أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عباس الظاهر - صيف لاهب














المزيد.....


صيف لاهب


طالب عباس الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 8211 - 2025 / 1 / 3 - 09:59
المحور: الادب والفن
    


توقفت حافلة الركاب العمومية بعد أن أشَّرت بيدي لسائقها، صعدت وإذا بصوته ينطلق من خلفي وأصابعه إلى الأمام مازالت تعبث بمؤشر مذياعها بحثا عن محطة، ووجهه للخلف قائلاً بامتعاض واضح:
- هيا أنزل أنت... أخي؟ بلوى... صاروا المجانين في بغداد أكثر من العقال؟!
التفت إليه فوجدته ينظر لشخص خلفي، يبدو إنه استغل الموقف وركب متسللا، بعدما تعمد سواقي سيارات الأجرة على الخط عدم الوقوف له، وتركه على الشارع ينتظر طويلاً دون جدوى، لكنه استقر جالسا بعجلة على أحد الكراسي القريبة كطفل يتشبث في لعبة... متجاهلا أمر السائق، وهو مستمر بكلامه بصوت عال وغضب مع شخص أو أشخاص مفترضين للأعلى قليلا عن مستوى رؤوس الركاب أمامه، اعتقدت في البداية إنه يعلق بحنق على اعتراض السائق على صعوده الحافلة ووصفه بالمجنون.
شاب في أواسط عقده الثاني تقريبا، لكنه بملامح قاسية وبشرة سمراء داكنة لوحتها الآلام، إلا إن ملابسه نظيفة... بنطلون كابوي أزرق وقمصلة جلد سوداء قديمة رغم حرارة الجو الشديدة، بينما السائق ترك صوت كاظم الساهر في تلك الأثناء يصدح من المذياع: ( صورتي الدنيه من غيري أبد متعيشين بيها.. وقلتي عنها ظلمه لكن نور وجهك مضويها) من لحن: ( لا ياصديقي).
وخلاف المتوقع أخرج الشاب العملة المناسبة ودفع الأجرة، رغم إن عدم الدفع هو سبب تجاهله من قبل سائقي حافلات الركاب غالباً، لكن سيل الكلام مازال يندلق منه من دون توقف منذ صعوده وربما قبله، وبنبرة ألم واضحة:
- أنتِ تنامين الظهر تحت التبريد وأنا أشوى أمام فوهة التنور بدرجة حرارة تتجاوز الخمسين درجة من أجل توفير لقمة العيش الحلال .................!!
(أشوى أمام فوهة التنور) بقيت هذه العبارة ترنُّ في أذني طويلا.. يالها من حقيقة مؤلمة... حقاً كيف لا يشوى وجه المسكين وهو يواجه لهب النار المتأججة داخل التنور في خبز الأرغفة لساعات وساعات، ونحن في الخارج نكاد ننزع جلودنا من شدة الحر في مثل تلك الدرجات المرتفعة جدا؟
تعاطفت معه رغم انزعاج جميع الركاب منه، وقلت في نفسي.. ما أسهل أن نطلق أحكامنا المتسرعة على الناس وحسب أهواءنا، النبي الأعظم ذاته كان الصادق الأمين قبل نبوته، ولكن فجأة أصبح الكذاب والمجنون بعدها مباشرة، فقط لأن مصالح رايات نسائهم الحمراء ضربت، وتجارة (هبلهم) و (لاتهم) و(عزاهم) بارت، نعم... فليس كل ما لا نستطيع أن نراه يعني إنه غير موجود، هذا الشاب يعاني من صراع عنيف داخلي ينفُّس عنه في عتاب مرة فيما يشبه البكاء الصامت، ونقمة وغضب وصراخ مرة أخرى، موجهاً كل ذلك إلى أشخاص لا نراهم، لكنه يراهم أمامه بلا شك، وبذات الوقت هو لا يرانا، وإذا كانت الرؤية دليل الوجود، وعدم الرؤية دليل العدم... فهل نحن غير موجودين فقط لأنه لا يرانا؟!
إن صدمته العنيفة بتفاصيل وجود أشخاصه المحيطين به، والمؤثثين لحياته قد ألغت إحساسه بوجودنا أصلا، هو لا يعبأ بنا لأن المتن لديه مدمر... محترق... مهشم، فما قيمة هامش الذي هو نحن... لينتبه له ؟
أجل، لم نعد نعني له أي شيء مجرد أصفار على الشمال، لأن كارثة حريقه الداخلي أذهلته عن كل ما هو خارج آلام هذا الحريق... إنه تحول من إنسان إلى هيكل من رماد!.
كانت خطوط قصة مأساته قد بدأت تتشكل في خلدي شيئاً.. فشيئاً بمحاولتي جاهداً ربط المعاني وتوصيل المحذوف في كلامه، ومحاولة القراءة في لغة جسده، وعراكه ونزيف آلامه طوال الطريق، والصورة المضببة في البداية راحت تتكشف لي كما في حل الكلمات المتقاطعة، وبدأت أرى أيضا دائرة أشخاصه المفترضين أمامي... تلك الدائرة المحكمة الإغلاق من المقربين، ورحت أتحسس وجودهم مثلما هو يراهم.. بوجوه داخلها قبيح بالغدر والخيانة ونكران الجميل، رغم إنها وجوه حسناء، وأشمئز مثله من رائحة نتنة تنبعث منهم مع مساحيق التجميل والمعطرات التي يغرقون أنفسهم بها.
زوجة خائنة، تستغل غياب زوجها طوال ساعات النهار كأجير في مخبز ... كشاب بسيط يعمل خبازا ليعيل أسرة كبيرة مكونة من ثلاثة نساء وطفلين بعد رحيل الأب بتفجير الكرادة الكبير المفجع.
يبدو إن مهنته هذه ما عادت تشرف الزوجة، ولم يعد هو أصلا كشخص كادح يلبي طموحها وأحلامها الوردية في حياة ترف باذخة تطمح إليها وتصورها لها محادثات واتصالات زائفة على مواقع التواصل، وأخذ يجرفها معه غرور الموجة، وتتواصل مع شباب طائش متحلل من القيم، وأم ارملة لكنها قاسية فقدت أحساس الأمومة النبيل تجاه معانات ولدها، وأخت مطلقة.. الثنتان متسترتان على انفلات الزوجة لكي تتستر هي بدورها عليهن أيضا، لأن أسرارهن أضحت واحدة... وطفلان بريئان لشدًّ ما كانت تكويه نيران حيرته وشكه في حقيقة نسبتهم إليه حنيناً ونفرة منهم بعد طلاق أمهم.
ياله من أمر مرعب، واحدة طلقها البين، والأخرى طلقها عبد الحسين، والثالثة سارت على أثر الثنتين، وهو إلى الجنون!.
يتعالى في هذه الأثناء صوت الساهر وهو يصرخ مع احتدام أصوات الآلات الموسيقية: (هاجت الريح بغضبها وكسرت بلحظة الشراع.. كل شيء ضاع، ضاع، ضاع، ض..ا..ع).
فجأة تتوقف الحافلة دون أن ينادي أحدهم للنزول، لأكتشف بأنها فارغة كانت تماماً من الركاب، وإذا بالسائق يلتفت نحوي ويقول متهكماً:
ـ ها أستاذ وين توصل؟ هذه المنطقة الأخيرة!!



#طالب_عباس_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سأبقى مزورعاً في المرايا - شهادة أدبية
- سأبقى مزروعاً في المرايا - شهادة أدبية
- الأرنب الذكي
- ابنة الخلود
- متوالية التشرِّد
- متواليات قصصية
- ما هكذا يورد الشعر
- النقد البهلواني!
- عبق الجنة!
- غادر ولم يعد!
- اسطولُ جدي!
- حزني غلام امرد
- حزني غلام أمرد
- لا تبتئس ياصاحبي
- فنارات
- أمنية
- لوحة
- - لايك -
- انفجار العصر!
- حكاية ظل - ق.ق.ج


المزيد.....




- فرقة لا تعزف الموسيقى بل تقدمها بلغة الإشارة لفاقدي السمع
- (بالصورة) رسامة كاريكاتير تستقيل.. والسبب -إنحناء بيزوس أمام ...
- إرث العثمانيين الثقافي.. ديانا دارك وتجوال جديد على جسور الش ...
- -انحناءة- بيزوس أمام ترامب تتسبب باستقالة رسامة كاريكاتير في ...
- ترجمة مُضللة لتصريحات وزير دفاع أمريكا عن ضربات ضد الحشد الش ...
- -لا أرض أخرى-.. البدو الفلسطينيون يجبرون على الرحيل تحت غطاء ...
- قائد الثورة..ضرورة زيادة النتاجات العلمية والفنية عن هؤلاء ا ...
- الأردن يعلن إرسال وفود لدراسة الحالة الفنية والأمنية لإعادة ...
- ألبر كامو: قصة كاتب عاش غريباً ورحل في ظروف غامضة
- كتاب الفوضى.. قصة صعود وهبوط شركة الهند الشرقية


المزيد.....

- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عباس الظاهر - صيف لاهب