|
أحمد عدوية وازدواجية عصره
عادل صوما
الحوار المتمدن-العدد: 8212 - 2025 / 1 / 4 - 10:04
المحور:
الادب والفن
عندما ظهر أحمد محمد مرسي العدوي (أحمد عدوية) في بدايات سبيعنات القرن الماضي، كانت مصر تعيش غروب عصر تعددية المجتمعات المتمصرة، والقوة الناعمة التي أوجدتها أسرة محمد علي باشا باستنارتها وانفتاحها العقلي الذي وصل إلى حدود إلغاء الجزية عن مسيحيي مصر في عهد سعيد باشا الذي حكم من 1854 حتى 1863. الموسيقيون الأجانب العنصر الفني والغنائي كان أحد عناصر تلك القوة الناعمة الذي أوجده الموسيقيون الأجانب الذين وفدوا إلى مصر، وعلّموا الملحنين المصريين في معاهد الموسيقى التي أنشأتها الجاليات المتمصرة، وجعلوهم ينتقلون من عصر الطرب العثمنلي والفارسي إلى عصر الغناء الحديث. من يستمع إلى طقاطيق بدايات عبد الوهاب مثل "فيك عشرة كوتشينة" يدرك ما ذكرته عن الطرب العثمنلي، ومن يسمع أغنية "من قد أيه كنا هنا" لعبد الوهاب نفسه، الذي تعلّم الموسيقى لاحقاً على تينو روسّي الإيطالي وغيره، سيعرف النقلة النوعية التي فعلها الموسيقيون الاجانب في الغناء والموسيقى المصرية. عصر الأسطوانة تأثر الغناء الشعبي المصري أيضا بأولئك الأساتذة الأجانب الذين نقلوا هذا الفن من مجرد ترديد الشعب شفاهياً من جيل إلى جيل لطقطوقة مجهولة المؤلف والملحن، إلى عصر تدوين لحن على نوتة موسيقية لكلمات كتبها مؤلف معروف ومطرب تُنسب إليه هذه الأغنية الشعبية، وقد ساعدت صناعة الاسطوانة الموسيقية التي دشنتها شركة "غرامافون" البريطانية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر على انتشار الغناء بأنواعه كافة. المواعظ والغناء ساعدت هذه الصناعة على ظهور المطرب عبده الإسكندراني الذي نقل الغناء الشعبي إلى منطقة جديدة، وانحصرت أغانيه في المواعظ والحكم، ثم ظهر بعده بعض المطربين الذين ساروا على المنوال نفسه، إلى أن حرر بعض المطربين الغناء الشعبي من المواعظ والحكم وحكايات أبطال الأساطير، ودفعوه إلى منطقة الغناء فقط ومن هؤلاء عبده السروجي وكارم محمود وعبد الغني السيد، مع عدم نسيان المطربة حورية حسن التي غنت "جرحونا برمش عينهم" و"كل يوم أكتب كلام"، ناهيك عن أغانيها التي بلغت أربعمئة. ورغم ذلك انحصر الغناء الشعبي في الأفلام المصرية بظهور مطرب أو مطربة يغني بينما راقصة ترقص على الغناء، وفي الدنيا كان المطرب الشعبي هو نجم الأعراس، وسُميت حورية حسن "المطربة الطائرة" لكثرة سفرها داخل وخارج مصر للغناء في الأعراس، ناهيك عن مطربة الأعراس السكندرية بدرية السيد أو "بدارة" كما أطلق عليها عشاق صوتها تحبباً. عصر محمد رشدي استمر الغناء الشعبي المصري في الدائرة نفسها إلى أن ظهر محمد رشدي، الذي شق طريقاً آخر وغنى منفردا على المسرح في المناسبات العامة، وفرض نفسه بعيداً عن صورة المطرب الشعبي التقليدي أو الذي يغني بالجلباب أو وراء راقصة، وقدم ألبومات غنى فيها من صميم الواقع وأمثال الشعب وعِبَر الايام ولامعقوليات أفعال الناس وغدرهم وغصة الاب الذي يتعالى ابنه عليه وخسة بعض الاصدقاء وأحلام من يصدقون دوام الحال وما يفعله الحب والهجر والخيانة في حياة الانسان. مليون شريط تحررت الأغاني الشعبية بفضل هؤلاء المطربين من تهمة الاسفاف والسوقية، أو تكرار الألحان البسيطة الموجودة أساساً في الفولكلور المصري، وكانت بصمة أناقة اللحن الرومانسي المصري/الأوروبي عليها، إلى أن ظهر أحمد عدوية مع بداية عصر شريط الكاسيت، وقدم نقلة شعبية غير مألوفة هي أغنية "السح إدح إمبو" التي صدمت المستمع المصري ولم يستسيغها، لكن أغانيه التي إتُهمت بالإسفاف وترميز الجنس في كلماتها، توالت وظهرت أغاني "حبه فوق وحبه تحت" و"كله على كله" و"سيب وأنا أسيب" و"كركشنجى دبح كبشه.. يا محلى مرقة لحم كبشه". قال بعض طلاب الجامعة آنذاك "أنا ما أوسخش الريكوردر بتاعي وأحط فيه شريط لأحمد عدوية"، وامتنع كبار المطربين والملحنين عن إبداء أي رأي فيه، وحاربته الإذاعات ولم تذع أغانيه، لكن أحمد عدوية واصل مشواره في النوادي الليلية التي رحبت به بناء على ردة فعل روادها، كما كان يغني في الأعراس، وبدا أن أحمد عدوية قد انحصر في هذه الدائرة، إلى أن دوت قنبلة فنية لم يحققها حتى مطرب مصر الأول عبد الحليم حافظ بحصول "السح إدح إمبو" على جائزة من فرنسا لأنها باعت مليون شريط! هكذا انتقل أحمد عدوية من الدائرة التي كان فيها، وعوضاً عن تردد الكبار في التعاون معه أو حتى إبداء الرأي فيه، سأل عبد الوهاب بخبثه الفني المعروف الموسيقار جمال سلامة كيف لحّن أغنية "سلامتها أم حسن" لأحمد عدوية، وغنى عبد الحليم حافظ "السح إدح إمبو" مجاملة للمطرب الشعبي الذي فرض نفسه، كما لحن له كبار الملحنين مثل هاني شنوده وبليغ حمدي والشيخ سيد مكاوي. مطرب الحارة قال الروائي الكبير نجيب محفوظ عن أحمد عدوية أنه "مطرب الحارة". ومعروف أن نجيب محفوظ رجل متواضع جداً في حديثه وتعامله، لكن كتاباته ورأيه عادة يكون عميقاً جداً وبعيداً عن التواضع. إذا عدنا إلى حارة نجيب محفوظ وزمانها في رواياته قبل انقلاب 1952، قد نجد مطرباً مثل أحمد عدوية يغني في مقهى شعبي، وبناء على شهرته قد يأتي مخرج إلى المقهى ليستمع إليه بناء على شهرته التي وصلت القاهرة، لاحتمال اختياره ليغني في مشهد في فيلم مع راقصة، وهذا يختلف تماماً عن ذهاب عبد الوهاب للإستماع إلى عدوية في السبعينات في ملهي ليلي في شارع الهرم، بعدما حقق شهرة كبيرة في عصر ما بعد أفول عصر القوة الناعمة قبل الانقلاب المشار إليه. من هذا المنطلق برزت ورطة التبرؤ من عدوية، بمنع بثّ أغانيه في الإذاعة المصرية، لأنها كانت صارمة*تراقب وتصرّح بأي أغنية تُذاع فيها، لكن أحمد عدوية أفلت من هذه الصرامة، وحقق شهرته خارج رقابة وتصريح الإذاعة بالغناء لأي مطرب، بفضل شريط الكاسيت البعيد عن سلطة الإذاعة، وحقق نجاحه بما هو غير مألوف في الذاكرة المصرية التي كانت لم تزل تحت تأثير عصر قوة أسرة محمد علي الناعمة. لا شك أن أحمد عدوية ظاهرة فريدة لا يشبهه مطرب آخر. مطرب عصره بامتياز ولا مثيل له، وأغانيه صدى لعبارة "أبويا اتحرق ياجدعان" التي قالها يونس شلبي في مسرحية "مدرسة المشاغبين" اقتباس علي سالم، كما كشف عدوية عن ازدواجية الشعب المصري ما بين العلن في الحياة العادية وحياة البيوت، فمن الذي اشترى المليون شريط "السح الدح إمبو" في نهاية المطاف؟ كما لا أعتبر أحمد عدوية "أبو الغناء الشعبي" كما يُقال، فهذا مصطلح يعني أنه خلق الأغنية الشعبية وهو غير صحيح. كما يستحيل نسبة مطربي المهرجانات إلى خطه الغنائي، فهؤلاء يرتجلون على ايقاعات مفبركة لا لحن فيها ولا مقامات ولا حتى جمال صوت.
*بلغت صرامة الإذاعة المصرية إلزام المطربة الكبيرة ليلى مراد بعد توقفها لسنوات طويلة عن الغناء بإمتحان غنائي، ليصُدر تصريح بالغناء لها، لأنها لا تملك تصريحاً يمكنّها من غناء أغاني أحد المسلسلات الإذاعية. وقد وقف العازفون وصفقوا لليلى مراد في الاستوديو يوم امتحانها الغنائي، وأصدورا نغمات غير متناسقة من آلاتهم قبل تسجيل الأغنية ليعربوا عن سخطهم للقرار البيروقراطي التعسفي الذي تجاهل تاريخ أيقونة الغناء المصري، وبكت ليلى مراد تأثرا مما حدث، وبعدما تمالكت نفسها أدت امتحانها بنجاح ورسبت الإذاعة.
#عادل_صوما (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما قال فريد الأطرش: مش قادر!
-
الرعية الفاسدة تستحق الكاهن الضرير*
-
معايير المحاكم الإلهية
-
أسرى الأساطير وضحايا الواقع
-
أمراض الأمة إياها
-
أميركا تستعيد وعيها وهيبتها
-
صباح في ذاكرة ثقافة البحر المتوسط
-
التكاذب منهجهم والغيبيات واقعهم
-
الدنيا لا تقع ولن تنتهي
-
أسئلة للمؤمنين والذميين الجدد
-
سياسة أو دين أو شعوذة
-
فشل الدين كمنظومة سياسية
-
عواقب تعامي الحكومات الغربية
-
اليوبيل الماسي لفيلم -غَزَل البنات-
-
استهداف إلهام شاهين
-
مات لبنان لتحيا ولاية الفقيه
-
أقوى سياسي على الكوكب
-
مبادئ مخفية في إنقلاب يوليو 1952
-
الفرار من عدالة المؤمنين
-
خدعة إرهابية وخدع بصرية
المزيد.....
-
-ذا بروتاليست- و-إيميليا بيريث- يهيمنان على جوائز غولدن غلوب
...
-
-أمازون- تتعاون مع ميلانيا ترامب لإنتاج فيلم وثائقي
-
أصحاب الفكر والرأي ودورهم القادم في سوريا الجديدة.. الكتابة
...
-
عالم يكرّم فنانا على طريقته الخاصة بعد اكتشافه مجموعة عناكب
...
-
زيلينسكي يشتم الغرب بكلمات بذيئة باللغة الروسية
-
الفنان العراقي سعدون جابر يتحدث عن قصة مقتل أحد المطربين في
...
-
طريقة تثبيت تردد روتانا سينما الجديد 2025 “مش هتعرف تغمض عي
...
-
الكاتب آفي شتاينبرغ: الجنسية الإسرائيلية أداة للإبادة الجماع
...
-
عذّبه الأب، وعاش ليشهد فرار الإبن.. محمد برو وعدالة تأخرت نص
...
-
فرقة لا تعزف الموسيقى بل تقدمها بلغة الإشارة لفاقدي السمع
المزيد.....
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
المزيد.....
|