تحديات الديمقراطية في العالم العربي.. ثقافة الاستبداد وأفق التغيير

حسام الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 8208 - 2024 / 12 / 31 - 07:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

تواجه الديمقراطية في العالم العربي تحديات عميقة لا تتعلق فقط بالقضايا السياسية أو المؤسساتية، بل تكمن جذورها في الثقافة السائدة والموروثات الفكرية التي شكّلت الوعي الجماعي. في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى غياب الديمقراطية كظاهرة سطحية ناتجة فقط عن الأنظمة الاستبدادية أو غياب المؤسسات الدستورية. بل يجب النظر إلى أصول هذه الأزمة في الخطاب الثقافي العربي، الذي يتسم بالنبذ المتبادل والتسلط، ويعجز عن توليد مفاهيم جديدة للنهضة، بما في ذلك الديمقراطية.
تعود هذه الأزمة الثقافية إلى موروثات تاريخية قديمة، حيث كان الاستبداد والتسلط جزءًا من البنية الاجتماعية والسياسية للعديد من المجتمعات العربية. هذه البنية الثقافية عززت منطق التفوق والسيطرة على حساب الحوار والتنوع، مما أضعف القدرة على بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية. بالإضافة إلى ذلك، تهيمن على الخطاب العربي المعاصر أيديولوجيات متناقضة لا تقدم حلولًا عملية لمشاكل المجتمع، بل تستهلك مفاهيم مثل الديمقراطية والحرية دون القدرة على ترجمتها إلى واقع ملموس.
الأمر لا يتوقف عند القوالب الأيديولوجية السطحية فقط، بل يمتد إلى غياب الوعي النقدي الفعّال الذي يمكن أن يعيد تشكيل هذه المفاهيم. الثقافة التي تروج للتسلط والتهميش تضعف من قدرة المجتمع على مواجهة تحديات التغيير، مما يجعل من الصعب تطوير أفكار جديدة تتجاوز تلك التي تعود إلى موروثات الماضي. لذلك، يجب أن يبدأ التغيير من داخل الثقافة نفسها، عبر عملية تفكيك عميقة للمفاهيم السائدة وإعادة تعريف القيم الأساسية التي يمكن أن تؤسس لمجتمع ديمقراطي قادر على التجدد والتطور.

الثقافة والسلطة: الجذور العميقة للاستبداد
تعود جذور الاستبداد في العالم العربي إلى بنية ثقافية عميقة، التي كانت ولا تزال تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية. فمنذ العصور القديمة، كان للسلطة في العالم العربي طابع مركزي، حيث كان الحاكم يُنظر إليه كرمز للثبات والاستمرارية، بينما يُعتبر الخضوع للسلطة كطابع أساسي للنظام الاجتماعي والسياسي. هذا التوجه الثقافي أثر بشكل كبير في نظرة المجتمع إلى السلطة، حيث ارتبطت بفكرة التفوق والسيطرة المطلقة، ولم تُتَح فرص للتفكير النقدي حول سلطة الحاكم أو دوره في المجتمع.
الخطاب الثقافي العربي القديم، بما يتضمنه من نصوص دينية وفكرية، قد ساهم في تعزيز هذه الصورة للسلطة. ففي العديد من الحالات، كانت هناك دعوات للولاء والطاعة دون نقاش أو اعتراض، وكان يعامل الحاكم كحامل للحق المطلق. هذا الخطاب أثّر على الوعي الجماعي، وأصبح جزءًا من الثقافة الشعبية التي تروج لفكرة أن السلطة هي أمر مفروغ منه وأن الحديث عنها خارج نطاق الطاعة قد يُعتبر تهديدًا للنظام الاجتماعي والسياسي. بذلك، أصبحت الثقافة العربية تُنتِج نموذجًا من التسلط مستمرًا ومتأصلًا في الفكر الشعبي، يعيق نشوء أي شكل من أشكال النقد الفعّال للسلطة.
ومع مرور الزمن وتطور المجتمعات العربية، استمر هذا الخطاب التراثي في الهيمنة على الثقافة السياسية. إذ، بينما ظهرت حركات وتيارات فكرية تهدف إلى تحديث المجتمع العربي، إلا أنها ظلت محكومة بأطر من التفكير التقليدي. هذه الحركات، على الرغم من تبنيها بعض مفاهيم النهضة والتحديث، لم تُترجم أيديولوجياتها إلى ممارسات عملية قادرة على تحطيم بنية السلطة القديمة. فما زالت بعض الأيديولوجيات، مثل القومية والاشتراكية والإسلام السياسي، تستهلك مفاهيم مثل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكن دون أن تقدم حلولًا حقيقية تسهم في تأسيس بنية ديمقراطية.
هذا التناقض بين الخطاب والأفعال يعكس أزمة أعمق في الثقافة العربية المعاصرة، حيث لم يتمكن هذا الخطاب من تجاوز مفاهيمه القديمة وإعادة صياغتها بشكل يتيح تأسيس نظم ديمقراطية حقيقية. بدلاً من أن يُحفز هذا الخطاب على نقد السلطة أو طرح بدائل سياسية فعلية، فهو يعزز في كثير من الأحيان منطق الاستبداد والولاء الأعمى.

أزمة النقد الثقافي: غياب التفاعل والمشاركة
من الملاحظ أن غياب النقد الفعّال للمفاهيم الثقافية المتعلقة بالسلطة هو أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الاستبداد في العالم العربي. في غياب هذا النقد، لا يُتاح للمجتمع فرصة التفكير في بدائل للسلطة المطلقة أو في أسس إقامة نظام سياسي ديمقراطي. ومن هنا، يمكننا فهم لماذا يفشل الخطاب العربي المعاصر في تقديم حلول فعلية لمشاكل التسلط والاستبداد، رغم تكرار الحديث عن الديمقراطية والنهضة.
إن غياب النقد الفعّال يؤدي إلى التبعية الفكرية التي تساهم في تعزيز سلطة النخب الحاكمة. ثقافة التسلط تصبح جزءًا من الوعي الجماعي، ويُنظر إلى السلطة على أنها شيء يجب تقبله بلا نقاش أو مساءلة. وفي هذه البيئة الثقافية، يُعتبر النقد والتحليل المستقل تهديدًا للنظام القائم، مما يعزز من إضعاف أية محاولات لتطوير الديمقراطية.
النقد الثقافي يجب أن يتجاوز مجرد الكلام النظري عن مفاهيم مثل الديمقراطية، ويجب أن يشمل عملية تفكيك بنية السلطة الثقافية التي تُنتج الاستبداد. يتطلب ذلك العودة إلى جذور الخطاب الثقافي العربي، والعمل على إعادة تعريف وتطوير مفاهيم السلطة والحرية والمشاركة السياسية في إطار جديد قادر على استيعاب التعددية الفكرية والسياسية.

التفكيك الثقافي: الطريق نحو الديمقراطية
إن الطريق نحو الديمقراطية في العالم العربي ليس مجرد مسألة سياسية أو قانونية، بل هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة السائدة. فالأزمة التي تعيق التحول الديمقراطي لا تقتصر على نقص المؤسسات أو الأنظمة السياسية الفاعلة، بل تتجاوز ذلك إلى بنية ثقافية تؤسس لفكر يرفض التفاعل النقدي ويعزز التسلط والاستبداد. لذلك، لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية ما لم يتم تفكيك هذا الخطاب الثقافي الذي يكرس سلطة الواحد ويغيب منطق المشاركة والاختلاف. هذا التفكيك الثقافي يشمل تغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى السلطة، وإعادة صياغة المفاهيم المتعلقة بالحرية والعدالة والمشاركة السياسية.

تفكيك الخطاب الثقافي: تجذير الأزمة
يتسم الخطاب الثقافي السائد في العالم العربي بالاستمرارية في دعم ثقافة التسلط والقبول بالسلطة المطلقة. فالمفاهيم التي تم تداولها على مدار التاريخ، مثل الطاعة العمياء للسلطان أو الحاكم، استمرت في تشكيل الوعي الجماعي وطرائق التفكير. هذه المفاهيم ترسخ في الأذهان أن السلطة يجب أن تكون في يد فرد أو نخبة معينة، وأن أي محاولة لمساءلة هذه السلطة تعد تهديدًا للنظام الاجتماعي والسياسي. وبالتالي، فإن الخوف من التغيير والنقد الجاد قد أصبح جزءًا من الهوية الثقافية، مما يعوق أي محاولة لبناء نظام سياسي ديمقراطي.
ما يحتاجه العالم العربي هو تفكيك هذا الخطاب الثقافي الموروث، والتحليل العميق للمفاهيم التي تدعمه. هذا التفكيك لا يعني فقط انتقاد السلطة أو الأنظمة السياسية، بل يتعلق بتفكيك بنية الأفكار التي تُعزز منطق الاستبداد، سواء في المستوى الظاهر أو في المستويات العميقة من الوعي الجمعي. فحتى في الحالات التي يظهر فيها الحديث عن الديمقراطية، يبقى هذا الخطاب مشروطًا بمفاهيم قديمة تعزز من استمرار السلطة المطلقة.

إعادة بناء الثقافة: من التسلط إلى الديمقراطية
بعد تفكيك الخطاب الثقافي الاستبدادي، يأتي دور إعادة بناء ثقافة جديدة تُقدّر القيم الديمقراطية. هذه الثقافة لا بد أن تكون قائمة على نقد حقيقي ومستمر للسلطة، وعلى تعزيز منطق المشاركة والاختلاف في الحياة السياسية والاجتماعية. يجب أن يتوقف التركيز على السلطة كقيمة ثابتة لا يمكن التفاوض عليها أو مساءلتها، وأن يتحول الحوار الثقافي إلى مجال مفتوح للتنوع والمناقشة.
لبناء هذه الثقافة، يحتاج المجتمع العربي إلى إشراك أفراد المجتمع في التفكير النقدي حول مفاهيم السلطة والحرية والمساواة. ذلك يتطلب تقوية الوعي السياسي الجماعي من خلال التعليم والمشاركة الفعالة في النقاشات العامة التي تعزز من قيم الديمقراطية. كما أن التغيير الثقافي لا يجب أن يقتصر على النخب الفكرية، بل يجب أن يكون حوارًا عامًا يشارك فيه الجميع، بحيث تُعزز هذه الثقافة في المجتمع ككل.

التفكيك المعرفي: تأسيس للوعي الديمقراطي
التفكيك المعرفي للمفاهيم الاستبدادية هو خطوة أساسية في هذا الطريق. لا يكفي مجرد أن نتحدث عن الديمقراطية كفكرة، بل يجب أن نعيد تعريفها من منظور يتحدى أسس التسلط. إن النجاح في هذا المجال يتطلب منا أن نكون مستعدين لتفكيك الصور التقليدية للسلطة والنظر في آليات إنتاجها في الثقافة العربية. فكلما تمكنا من فهم الكيفية التي يتم بها تكرار التسلط في الخطاب، من خلال الرموز والأيديولوجيات، كلما كانت فرصنا أكبر في إيجاد ثقافة جديدة تؤسس لديمقراطية حقيقية.
في النهاية، يمكن القول إن الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن أن تتحقق عبر مجرد تصحيح القوانين أو تغيير الأنظمة السياسية، بل لا بد من إعادة بناء الثقافة بأكملها. وهذا يتطلب عملية تفكيك شاملة للمفاهيم القديمة التي تدعم الاستبداد، وتأسيس بدائل ثقافية تقبل النقد والتنوع، وتعزز من المشاركة السياسية والشعبية.


خلاصة: أفق الثقافة لا السياسة
إن فكرة تطور الديمقراطية في العالم العربي تتطلب إعادة التفكير في الأسس التي يرتكز عليها النظام الاجتماعي والسياسي، وأساس هذه الأسس هو الثقافة السائدة. فعلى الرغم من أن كثيرًا من النقاشات تدور حول الحاجة إلى إصلاحات سياسية، وتغيير الأنظمة أو الدساتير، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في الثقافة التي تُنتِج هذه الأنظمة وتُكرس الاستبداد بطرق غير مرئية. التغيير الحقيقي لا يأتي فقط من تعديل القوانين أو تغيير الوجوه السياسية، بل من تحول عميق في بنية التفكير الثقافي، الذي يحدد كيفية تشكيل الوعي الجمعي وتفسيره للسلطة والحريات.

النقد الثقافي: مدخل نحو الديمقراطية
لن تتمكن المجتمعات العربية من بناء نظام ديمقراطي حقيقي ما لم يتم تفكيك المفاهيم الثقافية التي تعزز الاستبداد وتُجَرّم التفكير النقدي. الثقافة العربية السائدة، في جزء كبير منها، تربت على التقاليد التي تعزز من مركزية السلطة، سواء كانت دينية أو سياسية، وتجعل من النقد وحرية التعبير أمورًا ثانوية أو محظورة. وهذه الثقافة لم تقتصر على تعزيز الاستبداد في الأنظمة السياسية فقط، بل امتدت إلى الحياة اليومية، حيث يُنظر إلى السلطة على أنها قيمة ثابتة لا يجوز المساس بها. لذلك، فإن التغيير الثقافي يصبح هو المفتاح الرئيسي في دفع المجتمعات العربية نحو الديمقراطية، لأن إعادة صياغة العلاقة بين الأفراد والسلطة تبدأ من تغيير هذه النظرة الثقافية.

من الثقافة إلى السياسة: التفاعل بين الوعي والممارسة
التغيير الثقافي لا يكون مجرد عملية فكرية نخبويّة، بل يجب أن يتحول إلى حركة مجتمعية تلامس حياة الأفراد والمجتمعات. على المستوى الثقافي، يجب أن يتم تشجيع التفكير النقدي، والنقاش العميق حول مفاهيم مثل الحرية والمساواة، وأن تكون هذه المفاهيم مرتبطة بالممارسات اليومية. النقد الثقافي يتطلب محو الأفكار القديمة التي تربط بين السلطة والطاعة، وتعزيز مفهوم المشاركة الجماعية في اتخاذ القرارات. عندما يبدأ الأفراد في فهم السلطة كعلاقة قابلة للنقد والمساءلة، سينتقل هذا التغيير إلى المجال السياسي.
لا شك أن التغيير السياسي يجب أن يتبع هذا التحول الثقافي، إذ أن السياسة في جوهرها هي نتاج للوعي الثقافي، والفكر السائد. إذا تغيرت نظرة الناس إلى السلطة كحق من حقوق الشعب، وأصبحت الديمقراطية ليس مجرد فكرة نظرية بل جزءًا من الثقافة اليومية، فإن تغيير الأنظمة السياسية يصبح أمرًا ممكنًا. التفاعل بين الثقافة والسياسة يصبح هنا محوريًا، حيث يعزز الوعي الثقافي تغييرات سياسية بناءة، ويُفضي إلى بناء نظام ديمقراطي يتمتع بالمشاركة الشعبية.

ثقافة التعددية والنقد: أساس الديمقراطية
الثقافة الديمقراطية لا تتعلق فقط بحرية التعبير عن الرأي، بل تتعلق أيضًا بقبول التعددية الفكرية والاعتراف بحق الآخر في الاختلاف. الثقافة التي تعزز الديمقراطية يجب أن تكون ثقافة تشجع على التفاعل مع الأفكار المختلفة وتقبل النقد البنّاء. ولذلك، يصبح تأسيس ثقافة نقدية تعني تأسيس ممارسات اجتماعية جديدة تتقبل الحوار والتفاعل بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك المعارضة. وعندما تتجذر هذه الثقافة في الوعي الجماعي، يصبح من الممكن أن ترى الأنظمة السياسية في العالم العربي ضرورة الاستجابة لاحتياجات المجتمع والمشاركة في اتخاذ القرار.

الخلاصة: بناء الديمقراطية من داخل الثقافة
في النهاية، يصبح من الواضح أن الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تغييرات جذرية في الثقافة نفسها. إن الأفق الممكن لتطور الديمقراطية يتجاوز حدود السياسة إلى الأفق الثقافي، حيث يبدأ التغيير من داخل الوعي الثقافي. الثقافة هي التي تُنتِج السياسة، وعندما تتغير القيم والمفاهيم الثقافية لتشمل التعددية، النقد، والمشاركة، فإن ذلك سيمهد الطريق لنشوء واقع سياسي جديد ينبثق من هذه الثقافة المتجددة. الديمقراطية لا تولد من تعديل المؤسسات فقط، بل من تحول ثقافي يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والسلطة، ويخلق بيئة أكثر استعدادًا لاستقبال الممارسات الديمقراطية بشكل حقيقي.

#حسام_الحداد (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات