أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العلموية في ميزان النقد: قراءة فلسفية وثقافية شاملة















المزيد.....


العلموية في ميزان النقد: قراءة فلسفية وثقافية شاملة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8208 - 2024 / 12 / 31 - 00:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

العلموية الغربية ليست مجرد ظاهرة فكرية أو فلسفية، بل هي تجلٍ شامل لعصر من التحولات الكبرى في فهم الإنسان للعالم ومعنى وجوده. إنها رؤية تصاعدت ببطء لكنها فرضت هيمنتها على العقول والثقافات منذ الثورة العلمية في القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا. في قلب العلموية يكمن الإيمان المطلق بأن المنهج العلمي التجريبي هو الطريق الوحيد إلى الحقيقة، وأن التقدم البشري مرهون حصريًا بما يمكن قياسه وتحليله وتحويله إلى قوانين رياضية أو تطبيقات تكنولوجية. هذه الفلسفة، التي تشبّعت بها المجتمعات الغربية، تجاوزت كونها مجرد منهجية بحثية لتتحول إلى عقيدة متغلغلة في كل أوجه الحياة الحديثة.

على مر العصور، نجحت العلموية الغربية في تحقيق إنجازات هائلة غيّرت وجه البشرية، من اختراقات طبية مذهلة إلى تقنيات ثورية غيرت أسلوب الحياة ووسعت آفاق المعرفة الإنسانية. ومع ذلك، فإن الإيمان المطلق بهذا النهج أثار أسئلة فلسفية وأخلاقية عميقة، مثل: هل يمكن للعلم وحده أن يجيب عن أسئلة الوجود الكبرى؟ وهل يملك الإنسان الحق في أن يجعل من العالم "معملًا" خاضعًا لرغباته دون اعتبار للتوازن الطبيعي أو الروحي؟

العلموية الغربية ليست مجرد احتفاء بالعلم، بل هي إقصاء لأي مصدر آخر للمعرفة، سواء كان دينيًا، فلسفيًا، أو حتى أدبيًا. إنها رؤية تجعل من الإنسان سيدًا مطلقًا للطبيعة، لكنها في الوقت ذاته تحوّله إلى ترس صغير في آلة ضخمة من التقدم التكنولوجي، حيث تتحول القيم الإنسانية إلى أرقام، وتُختزل القضايا الأخلاقية إلى معادلات نفعية باردة.

وفي السياق العالمي، تُشكّل العلموية أداة للهيمنة الثقافية والمعرفية، إذ تسعى لفرض نموذجها على المجتمعات غير الغربية، بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية. هذا الفرض يؤدي إلى تهميش التراث الحضاري والروحي لهذه الشعوب، ويخلق ازدواجية معرفية وصراعًا داخليًا بين الأصالة والمعاصرة، وبين القيم المحلية والنماذج المستوردة.

لكن، رغم ما تحققه العلموية من إنجازات، فإنها ليست بمنأى عن النقد. لقد كشف الواقع عن أوجه قصورها، خصوصًا عندما عجزت عن التعامل مع أزمات وجودية مثل التغير المناخي، الأزمات الروحية، وتحديات العدالة الاجتماعية. بات واضحًا أن العلم، رغم قوته، لا يمكن أن يكون المصدر الوحيد للمعنى ولا القائد الأوحد للإنسانية.

إن تناول العلموية الغربية لا يعني رفض العلم أو إنجازاته، بل هو دعوة إلى التأمل والنقد، إلى استعادة التوازن بين مختلف مصادر المعرفة الإنسانية. إنها دعوة إلى إعادة النظر في موقع الإنسان في الكون، ليس كمتحكم ومهيمن، بل كجزء من نسيج أوسع للحياة. ومن هنا، فإن هذا البحث يسعى إلى الغوص عميقًا في جذور العلموية الغربية، تحليل مظاهرها، فهم تأثيراتها، واستشراف مستقبلها في ظل الأزمات التي تواجهها البشرية اليوم.

العلموية الغربية

العلموية الغربية، التي يمكن تعريفها بأنها الإيمان المفرط أو الحصري بأن العلم التجريبي هو المصدر الوحيد أو الأسمى للمعرفة الإنسانية، تُعدّ ظاهرة معقدة متعددة الأبعاد ذات جذور تاريخية وثقافية وفلسفية. لفهمها بشكل متعمق ومستفيض، يمكن تناول الموضوع من زوايا مختلفة:

1. الجذور التاريخية والفلسفية للعلموية الغربية

العلموية الغربية ظهرت بوصفها نتيجة مباشرة للثورة العلمية في القرن السابع عشر، حيث أرسى علماء مثل غاليليو ونيوتن وديكارت أسس المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة.

- الثورة العلمية: هذه الفترة أوجدت إيمانًا قويًا بقدرة العلم على تفسير الظواهر الطبيعية وإيجاد الحلول لمشكلات البشر.
- عصر التنوير: عززت حركة التنوير الإيمان بالعقلانية والعلم كقوة محرِّرة للبشرية.
- الفلسفة الوضعية: لاحقًا، مع ظهور الوضعية المنطقية على يد أوغست كونت وآخرين، ترسخت فكرة أن العلم هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة.

2. سمات العلموية الغربية

- الإيمان بقدرة العلم على تفسير كل شيء: العلموية تذهب إلى أن الظواهر الاجتماعية والإنسانية يمكن أن تخضع لنفس الأساليب العلمية المطبقة على الظواهر الطبيعية.
- رفض الميتافيزيقيا والدين: تنظر العلموية إلى الدين والميتافيزيقيا كمعوقات للفهم العلمي والتقدم البشري.
- التقليل من قيمة الفنون والآداب: تُعامل الفنون والإنسانيات كأنها أدنى قيمة معرفية مقارنة بالعلوم الطبيعية.
- النزعة التقنية: تُبرز التكنولوجيا كدليل على تفوق النهج العلمي.

3. نقد العلموية الغربية

العلموية الغربية ليست بمنأى عن النقد، وقد وُجِّهت إليها انتقادات من زوايا متعددة:

- فلسفيًا: يرى الفلاسفة أن العلموية تفشل في الإجابة عن أسئلة وجودية وأخلاقية لا يمكن للعلم التجريبي التعامل معها.
- اجتماعيًا: بعض المفكرين يعتبرونها نزعة مادية تفكك القيم الإنسانية وتدفع نحو الفردانية.
- بيئيًا: تم اتهام العلموية بالمساهمة في استغلال الطبيعة استغلالًا جائرًا بسبب رؤيتها الميكانيكية للعالم.
- ثقافيًا: هناك اتهام بأنها تسهم في هيمنة الغرب على الثقافات الأخرى من خلال فرض رؤيتها للعلم.

4. انعكاس العلموية الغربية على العالم العربي والإسلامي

- تأثيرات استعمارية: فرضت الرؤية العلموية من خلال الاستعمار كجزء من مشروع "تمديني" يُخضع المجتمعات العربية والإسلامية لنموذج غربي للمعرفة.
- ازدواجية معرفية: أدى هذا إلى وجود صراع في العالم العربي بين النزعة العلمية الغربية والنزعات التراثية الإسلامية.
- التبعية التكنولوجية: أصبحت المجتمعات العربية تعتمد على التكنولوجيا الغربية دون تطوير أطر فكرية أو فلسفية تستوعبها.

5. مستقبل العلموية الغربية: بين التوسع والتراجع

- التوسع: يستمر التوسع من خلال الذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، والتطورات التكنولوجية الأخرى التي تُعزز الاعتقاد بقدرة العلم على حل المشكلات الإنسانية كافة.
- التراجع: يواجه هذا التصور تحديات من أزمات أخلاقية، بيئية، ووجودية لا يستطيع العلم وحده تقديم حلول لها.

6. بدائل العلموية: نحو رؤية متكاملة للمعرفة

- التكامل المعرفي: يسعى بعض المفكرين إلى نموذج تكاملي يجمع بين العلم، والفلسفة، والدين.
- الحكمة العملية: بدلاً من التركيز المفرط على العلم، يمكن التركيز على الحكمة كقيمة تربط بين مختلف أشكال المعرفة لخدمة الإنسانية.
- الوعي البيئي والثقافي: تعزيز مفاهيم الاستدامة واحترام الثقافات المختلفة كأساس لتطوير المعرفة.

مما سبق يتبين أن العلموية الغربية، رغم إنجازاتها المبهرة، تظل إشكالية معرفية وأخلاقية بحاجة إلى مراجعات عميقة. استيعابها في السياق العربي والإسلامي يتطلب التعامل معها كجزء من مشروع نقدي شامل يسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والعلم والقيم الإنسانية.

في ختام هذا الطرح المتعمق حول العلموية الغربية، يتبين أن هذه الفلسفة، على الرغم من إنجازاتها التي لا يمكن إنكارها، قد وضعت الإنسانية على مفترق طرق وجودي وأخلاقي. لقد منحت البشرية قدرة هائلة على فهم العالم الطبيعي والتحكم فيه، لكنها في الوقت ذاته همّشت أبعادًا أساسية من التجربة الإنسانية، مثل القيم الروحية، والمعاني الفلسفية، والأسئلة الوجودية التي لا يمكن للعلم وحده الإجابة عنها.

إن العلموية الغربية ليست مجرد منهجية أو رؤية معرفية، بل هي إيديولوجيا تحمل في طياتها إغراءً بالخلاص العلمي، ولكنها قد تنزلق بسهولة إلى فخ الاستبداد التقني، حيث يُختزل الإنسان إلى مجرد مستهلك للمعرفة أو موضوع للتحكم. في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة تقييم هذه الرؤية، ليس بهدف إنكار أهمية العلم أو التقليل من قيمته، بل لإعادة توجيه دفته نحو تكامل معرفي يعيد التوازن بين العقلانية المفرطة والإنسانية العميقة.

لقد أظهرت أزمات العصر، من تغير المناخ إلى الأزمات النفسية والروحية، أن العلم وحده، رغم قوته، لا يمكن أن يكون المخلص الوحيد للبشرية. بل إن الاعتماد المفرط عليه دون النظر إلى أبعاد القيم والأخلاق قد يؤدي إلى كارثة حضارية. من هنا، تأتي الدعوة إلى بناء نموذج معرفي جديد، يتجاوز العلموية الصارمة، ويرتكز على الحوار بين مختلف مصادر المعرفة، سواء كانت علمية، فلسفية، دينية، أو ثقافية.

في السياق العربي والإسلامي، يصبح هذا التحدي أكثر إلحاحًا. فالمجتمعات العربية، التي تقف على تخوم الحداثة والتقاليد، مطالبة باستيعاب إنجازات العلم من دون السقوط في فخ التبعية أو التفريط في هويتها وقيمها. إن التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، وبين الإيمان والعلم، هو السبيل لإيجاد موقع فاعل للعالم العربي في خريطة الحضارة الإنسانية.

إن إعادة التفكير في العلموية الغربية ليست ترفًا فكريًا، بل هي ضرورة وجودية. فالإنسان، في نهاية المطاف، ليس مجرد كائن مادي يعيش في عالم مادي، بل هو كائن ذو أبعاد متعددة، يسعى إلى الحقيقة، وينشد المعنى، ويطمح إلى العيش في انسجام مع نفسه ومع الكون. ومن هنا، فإن بناء مستقبل أكثر إنسانية وشمولًا يتطلب تجاوز ضيق الأفق العلموي إلى رحابة رؤية تجمع بين العقل والقلب، بين العلم والحكمة، وبين الإبداع التقني والالتزام الأخلاقي.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفينومينولوجيا: نحو إدراك عميق للواقع من خلال الوعي
- نحو مشروع حضاري عربي: الحرية والهوية في منظور محمد قنون
- خوسيه موخيكا: الزعيم الذي عانق البساطة وصاغ تاريخ الأوروغواي
- فلسفة المابعديات مواجهة التحديات المعرفية والثقافية في عالم ...
- إعادة تعريف الهوية اليهودية: الحاخام يعقوب شابيرو في مواجهة ...
- الثالوث المسيحي: بين غموض التأويل وتناقض المفهوم
- انهيار اليقين: التحولات الجذرية في الفلسفة الأوروبية الحديثة ...
- مدرسة فرانكفورت: جدلية العقل والنقد في تشكيل الفلسفة الأوربي ...
- الإلحاد والأخلاق: من التساؤلات الفلسفية إلى الإخفاقات الاجتم ...
- الإنسان في مواجهة العصر: قراءة في فلسفة إريك فروم للاغتراب و ...
- من الحتمية إلى الاحتمالية: الفلسفة العلمية في فكر نيلز بور
- منهج التجديد في فكر الشيخ محمد الغزالي: قراءة في مشروعه الإص ...
- دفاع موريس بوكاي عن الإسلام: التقاء العلم بالإيمان
- غاري ويلز: تأملات فلسفية في الحرية والعدالة في زمن الهيمنة
- فرانز فانون ونقد مركزية أوروبا: قراءة في جذور الاستعمار وأثر ...
- فلسفة القانون في العصور الحديثة: تجليات الفكر الأوروبي في بن ...
- الفكر في مواجهة التضليل: قراءة في مغالطة رجل القش
- العدمية الحداثية: أزمة الوجود في عالم بلا يقين
- فريدمان والعولمة: بين التفاؤل الغربي والتحديات العالمية
- فلسفة الدين: من الأسئلة الوجودية إلى التحديات المعرفية في ال ...


المزيد.....




- هل جنبت متانة هيكل شاحنة تسلا فندق ترامب كارثة وشيكة؟
- جندي بالقوات الخاصة الأمريكية.. كشف هوية مستأجر سيارة تسلا ا ...
- تفنيد تصريح وزير تعليم الشرع مقابل قراره بشأن تعديلات المناه ...
- سلمان الخالدي في قبضة الكويت بمساعدة العراق
- -زنوبيا شخصية خيالية- و-حذف الوحدة المتعلقة بأصل الحياة-، ف ...
- تفاصيل انفجار سيارة تسلا أمام فندق ترامب الدولي.. هل له علاق ...
- بريطانيا تستقبل العام الجديد بفيضانات
- مصر.. هيئة الدواء توجه بسحب أحد الأنواع فورا من الأسواق
- الحوثي: مؤسف تورط السلطة الفلسطينية في سفك الدم الفلسطيني
- سلوفاكيا.. الحكومة تعتزم مناقشة خيارات الرد على وقف ترانزيت ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العلموية في ميزان النقد: قراءة فلسفية وثقافية شاملة