|
-بيت خالتي-.. رواية تفضح آلة التعذيب السورية
عبدالرحيم كمال
الحوار المتمدن-العدد: 8210 - 2025 / 1 / 2 - 11:15
المحور:
الادب والفن
"بيت خالتي" اسم حركي للمعتقلات السورية، وبقدر مافي الاسم من كناية، فإن فيه الكثير من السخرية المرة، فبيت الخالة عادة يعني الحب والحنان والعطف، والخالة والدة في ثقافتنا الشعبية، فيما المعتقل لايحمل شيئا من هذه الصفات، بل يحمل ضدها، وهو مايستعرض بعضا منه المؤلف "أحمد خيري العمري" في روايته "بيت خالتي" التي صدرت في عام 2022. تدور أحداث الرواية بين سوريا -حيث المعتقلات- وألمانيا حيث يعيش كثير من الشخوص، وتتمحور حول "أنس خزنجي" الشاب السوري الذي يدرس الطب في ألمانيا، ولكنه يتحول عنه لدراسة الإخراج السينمائي.. ورغم محورية شخصية "أنس"، فإن الحديث عنه يكون بالاستعادة/ بصيغة الماضي، فالرواية تبدأ بالبحث عنه لنكتشف انتحاره في شقته. أسباب متقاطعة يمارس المؤلف التحليل النفسي للشخوص عبر شخصية "يزن" ابن خالة "أنس" وهو طبيب نفسي يعيش في ألمانيا، لكن في مدينة بعيدة عن برلين حيث يعيش "أنس"، ليناقش الأسباب النفسية التي تجعل "أنس" ينتحر، ولا يجد القريبون منه سببا منطقيا للانتحار، فهو شاب وسيم، ناجح واجتماعي وابن عائلة سورية كبيرة وميسور الحال.. لكن "نور" -صديقة "أنس"- تكشف لـ "زين" عن شريط سينمائي وثائقي كان "أنس" يعمل عليه منذ سنوات، يتناول فيه الأحداث البشعة التي تحدث في "بيوت خالات" السوريين، وقد صوّر شهادات لعدد كبير ممن تعرضوا للاعتقال.. ليبدأ "زين" في الاكتشاف التدريجي لعمق وتعقد المشكلة، فتوضح له "نور" خضوع "أنس" لجلسات علاج نفسي في الشهور الأخيرة، ثم انطواءه وابتعاده عن الناس مؤخرا، وكلها تشير إلى اكتئاب يمكن أن يؤدي إلى الانتحار.. لكن تساؤلا يطرح نفسه إزاء الحالة التي وُجد "أنس" عليها معلقا في السقف، فكل شئ في البيت مرتب ومنظم، حتى أن الأواني في المطبخ نظيفة، مما يبتعد بالفكر عن فكرة الانتحار.
المعادل لفكرة إنتحار "أنس" هي إقدام أحدهم على تنفيذ الجريمة بهذا المستوى، وتتجه أصابع اتهام "الثوريين" من السوريين إلى تنفيذ النظام السوري للعملية، بعد عدة أحداث تشير لقلق النظام من خروج الفيلم إلى النور، ومنها موقف إحدى الشركات الداعمة التي تضع شروطا لـ "تمييع" الموضوع وتحويل خطاب الفيلم إلى جهة أخرى، بحيث لا يشير إلى النظام السوري، وهي ضغوط يرفضها "أنس".. فيما أنه عند اكتشاف البوليس الألماني للانتحار يكون "أنس" -أو منفذ العملية- قد وضع أغنية "أنا الدمشقي" لـ "أصالة نصري" في مقدمة مسلسل "نزار قباني": ((أنا الدمشقي.. لو فتحتم شراييني بمُديتكم سمعتم في دمي أصواتَ من راحوا أنا الدمشقي لو شرَّحتُمُ جسدي لسال منه عناقيدٌ وتفاحُ مآذنٌ الشّامِ تبكي إذْ تعانقُني وللمآذنِ.. كالأشجارِ أرواحُ وكيف نكتبُ والأقفالُ في فمِنا وكلٌّ ثانيةٍ يأتيك سفَّاحُ حملتُ شِعري على ظهري فأتعبني ماذا من الشِّعر يبقى حين يرتاحُ)) من الفاعل يعتبر "زين" أن الأغنية إشارة ذات مغزى، فهل "أنس" هو الذي وضعها على وضع الإعادة بجهاز التليفون Answer Machin ، هل انتحر "أنس"، أم شنقوه في بيته بعملية مخابراتية، أم "انتحروه" -دفعوه للانتحار-؟ يظل السؤال معلقا دون أن تجيب سطور الرواية عنه، لتفسح للأحداث ومقاطع الفيلم مساحة للتكهن عمن يكون الفاعل. تعود بدايات الأحداث إلى أيام الربيع العربي في عام 2011، حيث يرفع الشباب شعارهم "لا سلفية ولا أخوان.. ثورتنا ثورة شبان"، فيما كان شعار الشبِّيحة -رجال النظام- (الأسد أو نحرق البلد)، بعدها تم اعتقال "كنان" وهو صديق "أنس" وحُكم عليه بالسجن المؤبد، وعُثر على صديقه الآخر "معاذ" مقتولا في دمشق، ويتضح فيما بعد أن من قتله هم الثوار بعد اكتشاف تعاونه مع الأمن، لتبدأ بوادر العصف النفسي -ثم عدم الإتزان- عند "أنس"، التي ربما يكون قد زادها عصفا المعلومات التي قدمها المعتقلون الذين أدلوا بشهاداتهم في الفيلم. خبرة ألمانية يوثق المؤلف انضمام "ألويس برونر" وهو ضابط نمساوي إلتحق بالحزب النازي وأصبح من كبار ضباط سرية الحماية الخاصة بهتلر، وكان المساعد الأول لـ "أدولف إيخمان" الذي كان من كبار الضباط المسئولين عن هندسة وتنفيذ المرحلة الأخيرة من الهولوكوست، وكان المسئول عن اختراع شاحنات الغاز التي سبقت أفران الغاز في معسكرات الاعتقال..وقد هرب "برونر" في عام 1945 إلى مصر أولا ثم إلى سوريا، حيث عمل مستشارا خاصا للرئيس، ومستشارا في شئون التحقيق والتعذيب، لذا فإن "بيت خالتي" السوري يشبه معتقل "أوشفيتز" الألماني، مع العمل على تحديثه دوما. مشاهد من الداخل اعترافات مفزعة يدلي بها الشهود في الفيلم/ الرواية، توضح عدم وجود سقف للتعذيب وابتكار وسائل متجددة أكثر عنفا وإهانة وسحقا لشخصية المعتقلين، بدنيا ومعنويا.. فماذا قالوا؟ إنكار لله والرسول معتقل يقول: "........ كانت هناك فتاة عارية تماما معلقة في رافعة، كانت آثار التعذيب ظاهرة عليها، بقع الحروق على صدرها وإبطها، كانوا يطفئون سجائرهم هناك، كانت تقول للسجان: مشان الله، فيرد: الله غير موجود الآن، وعندما كانت تقول: مشان النبي، كان يرد عليها: النبي مجاز اليوم..... ثم أخرج الولاعة من جيبه وأحرق شعر عانتها.. آخر ما أذكر كان رائحة الشياط، ثم رحت في غيبوبة". الاغتصاب بالديمقراطية تقول معتقلة أخرى أنها كانت تُغتصب كل يوم، وخيروها بين الاغتصاب الجماعي أو المنفرد (حفلة أو سهرة) وكان اعتصابها يتم وفي الخلفية صوت آيات تتلى من سورة النساء، وهو ما تكرر كثيرا، وتقول "أعرف أنهم في الثمانينيات كانوا يوشمون عبارات معينة على أجساد المعتقلين، مثل: الأسد ربي، أو لا إله إلا الأسد".. تذكر "جوري" -نور- أن صورة الأسد كانت معلقة في السقف فوق سرير الاغتصاب، إذا فتحت عينيها ستجد صورته أمامها وهو يبتسم، المعتقلات كن يجبرن على الغناء لبشار "نحنا رجالك يابشار، ومنحبك" تعذيب على صوت فيروز "كنان" -صديق أنس- يدلي بشهادته: هناك سجان وسخ للغاية، ربما أوسخ من مر عليّ، كنا نسميه "عاصي" على "اسم "عاصي الرحباني"، لأنه كان يعذبنا والموبايل في جيبه يصدح بأغاني فيروز.. كسر سني الأمامي وهو يسمع "رجعت الشتوية"، وكسر ثلاثة ضلوع على "شابف البحر"، وقتل أحد الأطباء المعتقلين ضربا بالجدار حتى الموت بينما كانت الأغنية "كيفك أنت".. ومعتقل آخر يقول: كل سرير في مشفى المزّة العسكري كان عليه ستة أشخاص تقريبا، كل منهم مقيد بقدم واحدة إلى السرير، أحيانا كثيرة كانوا يقضون حاجتهم على أنفسهم والباقين بجروجهم وإصاباتهم المختلفة، بحيث يتحول كل سرير إلى مكان لانتقال العدوى"، وشهادة أخرى "ربما كان الجوع من أصعب ما مررنا به في السجن، بسبب سوء الأوضاع وقلة النظافة، كانت أقدامنا تنتفخ وتتشقق، تصبح أقدامنا مثل جذع شجرة بخشونته وملمسه، وبسبب الجوع الشديد، كنا نأكل جلد أقدامنا، أحيانا كان البعض يتمادى فيأكل جلد زميله الجالس بجانبه". سخرية الألم يسخر أحد المعتقلين سخرية مرة من نفسه بعد عودته من جلسة التعذيب وهو غير قادر على المشي، كان يترنح بين الجالسين ويعتذر منهم لعدم قدرته على السيطرة على سيره، أخبرنا بأنهم أجبروه على الجلوس على قنينة مياه غازية، كان يقول (خوزقوني) وهو يحاول أن يداري ألمه بالسخرية من نفسه، وطبيب أسنان ينظفون أسنانه بفرشاة المراحيض، ومعتقل يقول: في مرة كنت اسحب جثة معتقل، وقلت للجالسين: وسعوا يا شباب، معنا شهيد. لم أنتبه للسجان خلفي، ضربني بشدة على رأسي وشتمني وشتم أهلي وهو يصحح لي: اسمه (فطيس) فاعتذرت له.. ومعتقلة تقول: إغتصبوا أمامي فتاة في الصف التاسع (الثالث الإعدادي)، تناوب عليها ستة عساكر، ومعتقل يشير: كان هناك ثلاثة أطفال بيننا كلهم دون العاشرة، واحد منهم تعرض لتعذيب شديد عندما جاءوا به أول مرة، كان متهما بإدخال المياه لمخيم اليرموك، ومعتقلة تقول: في يوم واحد إغتصبت عشر مرات. كسر رقبة ميت معتقل آخر يدلي بشهادته: كنت أعمل سخرة "موت" أي يحمل الجثث، أحمل كل يوم أنا وثلاثة من المعتقلين معي حوالي عشر جثث، تأتي شاحنة كبيرة تحمل حوالي 30/ 40 جثة أخرى، كان علينا أن نحشر الجثث الجديدة بين الجثث القديمة لكيلا تسقط كل الجثث علينا،غالبا كنا نضطر لكسر رقبة الميت أو يده كي نضعه في الشاحنة. شو بدك سيدي معتقل آخر يقول: في مرة أخرجوني إلى حديقة خلفية فيها قبور محفورة جاهزة للدفن، دفعني المحقق إلى واحد منها، وأخذ يطمرني بالتراب، وأنا أصرخ وأستغيث، بعد أن يغطيني التراب كليا يقول لي: هل ستقول كل الأسماء التي تعرفها؟ أرد عليه (شو مابدك سيدي). اقتلوني.. الموت أرحم بعد عمليات تعذيب تستمر 20 ساعة، كان النوم ممنوعا والأكل والشرب، الشرب الوحيد المسموح به كان ماء الشطف، ماء يختلط فيه البول والدم، كان مسموحا أن ننزل إلى الأرض لنلحسه.. كنت أقول في نفسي: اقتلوني، هذا أرحم. الاعتقال للجميع يشير المعتقلون إلى أن بيت الخالة يسستقبل جميع المعارضين، والعلويون -عائلة الأسد- ليسوا استثناء ويدخلون المعتقل، يقول أحدهم: في السجن كان المسجونون يخافون أن أكون جاسوسا عليهم، وعندما خرجت من المعتقل لم يرحب اهلي بي واعتبروني ميتا أو مفقودا، بسبب توجيهات النظام لهم وخشيتهم منه. نظام يأكل نفسه نموذج آخر تقدمه الرواية/ الفيلم من خلال شخصية "هدباء الحماصني" وهي من "القبيسيات" -مجموعة تدعو للتدين- وتستطيع التواصل مع أسرة "الأسد"، فتتصل بـ "بشرى الأسد" شقيقة بشار، ثم آسماء زوجته، ومع ذلك تم اعتقال ابنتها "نور"، التي تعرضت لحالات اعتصاب متتالية، كما تقول في شهادتها بالفيلم تحت اسم "جوري"، في إشارة إلى أن النظام يأكل نفسه. بكرة ميت انغماسا في القتل والتعذيب يطلق أحد الضباط على نفسه اسم "هتلر"، ويبقى العنصر المشترك بين كل بيوت الخالة السورية هو حرص الضباط والجنود على إخفاء وجوههم عن المعتقلين، يقول معتقل: كانوا يقولون لنا بصراحة: تريدون أن تحفظوا وجوهنا كي تذبحونا عندما تخرجون، لذلك كانوا قبل أن يدخلوا زنزاتنا يأمروننا بأن ندير وجوهنا نحو الحائط، وعند التعذيب يضعون "طماشة" -عُصابة- على عيوننا، وقد حدث أن رأى أحد المعتقلين وجه أحد عناصر الأمن، فقال له العنصر: شفتني زين؟.. بكرة ميت، وقد تم قتل المعتقل بالفعل في اليوم التالي. تتضمن الرواية عدة خيوط درامية، منها المسجونون الذين يتحولون لسجانين، وهي فكرة تستحق رواية مستقلة، ومنها خيوط فرعية كاشفة للمجتمع السوري والعلاقات بين الأفراد والجماعات والعائلات، منها من يعتبرون أنفسهم شوام خالصين، فيما يرون الآخرين دون ذلك، وعلاقة الحب المتنامي بين "نور" و"زين" فيطلب الزواج منها، وتنهي الرواية بالنتظار بعد عرض الفيلم على يوتيوب وتحقيقه رقما عاليا من المشاهدات، ثم تحول نسبي في شخصية "زين"، فبينما كان رماديا، محايدا، من حزب الكنبة/ حزب نفسي نفسي، تطور الأمر ليتعاطف مع "اسباب الثورة، في قناعة بجدوى الأحداث العاصفة التي مرت بها سوريا ومجايلوه من الشباب وصحة رؤاهم. • صحفي وكاتب مصري
#عبدالرحيم_كمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موسى.. الجدل المتجدد بين الدين والعلم
المزيد.....
-
ترجمة مُضللة لتصريحات وزير دفاع أمريكا عن ضربات ضد الحشد الش
...
-
-لا أرض أخرى-.. البدو الفلسطينيون يجبرون على الرحيل تحت غطاء
...
-
قائد الثورة..ضرورة زيادة النتاجات العلمية والفنية عن هؤلاء ا
...
-
الأردن يعلن إرسال وفود لدراسة الحالة الفنية والأمنية لإعادة
...
-
ألبر كامو: قصة كاتب عاش غريباً ورحل في ظروف غامضة
-
كتاب الفوضى.. قصة صعود وهبوط شركة الهند الشرقية
-
ترامب يعتبر جلسة تحديد عقوبته بقضية الممثلة الإباحية -تمثيلي
...
-
-زنوبيا- تُحذف من المناهج السورية.. فهل كانت مجرد شخصية خيال
...
-
عمرها 166 مليون سنة.. اكتشاف آثار أقدام ديناصورات في أوكسفور
...
-
الفنان عبد الحكيم قطيفان ينفي تعيينه نقيبا للفنانين في سوريا
...
المزيد.....
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
المزيد.....
|