أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - الأتمتة وسؤال الإنسان














المزيد.....


الأتمتة وسؤال الإنسان


أحمد زكرد

الحوار المتمدن-العدد: 8210 - 2025 / 1 / 2 - 05:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


شكلت التكنولوجيا عبر تاريخ البشرية أحد أعمدة التحول في حياة الإنسان، من عصر الأدوات الحجرية إلى الثورة الصناعية، وصولًا إلى زمن الأتمتة. الأتمتة ليست مجرد ظاهرة تقنية، بل هي تجسيد لتغير عميق في العلاقة بين الإنسان والعالم من حوله، بما تحمله من إمكانات للتحرر والتقدم، وما تثيره من أسئلة جوهرية حول الهوية، القيم، والمعنى. من هذا المنطلق، تكتسب دراسة الأتمتة من منظور فلسفي أهمية خاصة، إذ تسعى للإجابة عن تساؤلات وجودية تتعلق بالوضع البشري في ظل سيطرة الآلة على قطاعات متعددة من الحياة.
البشرية لطالما بحثت عن سبل لتخفيف عبء العمل اليدوي، ومن هنا جاء السعي الدؤوب نحو تطوير الآلات التي تُسهّل الحياة. مع ظهور الأتمتة، حدثت نقلة نوعية، حيث لم تعد الآلة مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت قادرة على التفكير واتخاذ القرارات في مجالات كانت تُعتبر حكرًا على الإنسان. هذا التطور أثار جدلًا فلسفيًا كبيرًا حول معاني العمل، القيم الإنسانية، والدور الحقيقي الذي يجب أن يلعبه الإنسان في هذا العالم الآخذ في التحول.
على الصعيد الفلسفي، يمثل العمل أحد الأبعاد الأساسية للوضع البشري. ماركس، على سبيل المثال، ربط بين العمل والوجود الإنساني، حيث يرى أن الإنسان يُعرّف ذاته من خلال عملية الإنتاج. غير أن الأتمتة تُهدد هذا الرابط، حيث تُجرد الإنسان من علاقته المباشرة بالعمل وتُلقي به في حالة من الاغتراب. لم يعد الإنسان العامل هو الذي يُنتج، بل أصبحت الآلة هي المُنتج الرئيسي. هذا التحول يُثير تساؤلًا: إذا فقد الإنسان علاقته بالعمل، فهل يفقد بذلك جزءًا من إنسانيته؟
لكن هذا الطرح ليس موحدًا، فهناك من يرى أن الأتمتة تمثل تحريرًا للإنسان من الأعباء الجسدية والنفسية التي يُثقل بها العمل كاهله. في هذا السياق، قد تُعتبر الأتمتة خطوة نحو تحقيق الغاية الإنسانية العليا، وهي التفرغ للتأمل والإبداع. أرندت، على سبيل المثال، فرّقت بين "العمل" الذي يشمل الأنشطة الضرورية لاستمرار الحياة، و"الفعل" الذي يُعبر عن الإبداع الإنساني. إذا استطاعت الأتمتة أن تتحمل عبء العمل، فإن ذلك يُتيح للإنسان فرصة للتركيز على الفعل، وبالتالي إعادة تعريف الوضع البشري في اتجاه أكثر ثراءً.
إلى جانب العمل، يطرح حضور الأتمتة سؤالًا حول الهوية. في عصر تُصبح فيه الآلات أكثر ذكاءً وقدرة، قد يشعر الإنسان بفقدان التفرد الذي طالما اعتبره أساس وجوده. إذا استطاعت الآلة أن تُفكر وتتعلم، فما الذي يجعل الإنسان مميزًا؟ هذا السؤال يقودنا إلى البحث عن معنى أعمق للإنسانية، معنى يتجاوز الذكاء والقدرة الإنتاجية إلى قيم مثل الحب، الإبداع، والمعنى الأخلاقي للحياة.
لكن الأتمتة ليست ظاهرة منعزلة عن السياق الاجتماعي والاقتصادي. في العالم الحديث، تُستخدم التكنولوجيا غالبًا لتعزيز مصالح القوى الاقتصادية الكبرى، مما يُعمّق التفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي. الأتمتة قد تؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة، في حين يُحرم الملايين من فرص العمل ووسائل العيش. هذا الواقع يفرض ضرورة التوقف عند البُعد الأخلاقي للأتمتة، حيث تُصبح الأسئلة حول العدالة الاجتماعية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
إضافة إلى ذلك، فإن الأتمتة تُثير تساؤلات فلسفية حول مسؤوليتنا تجاه الآلات ذاتها. إذا وصلت الأتمتة إلى مرحلة تطور تُظهر فيها الآلات سمات قريبة من الوعي، فإن ذلك يطرح مسألة الحقوق والمسؤوليات. هل يُمكننا أن نستمر في استخدام الآلات كوسائل فقط، أم أننا سنحتاج إلى تطوير أخلاقيات جديدة تُحدد علاقتنا بهذه الكائنات الاصطناعية؟
في نهاية المطاف، يُمكن القول إن الأتمتة تضع البشرية أمام مفترق طرق تاريخي. فهي تحمل وعودًا عظيمة بالتحرر من قيود العمل وإعادة تعريف الوضع البشري، لكنها في الوقت ذاته تُثير مخاوف وجودية وأخلاقية عميقة. كيف نُوجه هذا التحول بما يُحقق الخير العام ويحفظ كرامة الإنسان؟
يبقى الإنسان هو المحور الرئيسي لهذه المعادلة، فالأتمتة ليست إلا انعكاسًا لإرادته وقدرته على تشكيل العالم. ومن هنا، فإن إعادة النظر في قيمنا وأهدافنا كمجتمع إنساني هي المفتاح لبناء علاقة متوازنة بين الإنسان والآلة، علاقة تُعزز الإنسانية بدلًا من أن تُهددها. الفلسفة، باعتبارها تأملًا في المعنى والغاية، تُقدّم لنا الأدوات لفهم هذا التحول التاريخي وإيجاد طريق يتوافق مع تطلعاتنا الأخلاقية والوجودية.



#أحمد_زكرد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الريد بيل Red pill: فلسفة جديدة لفهم العلاقات بين الجنسين وت ...
- نظرة بانورامية حول تاريخ الفلسفة منذ الاغريق الى الآن
- اشكالية الرغبة: جدلية النقص والإشباع في تشكيل الذات
- إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس
- Lillusion et la vérité
- مستقبل سوريا في ظل الصراع الدولي
- الفلسفة المعاصرة: جدلية الإنسان بين انهيار اليقين والبحث عن ...
- إشكالية الهوية و الوجود الرقمي: بين الأصالة والاغتراب
- بين الظلم التاريخي وإعادة الاعتبار: إشكالية قراءة أفكار السف ...
- النقاب كظاهرة ثقافية: تحليل فلسفي واجتماعي في السياق المغربي
- الناسخ والمنسوخ والمفقود والمرفوع


المزيد.....




- روسيا تتعهد بالرد بعدما أسقطت 8 صواريخ -أتاكمز- أمريكية الصن ...
- بلينكن يستبعد أن تتمكن كييف من استعادة الأراضي التي حررتها ر ...
- مصر.. مقتل ضابط و 11 عنصرا إجراميا في عمليات أمنية
- بلينكن يعترف أن واشنطن بدأت بتزويد كييف بالأسلحة سرا قبل بدء ...
- السفير الإيراني لدى لبنان يعلق على التوترات الأخيرة في مطار ...
- الصحة النفسية في الحرب … ندوب غير مرئية
- -سبيس إكس- تطلق قمرا صناعيا إماراتيا بنجاح
- لبنان يترقب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وسط غموض سياسي
- -آبل- توافق على دفع 95 مليون دولار لتسوية دعوى تنصت تتعلق بم ...
- أول طائرة مساعدات مصرية تصل سوريا بعد سقوط الأسد


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - الأتمتة وسؤال الإنسان