أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم صفي الدين - قنديل أم هاشم -قصة قصيرة-.















المزيد.....


قنديل أم هاشم -قصة قصيرة-.


سليم صفي الدين

الحوار المتمدن-العدد: 8211 - 2025 / 1 / 3 - 16:20
المحور: الادب والفن
    


للحظات أصابتْ أضواءُ فلاشات التصوير عيني بعمى مؤقت، ثم لم ألبث أن رأيت أساتذتي وزملائي في الجامعة يكرّمونني على بحثي الأخير الذي قد يمثّل نقطة انطلاق قوية لعلاج السرطان، وصعد إلى المنصة أساتذة كِبار يحلّلون نتائجي ويتناقشون فيها ويطرحون أفكارًا بخصوصها، متفائلين بقرب تحقيق نتائج طيبة، قبل أن يحيطني الصحفيون وينهالوا عليّ بالاستفسارات حتى سألني أحدهم: "ما وجهتك القادمة؟" فأجبت بلا تردد: "مصر بالتأكيد".

بعدها بأيام وصلتُ إلى مطار القاهرة وأمام عيني الدكتور مجدي يعقوب، طامحًا في تكرار قصة نجاحه. نزلتُ من الطائرة وتسلمتُ حقائبي وبعض المعدات التي أحضرتها لتساعدني في أبحاثي، لكني فوجئت باستيقافي للتفتيش ثم إعادة التفتيش ثم التفتيش الذاتي، ومحاصرتي بأسئلة لم أفهم قطّ لماذا تُوجّه لي! في النهاية اقتادوني إلى مكتب صغير ودخل عليَّ شاب ثلاثيني مفتول العضلات يرتدي بدلة زرقاء، وقفتُ حين رأيته وقلت بابتسامة عريضة: "أنا الدكتور كرم الحسيني"، فأجاب ببرود: "أنعِم وأكرِم يا سيدى، ياكش تبقى أحمد زويل، انت هنا عشان نعرف المُعدّات اللي معاك دي إيه؟ وازّاي عدّيت بيها من أمريكا؟!"

نظرتُ إليه في دهشة ولم أُعقِّب، ومضت أكثر من 4 ساعات كاملة في اللا منطق حتى سُمِح لي أخيرًا بإجراء مكالمة واحدة، بعدما فشلوا فى تحديد ماهية معدّاتي، فتحدثتُ إلى نقيب الأطباء المصري -الذي كان ينتظر عودتي غير المحمودة بالنسبة له!- وشرحت له ما يحدث، فانتفض من مكانه، وخلال فترة وجيزة كان أمامي في المطار يُجري عديدًا من الاتصالات حتى تمكّن من إخراجي وحدي فيما بقيتْ المُعدّات لحين العرض على خبير!


غادرنا المطار وأنا أرمق ذلك الضابط الذي أخبرني أنه "أمن وطني" وهو لا يعرف أنني ومعداتي وعملي وأبحاثي أيضًا أمن وطني؛ فالعلم والبحث إن لم يكونا من أولويات الدول فإن أمنها الوطني في خطر مُحدِق!

نظرتُ إلى الدكتور محمد؛ نقيب الأطباء، الجالس على كرسي القيادة فى سيارته المتواضعة وقلت: "بداية غير مبشّرة يا دكتور"، فلم ينظر إليّ وقال: "انت مُصرّ تكمِّل في مصر.. اتحمِّل بقى، لكن لو عايز نصيحتي.. لف وارجع دلوقتي حالًا، مجدي يعقوب استثناء ورجع بعد ما وصل للعالمية برّه، انت بقى يا دوب أخدت دكتوراه وعندك أوراق بحثية عن الأورام السرطانية، يعني ما حدش يعرفك، ده لولايا ما كنتش هتخرج يا دكتور!".


تنهدتُ بعمق ولم أعلّق!
أخيرًا وصلتُ إلى منزلي في القاهرة، وعلى طاولة العشاء دار بيني وبين عائلتي حديثٌ طويل عن مصر وأحوالها وما وصل إليه الطب فيها، قبل أن يخبرني أبي بضرورة مرافقته يوم الجمعة المُقبل إلى اجتماع عائلي يتكرّر شهريًا في إحدى قرى محافظة الجيزة؛ مسقط رأسه، فوافقت..
وفي اليوم الموعود وصلنا قبل الصلاة بقليل ثم ذهبنا إلى مسجد القرية.

إمام المسجد شاب ثلاثيني، نبرات صورته عالية جدًا حتى ليصرخ بعنف في بعض اللحظات، ويبدو أنه يعاني مشكلة مع النساء، فمُجمل حديثه وكامل خطبته اقتصر على أن المرأة سبب البلاء في الدنيا وفي الآخرة هنّ أكثر أهل النار! كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من الصلاة مقبوض القلب منزعجًا، وفي قرارة نفسي أرفض تلك الرصاصات التي يطلقها الشيخ من فمه!

وعقب الصلاة توجهنا إلى منزل شيخ البلد؛ ابن عم والدي، وحين دخلنا قال أبي: "ما تخلّي الدكتور يكشف على حُسن"، فقلت: "خيرًا.. مالها؟"، ليقول أبوها: "بقى لها شهرين تعبانة يا دكتور وما بتخفش!".
وبالفعل أدخلوني عليها فصدمني منظرها؛ الحسناء التي كان لها نصيب عظيم من اسمها أصبحتْ وردة ذابلة تمامًا! جسمها نحيف وسمارُها الجميل تحول زُرقة مقبضة فيما لم تكن تتكلم إنما تصرخ متأوهةً "مش قادرة.. مش قادرة"!
لكن أكثر ما تعجبتُ منه، الأجواء الجنائزية التي كانت تحيط بابنة الخامسة والعشرين، إذ كانت ترقد على سرير في غرفة واسعة خالية من كل شيء تقريبًا سوى الفراش وسجادة متربة أسفله، فيما تتحلّق حولها والدتها ونسوة عابسات يفترشن الأرض ويندبن ويولولن وكأن حُسن في رمقها الأخير!

أمرتُ الجميع بالمغادرة إلا أم حُسن، قبل أن أبدأ كشفي على الفتاة لأجد قفصها الصدري ظاهرًا وكأنه لا جلد هناك! فضلًا عن بروز باقي عظام جسمها وكأنها مُعتقلة فلسطينية مُضربة عن الطعام منذ شهور! أكملتُ فحوصاتي بعناية ثم خرجتُ إلى أهلها وانفردت بأبيها وأبي في غرفة الضيافة..
- للأسف أنا شاكك إن فيه سرطان ولازم نتحرك بسرعة.. البنت في خطر شديد!
فردّ أبوها ملوّحًا بيده في استنكار:
- سرطان إيه يا أستاذ بس؟! والله الشيخ قال إنك هتقول كده!
- شيخ؟ شيخ مين؟! ده علم.. البنت بتموت وانت بتعرضها على شيخ؟
- خليك في حالك يا محترم وأنا غلطان إني سيبتك تكشف على البنت!


كنتُ أنظر إليه في دهشة وأنا أتصور أن أحداث رواية قنديل أم هاشم ليحيى حقي لن تتكرر بعد طرحها سينمائيًا في ستينيات القرن الماضي، لكنني -على ما يبدو- كنتُ واهمًا!

خرجتُ وأبي من المنزل، وما إن صرنا في الشارع حتى صرخ في وجهي:
- انت مجنون؟! بتغلط في الشيخ قدّامه!
- انت اللي بتقول كده يا حاج رغم تعليمك؟!
- ولد.. تأدَّب، ماكانتش دكتوراه دي!
ثم لم يتحدث أحدُنا إلى الآخر ثانية طوال الطريق!

بعدها بأيام فُوجئت برسالة غريبة عبر واتس آب، كانت حُسن، لا أدرى من أين حصلت على رقمي، لكنها كانت تستنجد بي: "الشيخ ده هيموّتني، بيعمل فيّا حاجات غريبة، الحقني!".
بَيْد أني -للأسف!- لم أستطع التدخل، فلم يكن أحد ليستمع لي، حتى تدهورت حالتها بعد نحو الأسبوع، واضطُروا إلى نقلها للمستشفى، فأصرّ والدي على زيارتها هناك، وعندما ذهبتُ تجاهلتُ أهلَها تمامًا واتجهتُ للطبيب المعالج وأبلغته بشكوكي، وبالفعل شُخِّصت الحالة بالسرطان في مرحلة متأخرة، وكان يجب أن تدخل العمليات في أقرب وقت ممكن! لكن أبوها كالعادة قال: "الشيخ قال إنكم هتقولوا عملية، وقال ما نعملهاش!".
فصرختُ فيه:
- انت بتقتل البنت!
- بنتي وأنا حرّ فيها.
- حر تقتلها؟
- وأدفنها حية كمان!
- انت راجل متخلف!
وهنا كانت الفاجعة، إذ صفعني أبي فجأة على وجهى بقوة لدرجة أن عيني أصيبتا بعمى مؤقت، استدعى فورًا العمى الآخر الذي سببته فلاشات التصوير في أمريكا منذ فترة وجيزة! أنا مَن يقف له ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، ويستمع إلى محاضراته كبار الأساتذة حول العالم، أختلف مع شيخ في أمر طبي فيكون مصيري الإهانة والضرب بالقلم!

لم أفتح فمي بمزيد، وأنفذ الأب رأيه في النهاية وحمل ابنته إلى الشيخ فتدهورتْ أسرع حتى لم يجد بُدًا من العودة بها ثانية إلى المستشفى ثم الاستسلام -على مضض- للعملية، لكن الوقت كان قد فات وماتت ألطف فتاة رأيتُها في حياتي! لم يكن لكل هذا الجمال أن يعيش وسط همجيتهم وجهلهم على أي حال!

وها أنا ذا اليوم أحزم حقائبي في إصرار وأودِّع أهلي بعد أن لم تعد وجهتي مصر!



#سليم_صفي_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القاضي الجاني -قصة قصيرة-.
- فى بيتنا كلب -قصة قصيرة-
- ثالثوث الدائرة المفرغة.. لماذا يتغير الواقع دون أن ندري؟
- ما بين دين عبدالله رشدى وعلمانية خالد منتصر
- أحزب من ورق
- اخترناه وبايعناه
- شوكة الأزهر في حلق العلمانية.. إلى أين؟!
- كيف يدعو الأزهر إلى التجديد ويرفض التطوير؟
- بديهيات حقوق الإنسان
- ظاهرة الإلحاد بين الحوار الفلسفى والإرهاب الدينى
- الأزهر يحارب الدولة؟
- حول تصريحات السيسى
- جمهورية بامبوزيا
- فض اشتباك رابعة والنهضة
- يناير.. من حلم التغيير إلى كبت الوطن
- سيدى الرئيس.. نظرة دون خوف
- الأحوال الشخصية وقانون -ع-
- بين فراقين.. صديقى الذى لم يَعُد
- حرب الأسئلة «السؤال المناسب»
- الإله بين الكفر بالذات والإيمان الاجتماعى.. «الذات والإله»


المزيد.....




- طريقة تثبيت تردد روتانا سينما  الجديد 2025 “مش هتعرف تغمض عي ...
- الكاتب آفي شتاينبرغ: الجنسية الإسرائيلية أداة للإبادة الجماع ...
- عذّبه الأب، وعاش ليشهد فرار الإبن.. محمد برو وعدالة تأخرت نص ...
- فرقة لا تعزف الموسيقى بل تقدمها بلغة الإشارة لفاقدي السمع
- (بالصورة) رسامة كاريكاتير تستقيل.. والسبب -إنحناء بيزوس أمام ...
- إرث العثمانيين الثقافي.. ديانا دارك وتجوال جديد على جسور الش ...
- -انحناءة- بيزوس أمام ترامب تتسبب باستقالة رسامة كاريكاتير في ...
- ترجمة مُضللة لتصريحات وزير دفاع أمريكا عن ضربات ضد الحشد الش ...
- -لا أرض أخرى-.. البدو الفلسطينيون يجبرون على الرحيل تحت غطاء ...
- قائد الثورة..ضرورة زيادة النتاجات العلمية والفنية عن هؤلاء ا ...


المزيد.....

- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم صفي الدين - قنديل أم هاشم -قصة قصيرة-.