|
حين يصبح نشر الغسيل تهمة
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 8209 - 2025 / 1 / 1 - 12:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أواخر عام 2006، وصلني استدعاء من الأمن السياسي، لم يكن مفاجئاً لي، فقد كنت على علمٍ بأن مقالاتي في جريدة "قاسيون" كانت تثير جدلاً في صفوف أصحاب النفوذ، الذين اعتادوا ألّا يسمعوا سوى أصواتٍ تؤيدهم. لكنني، وعلى الرغم من ذلك، قررت أن أرتدي أفضل ما لدي من ثياب رسمية مع رباط عنق أنيق، وكأنني في طريق إلى حفلة خطوبة أو زفاف، مع أنني قد لا أعود إلى بيتي. هل كان ذلك ضرباً من تحدّي الخوف، أم محاولة للإيحاء بأنني لم أُهزم بعد؟ لا أدري. ما كنت أعرفه هو أنني، بغرابة، لم أشعر بالرهبة كما توقعت. وتوجّهت إلى هناك.
عند وصولي إلى مكتب الضابط المسؤول، الذي كان في العقد الرابع من عمره، استقبلني بحفاوة، لكن تلك الحفاوة لم تُطفئ نيران الشكوك التي كانت تلهب صدري. كانت كلماته تحمل مزيجاً من الدفء الظاهر والحذر الكامن، وكأنّها تَخفي ما سيحدث لاحقاً. بدا مهذباً في حديثه، وافتتح الجلسة بترحيب ودود وسؤال عن مشروبي الساخن المفضل، وكأننا في لقاء عابر، لا في غرفة اعتاد مرتادوها شرب القلق والخوف. أجبت بحذر، وأنا أزن كل كلمة بعناية، ثم أثنى على مقالاتي قائلاً إنه يقرأها بشغف، مضيفاً: "أسلوبك مميز، وكلماتك تشدّ القارئ"، شعرت لوهلة أن الجلسة ستأخذ منحى مختلفاً، لكن سرعان ما تبددت هذه الفكرة، إذ انقلبت نبرته فجأة، واكتسبت كلماته حدّة دفينة، مشحونة بتهديد مبطّن ووعيد صريح، وكأنها صفعة على وجه ذلك الأمان المؤقت.
نظر إليّ بجدية، وقال: "مقالاتك يا أستاذ تخدم أعداء الوطن. أتعلم أن المتربصين بالبلاد يستفيدون منها كثيراً؟ لماذا تصرّ دائماً على نشر الغسيل الوسخ؟ ثم إني اشتهيت أن أقرأ لك مقالاً واحداً تشيد فيه بإنجازاتنا. هل يعقل أنك لا ترى شيئاً إيجابياً في عملنا؟ أيّ ناكر للجميل، بل أي حاقد أنت يا رجل؟!" ثم اتكأ إلى الخلف، يترقب ردي كمن يضع حجرة شطرنج أخيرة في انتظار تحرك الخصم، ثم أطبق صمت مخيف، وهو يراقبني بعينين تنتظران اعترافاً أو تبريراً يثبت رؤيته المسبقة. لم أشأ أن أترك الحدّة تسيطر على الحوار، فقلت بهدوء: - سيادة الرائد، أشكرك على صراحتك، وأتمنى عليك التحلي بسعة الصدر لما ستسمعونه مني. إن كنتم تخشون نشر الغسيل الوسخ، فاسمح لي أن أردّ: سدّوا الذرائع، لا تتركوا لنا غسيلاً وسخاً نضطر لتطهيره. أليس من المفارقة أن تُلام الشمس على كشف العيوب، بينما يكافأ من يسهم في تراكم الأوساخ؟ أنتم تغضبون ممن يكشف القبح، ولا تغضبون ممن يصنعه.
ثانياً، أتفق معك أن لديكم إيجابيات، ولا يخلو أي نظام في العالم من ذلك، ولكنني وبصفتي كاتب وصحفي، أرى أن مسؤوليتي ليست في التصفيق، بل في رصد النواقص، تماماً كما أوصى الرئيس الراحل حافظ الأسد، حين قال: لا أريد لأحد أن يتستر على العيوب . أما التصفيق، فلديكم جيش من المدّاحين يكفيكم وزيادة في كل وسائل الإعلام".
لم أكن أعلم أن عبارتي حول حافظ الأسد، ستثير استفزازه إلى هذا الحدّ. اتكأ على كرسيه وأجاب متهكماً: - أولاً، نحن لا نستخدم عبارة (الرئيس الراحل) بل "القائد الخالد"، ثانياً، ألم يحضر إلى ذاكرتك إلا تلك العبارة التي قالها القائد الخالد (لا أريد لأحد أن يتستر على العيوب والنواقص)؟ ونسيت باقي أقواله التي تحضّ على الانتماء للوطن والتضحية في سبيله؟
تجنبت الرد، إذ أدركت أن أي نقاش حول "القائد الخالد" قد يشعل التوتر أكثر. الحقيقة أن الخوض في هذا الموضوع مع أشخاص يرونه أحد أعظم الآلهة التي أنجبتها البشرية، لن يجلب سوى المزيد من التعقيد. تركته يراقبني بصمت، بينما خيّم على الغرفة جو ثقيل، كأن الهواء نفسه توقف ليستمع.
أدركت أن عليّ استعادة زمام الحديث قبل أن يتحوّل النقاش إلى مسار لا أريده. ابتسمت بهدوء، وتابعت محاولاً الانتقال إلى موضوع آخر: - سيادة الرائد، أنتم من تكتبون التاريخ، أما نحن فنحاول أن نكتب الحقيقة، وإن أردتم ألّا يراها الناس، فلعل الخطأ ليس في عيونهم، بل في المشهد الذي يُعرض أمامهم. إن أردتم تكميم الأفواه، فلن تعدموا الوسائل، ولكن اعلموا أن الحقائق دائماً ما تجد طريقها. الشمس لا تختبئ خلف الغيوم طويلاً. لقد وصلت رسالتك، وقد أتوقف عن الكتابة، إذا ما أجبرتموني على ذلك، ولكن سيأتي يوم تُسمَع فيه الأصوات، وتُكشف فيه العيوب، ليس للتشهير، كما تعتقدون، أبداً بل لتطهير الجراح. ردّ بابتسامة مغايرة لتوقعي: - لا، لا نريدك أن تتوقف عن الكتابة، بل على العكس، نحن بحاجة إلى أمثالك، ليعرف العالم أننا نقدّس الديمقراطية وحرية التعبير. لكن... خفف من حدّة نبرتك قليلاً، هل لديك مانع؟ نظرت إليه، محاولاً قراءة ملامحه التي امتزجت فيها الحدّة بالدهاء، وقلت بهدوء: - سيادة الرائد، الحدّة ليست عداءً، بل هي صرخة لإيقاظ النائمين قبل أن تتحوّل الأخطاء إلى كوارث. كتاباتي ليست إلا محاولة لفت الانتباه إلى مَواطن الخطأ، وأعتقد أنكم تعلمون أنها لا تهدف للنيل منكم بقدر ما تسعى لتحفيزكم على معالجة الأزمات بسرعة وفعالية.
أوقف بيده حركة القلم على الطاولة، وكأنه يختتم الفصل من حديثنا، وأشار برأسه نحو الباب. - أعتقد أن الجلسة انتهت، لكن تذكّر أن الحقيقة ليست دوماً كما تراها، بل كما نريدها أن تكون.
خرجت من المكتب، وأنا أدرك أن الحكاية لم تنتهِ. لقد كان لقاءً مع ضابط أمن في وطنٍ مثقل بالقيود، وطن يطمح أن يطلق ضحكة كاملة، لكنه يخشى الابتسام. في ذلك اليوم، لم أتوقف عن الكتابة، لكنني أدركت أنني أكتب لزمنٍ قد لا أعيشه، زمنٍ ستُسمَع فيه الأصوات التي كانت تُكمّم، وسيصبح فيه النور شاهداً وحَكَماً على كل ما أُخفي يوماً تحت ستارٍ من الظلام.
لكنني عشته، وها أنا الآن أعاصر سقوط الطاغية بعد 8 كانون الأول 2024، الزمن الذي طالما حلمت به، حين أصبحت الأصوات التي كانت مُكمّمة تنطلق بحرية، وأخذت الشمس مكانها كرمز للحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها بعد اليوم.
أخيراً، تُرى هل سأخضع مستقبلاً إلى استدعاءات من هيئة تحرير الشام وشركائها بذريعة نشري للغسيل الوسخ؟ وهل كُتب عليّ أن أبقى معارِضاً طوال عمري، أتنقل بين فرع أمنٍ وآخر، بين زنزانةٍ وأخرى، أُسكَتُ حيناً وأُهدَّد أحياناً، بينما ألهث خلف نسمة حريةٍ تُنقذ روحي من اختناق الصمت؟
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل ستعيد حكومة تصريف الأعمال عجلة الزمن إلى الوراء؟
-
مسؤولية بشار الأسد في الكارثة السورية
-
عدالة بلا انتقام.. لماذا أرفض الإعدام للفاسدين؟
-
صبيحة سقوط الأسد
-
«صام صام وفطر على بصلة».. هل هذا قدرنا؟
-
تصاعد الـ -ممارسات الفردية- تهدد السلم الأهلي في سوريا
-
عندما تمنحك الأجهزة الأمنية صفة المواطنة
-
التفاؤل الحذر في مواجهة التحديات السورية
-
مقابلة حصرية خصّني بها الرئيس السابق بشار الأسد
-
جيهان.. وعدُ العدسة وخلودُ القضية
-
نحو دستور يُحيي قيم العدالة والمساواة في سوريا
-
عبء القُربى في زمن القمع
-
المال المسروق.. من قنوات الفساد إلى قنوات التعويض
-
سوريا بين الكنز المفقود والرصاص الصامت
-
الغرفة التي لم تكن سرية
-
بين المزايدات والفرص المهدورة: قراءة في حال -محور المقاومة-
-
«التكويع» تحت المجهر: لماذا يغيّر الإنسان مواقفه؟
-
المصالحة والاعتدال.. نحو استراتيجية واعدة
-
أخيراً.. صفحة الاستبداد والقهر تُطوى ليبزغ فجر الحرية
-
حين أدار الأسد ظهره للأمل.. سوريا والقرار 2254
المزيد.....
-
السيناتور الأمريكي السابق مينينديز يطلب تخفيف عقوبته بشأن إد
...
-
-مهمة خطيرة-.. كيف سيتم التعامل مع إرث الأسد -السام- من الأس
...
-
قسم لرعاية المصالح الأميركية بسفارة تشيكيا في دمشق
-
ترامب ينتظر الحكم عليه في قضية -شراء الصمت- بعد أيام معدودة
...
-
إسرائيل تدافع عن مداهمة مستشفى كمال عدوان في غزة ومفوض أممي
...
-
محلل إسرائيلي: حماس لا تستسلم وهذه أساليب قتالها
-
-أ ب-: منفذ تفجير شاحنة -سايبرتراك- في لاس فيغاس كان يعاني
...
-
الإعلان عن حالة تأهب للغارات الجوية في ثلاث مناطق أوكرانية
-
ترامب يكشف عن مرشحه لمنصب السفير الأمريكي لدى إستونيا
-
مندوب مصر: إسرائيل تكشف مجددا عن وجه جديد قبيح
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|