد السوري، ولم يكونوا طبعا ليفكروا أبدا بترف تمني التشابه مع النظام المصري، نظام "حسني مبارك"؛ حيث معارضة وأحزاب وصحف وحرية تعبير، رغم شكلية بعضها، وهشاشة بعضها الآخر .. الخ.

ففيما كان المعارض العراقي يُعدم لمجرد انتماءه وبالظنون، كان المعارض السوري يُسجن. صحيح أن مدد السجن في سورية مخيفة و"بلا ضفاف"، وتمتد أحيانا، تعسفا، طوال حياة المعارض السياسي، (كما حدث مع صلاح جديد)، وتتصف أحيانا أخرى بقسوة مفرطة، (السجن الانفرادي لرياض الترك 17 عاما)، لكن في النهاية، يمكن للإنسان أن يخرج من السجن، لكنه لن يخرج من القبر أبدا.

عزى بعض من نظر في هذه المقارنة الاختلاف بين النظامين، رغم جذرهما الأيديولوجي البعثي الذي تحوطه شبهات فاشية عديدة، إلى أنه يعود الى اختلاف في البنية الحضرية للمجتمعين. فالمجتمع العراقي فيه نبرة تخلف وخشونة وحديَّة مع مقدار كبير من القسوة، فيما كانت الثقافة والبيئة الشامية بعمومها ميالة للتصالح والتفاهم والتعايش.

الفرد العراقي قد يفاجئك بردة فعله غير المتوقعة وغير المتناسبة غالبا مع الفعل، مرة تراه يمارس حدة وعنف في غير مكانهما، ومرة لينًا أو تنازلًا في غير أوانه. فيما الشامي ودود ويمكن معرفة خطوته القادمة. وكثير من العرب، بحسب معايشتي وتجربتي، يرتابون في شخصية العراقي ويتجنبونها، ولا يستطيعون، هم وغيرهم، على التعامل بثقة وأريحية مع العراقي إلا حين يقتربون منه. وبتقديري إن هذه من أهم خصائص شخصية الفرد العراقي، اعني يصعب فهمه دون الاقتراب منه. بينما الشخصية الشامية ودودة وعملية ومفهومة بقدر كافٍ للتفاهم والتعامل معها.

قد يُرجع من ينظر في هذه التباينات الأمر الى جذر ثقافي وتاريخي، ويعزو طبيعة الشاميين المرنة إلى أثر شخصية "معاوية بن أبي سفيان"، حاكم الشام لعقود طويلة، التي عرفت في التاريخ العربي بالدهاء والصبر والنفعية. لكن كثيرين يرون أيضا غضاضة في استيعاب فكرة أن هناك خصالا وطبائع محددة يمكنها أن تطبع شعبا أو جماعة بصفات ثابتة عابرة للزمان والمكان والتاريخ، وتشكل بنيتهما النفسية والذهنية، وبالتالي نظرتهما للاشياء وسلوكهما ازاءها.

التناظرات والتمايزات التي أشرت لها كانت ممكنة في الماضي، غير أن الواقع السوري شهد تغيّرًا نوعيا بعد 2011. فبعد أن اختار "بشار الأسد"، مصيرا مغايرا لما أوشك أن يمنحه إياه التاريخ، بعد موت أبيه، حينما أتيح له أن يقود تحولا في شكل السلطة، المغلقة والقمعية، من خلال تجربة "ربيع دمشق" المبتورة، التي ابتدأها في بداية توليه الحكم، حيث أتيح له أن يختط مسارا إصلاحيا تدرجيا نحو إعادة بناء للسلطة والمجتمع مبني على الحوار والتفاهم والتقارب بين جميع القوى الحية في المجتمع، (كان نجاح مثل هذه التجربة سيقطع الطريق حتما على البديل الإسلامي الذي تحوم أشباحه الآن فوق دمشق)، ويدخل التاريخ كمصلح تجرأ، في لحظة تاريخية فاصلة، على الوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ، بدلا من مجرد دكتاتور هارب تلاحقه لعنات شعبه.

وخيار بشار هذا قد أدخل السوريين بعد انتفاضة 2011، في دائرة جهنمية، توالى الضغط عليهم فيها من النظام، بتوحشه الذي حفزته تهديدات التغيير، ومن البدائل الظلامية المدعومة خارجيا التي تناوئه، وتحوّل احتجاج الجماهير السلمي "كما يفترض" إلى عنف مسلح دموي وعدمي في محطات كثيرة من مسار الصراع. واشتدت حول ذلك آلة القمع وتفاقمت الأزمات بعد الحصار الذي فرضه الأمريكان والأوربيون على الاقتصاد السوري، الذي نتجت عنه، بالمحصلة النهائية، آثارًا مدمرة على المجتمع، أدت فيما أدت إليه، وبشكل ما يزال مستمرا، الى تحول نوعي في وعي عامة الناس يماثل نظيره العراقي، شوه وما يزال طبيعة المجتمع، الأمر الذي انعكس وسينعكس بالضرورة على مزاج الناس وعقليتهم واستعداداتهم، ما سوف يهدد أي بديل عقلاني محتمل للنظام. بمعنى آخر، إن ما تركته الحرب الأهلية والأزمة الاقتصادية، والقمع والتفكك الاجتماعي الذي صاحبها ونتج عنها، سيكرس أمراضا اجتماعية ستجد أصداءها في الاصطفافات السياسية ونوع خيارات الناس السياسية، التي سيغلب عليها، بدرجة ما، ومثلما حدث عند الجار العراقي، الطابع النفعي، والتي سيكون المستفيد الوحيد، او الأكبر منها، من يمتلك المال والسلطة، وأدوات التضليل، وغالبا ستكون هذه بيد القوى الإسلامية التي تتصدر المشهد اليوم.

بهذا المعنى تتشابه التجربة السورية مع نظيرتها العراقية، فالحصار الذي فُرض على العراق، مصحوبا بقمع واستهتار السلطة، أديا إلى ولادة جمهور واسع محدود الوعي تحركه الأهواء والعصبيات، ويسهل التحكم، به فأدى ذلك إلى هيمنة الأحزاب الإسلامية على السلطة ومقدرات المجتمع، التي حولت البلد إلى إقطاعات حزبية، واستولت على الثروات وحولتها الى وسيلة للثراء الشخصي وللكسب السياسي في مجتمع قابل للشراء. وهذه هي ذات الوصفة، التي في طريقها إلى التطبيق الآن، كما توحي بعض المقدمات، في سورية، لكن مع بعض الاختلافات التي قد تصب في النهاية" كما آمل وأتمنى" لصالح الشعب السوري والبديل المدني الديمقراطي المحتمل.

ومن بين أهم الاختلافات بين واقعي المجتمعين الجارين، العراقي والسوري، هي السياق الزمني الذي جاء فيه حصار الشعب السوري، فقد كان ذلك في زمن تكنلوجيا المعلومات؛ الانترنيت والساتلايت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي حولت العالم إلى ساحة مشتركة مفتوحة للجميع، وقد أعان هذا السوريين في كل مكان على متابعة الوقائع، وشؤون بلدهم والعالم، وفهمهما.

(عند زيارتي للعراق في 2003، لاحظت بوضوح الحالة المزرية للناس هناك، ليس فقط العوز والفقر وتراجع المستوى الحضري للمدن، وإنما المحدودية الثقافية التي كان عليها الناس هناك، ونوع الكتب والثقافة التي يطلعون عليها والتي كانت تشرح وتعكس فقر اطلاعهم المدقع على شؤون العالم).

الفارق الآخر هو أن سقوط النظام السوري لم يأت على يد قوى أجنبية واحتلال عسكري كما حدث في العراق، رغم أن التدخلات الخارجية؛ التركية والإسرائيلية والأمريكية، غير خافية، إضافة إلى تهافت الأوربيين والعرب الآن على سلطة "الجولاني"، الذي يؤكد هذه التدخلات، مع ذلك أقول، إن هذا العامل سوف يقلل من حدة الاحتدامات والتوترات الاجتماعية والسياسية المحتملة في المجتمع، بالإضافة طبعا إلى ما يبعثه من طمأنينة الإرث السياسي للمجتمع السوري الذي لم يشهد استقطابات طائفية أو عرقية حادة، تقريبا طوال تاريخه المعاصر، ناهيك عن الصدام والصراع بين مكوناته الاجتماعية.

كل هذه الأشياء ترجح كفة السوريين على أقرانهم العراقيين وتبعدهم، افتراضيا، بدرجة آمنة عن مصيرهم. لكن مهما كانت الإيجابيات التي تحملها كفة المقارنة السورية إزاء قرينتها العراقية، فإن وطأة حصار وقمع وحرب أهلية لا يمكن الاستهانة بها، ولا يمكن الاعتماد على تخطي مصاعبها فقط بالنوايا الحسنة، أو بالآمال التي يعبر السوريون عنها اليوم في نشوة الفرحة بسقوط النظام التي آمل أن لا تتحول إلى خيبة أمل و... نشوة عابرة.



#خالد_صبيح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دروب -الجولاني- الوعرة
- مشرحة بغداد، مشرحة الأحياء!
- تعلموا من الأمريكان!
- اللعب على حبل التوازن
- اليد الخفية
- رصيد الغضب
- مخازن للأدعية
- آن الأوان
- هينز الفريد كيسنجر
- ما يريدونه و ما يستطيعونه
- خطوط حمر لا أخلاقية
- بين الواقع والمؤامرة
- بداية ونهاية
- مفترق 14 تموز
- هل سيعيد التاريخ نفسه؟
- ممكنات التغيير في الأنظمة الشمولية
- ما وراء عبّادان قرية
- المتحولون
- عن متلازمة ستوكهولم
- المساواة الحقة!!


المزيد.....




- بسمة بوسيل بإطلالة جديدة كليًا: -حبيت أنكد عليكوا-
- هل تنجح إسرائيل ببسط سيطرتها على الضفة؟
- من كان وراء لقاء وزيرة الخارجية الليبية السابقة بنظيرها الإس ...
- هجوم صاروخي من غزة نحو بلدات غلاف القطاع، وعباس يريد إدارة غ ...
- محمد نبيل بنعبد الله يستقبل جمعية الحمامة البيضاء لحقوق الأش ...
- تزايد الانتقادات لتدخل ماسك في السياسة في أوروبا
- بعد عشر سنوات من حكم كندا.. ترودو يرفع الراية البيضاء!
- السعودية.. شاهقة مائية هي -الأقوى من نوعها- وسيول في مكة (ف ...
- إعلام عبري: إصابة جنديين بجروح خطيرة بمعارك عنيفة في بيت حان ...
- زاخاروفا: كييف مستعدة للتضحية بشعوب أوروبا والتسبب في كارثة ...


المزيد.....

- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد صبيح - نشوة عابرة