أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب سرور - حوار مع أدونيس















المزيد.....



حوار مع أدونيس


نجيب سرور

الحوار المتمدن-العدد: 8205 - 2024 / 12 / 28 - 22:36
المحور: الادب والفن
    


حوار تمهيدي:
أدونيس: قصدت ألا أعرض في هذا البحث مسألتين:
الأولى: هي الإطار الحضاري الذي نشأ فيه الإسلام، والثانية: هي البنية الاقتصادية وعلاقات الانتاج التي ساادت القرون الهجرية الثلاثة الأولى التي يشملها البحث.
أنا: الأمر إذن مقصود!..وأنت حر فيما تقصد إليه!..ولكن فيمَ البحث إذن..وعلام؟ وما جدواه؟..وما قيمة النتائج التي تُبنى دون وضوح هاتين المسألتين في الحساب؟
أدونيس: ليس من غرضي الكشف عن العناصر التي تأثر بها الإسلام إبان نشأته أو مقارنته بغيره، وإنما غرضي أن أدرس الوحي الإسلامي كما تجلى في الممارسة الحياتية وفي طرق التفكير.
أنا: ولكن من المستحيل فهم الوحي الإسلامي كما تجلى في الوجهين المذكورين بدون الكشف عن العناصر المُشار إليهما إبان النشأة وبدون المقارنة مع الأديان السابقة للإسلام! كان يمكنك أن تفعل، على الأقل، كما فعل" جوزيف*" في كتابه"..."..،ولكنك تقول أن هذا ليس غرضك! غير أن إشارتك العابرة إلى الممارسة الحياتية تفشي إحساسك بضعف المنهج الذي أخترته لنفسك، لأنها تفشي النزوع الاضطراري إلى الرجوع للحياة- للواقع..للظروف الموضوعية-تلك التي سميتها الإطار الحضاري أو تلك البنية الاقتصادية- مما قصدت متعمدًا ألا تعرض له!..
أدونيس: إن دراسة البنية الاقتصادية وعلاقات الانتاج تحتاج إلى مصادر صحيحة وافية عن التنظيمات الاجتماعية والمالية والإدارية والاقتصادية وهي غير متوفرة.
أنا: إنها على العكس متوفرة..ومتوفرة جدًا وبالقدر الكافي، أما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة فهذا أمر يمكن الاختلاف فيه!
أدونيس: والمتوفر منها لا يقدم كما أرى إلا معلومات جزئية، لا يمكن أن تبني عليها أو انطلاقًا منها أحكامًا صحيحة.
أنا: هذا ما تراه أنت..أو هكذا تريد للأمر أن يكون..ولكن ترى هل يمكن أن نصل-بدون تلك المعلومات-حتى لو افترضنا أنها جزئية إلى أحكامٍ صحيحة؟! وإذا كانت المصادر المُشار إليها مشكوكًا في صحتها كما يبدو من كلامك-فالشك- من باب أولى- يجب أن يتطرق فيما يختص بالممارسة الحياتية وفي طرق التفكير-على حد تعبيرك- وإذا كان الشك يمكن أن يتطرق إلى الآخرين فكيف يمكن دراسة الوحي الإسلامي ثم
كيف..نتائجك؟! مع ذلك قال أستاذك الأب بولس* منذ قليل أنك وصلت في بحثك إلى نتائج تعتبرها نهائية!..على العموم اعترف..هذا أفضل لك ولنا
*المستشرق الألماني جوزيف شاخت 1902-1969 لعل الأستاذ يقصد أحد كتابيه الشهيرين بدايات الفقه المحمدي أو في تاريخ الثيولوجيا المحمديه وكلا الكتابين معني بموضوع المقال. المحرر
*(بولس نُوِيّا اليسوعي الكردي1925-1980، تلميذ وصديق المستشرق لويس ماسينيون. أستاذ الإسلاميات، بمعهد الآداب الشرقية ببيروت، المحرر)
أدونيس: اعترف انني غير مهيأ للقيام بمثل هذه الدراسة الاقتصادية فيما لو افترضنا توفر المصادر!
أنا: إذن ههو القصد والعمد وسبق الإصرار..
أدونيس: من هنا حُصِر همي في دراسة البنية الأيديولوجية الفوقية للمجتمع الإسلامي كما ظهرت ممارسة وتنظيرًا بدءً من وفاة النبي..
أنا: مرة ثانية..كيف يمكننا أن ندرس تلك البنية الفوقية دون أن نحيط علمًا بالمسألتين المُشار إليهما؟ إن كلامك يُحِي بأنك تفهم جيدًا، أو إلى حدٍ ما هاتين المسألتين. وتفهم طبيعة ونوعية المنهج الذي كان عليك أن تلتزمه في البحث. تمامًا كإبليس يعرف ربه، ولكنه يتخابث على حد تعبير العامة..ولهذا تُوثِر-لأمر في نفسك أو في نفس يعقوب- أن تلتزم المنهج المثالي-الهيجلي- لتبحث في البنية الفوقية ذاتها عن البنية الفوقية..في الفكر ذاته عن الفكر!..
وهكذا ستترى إلى ما لا نهاية نتائج المنطق الشكلي العرجاء!..قل لنا من فضلك: لماذا اخترت أن تدرس الثقافة العربية من منظور الثابت والمتحول والعلاقة بينهما؟!
أدونيس: في دراستي للحركة الشعرية، والقرون الثلاثة الأخيرة..اتضح لي أن هذه الحركة كانت في معظمها استعادة للماضي، وأن القوة التي حاولت أن تبدع شيئًا آخر غير ما عرفه الماضي، قيل عنها أنها غريبة عن التراث العربي، وعن البنية الأساسية للذهنية العربية، وأنها تفسد الأصول العريقة، وهو كما نعرف القول نفسه الذي أثير حول شعر أبي تمام، وهو ما نعرف أيضًا النقد الذي يوجه إلى الحركة الشعرية العربية الحديثة..
أنا: لندع أبا تمام بالذات مؤقتًا..ولندع الحركة الشعرية العربية الحديثة-نقدًا وإبداعًا- بالذات أيضًا مؤقتًا..ولنؤجل الحديث فيما تهتم به "القوى" الإبداعية كما نعتبرها من غربة عن التراث العربي وإفسادٍ له..وأخيرًا لنترك جانبًا-ومؤقتًا أيضًا- ما اتضح لك من أن الأمر كان"استعادة للماضي" فالأمر ليس واضحًا بعد لنا بدرجة وضوحة لك خاصة وأنك لم تقدم الدلائل بعد..لندع هذا كله مؤقتًا فسيأتي ذكره في الوقت المناسب..ولنقف عند إشارتك إلى"البنية الأساسية للذهنية العربية"، لألفت النظر إلى أن هذا ما أوحاه إليك الأب بولس نويا منذ قليل بما فيه من نزوع عنصري بادٍ..وأنه نفس ما كان متمنيًا أن تصل إليه من بحثك لا أن تصل إلى سيادة الاتباع على الابتداع في التراث العربي كله، والأمر المشجع لك وله هو أنه إذا كان هذا ما اتضح لك من الحركة الشعرية في القرون الثلاثة الأخيرة، فما بالنا بالقرون الثلاثة الأولى بعد وفاة النبي..فيما تلا ذلك من قرون؟! هذا إذا صحت ملحوظتك عن الشعر في القرون الثلاثة الأولى كما أكدت ببحثك الطويل!
ولكن أستاذك نفسه، وبذكاء، قد قال لك منذ قليل:"..فالعودة إلى الماضي أو تكرار الماضي ليست ظاهرة خاصة بالعالم العربي وقد نسبتها إلى الدين وجعلته المسؤول عن هذه الظاهرة، إنها ظاهرة إنسانية، لو غابت ، لكانت نتائجها وخيمة بالنسبة إلى التوازن الذهني"..
فهو يسجل أنها ظاهرة لا ينفرد بها العربي من بين مخلوقات الله!
ويسلم معك بأن الدين مسؤول عنها لدى العربي، وغير العربي-ضمنًا- ثم هو يدرك أن من العجز تفسير شيئًا إذا ذهبتما إلى أن"الدين هو سبب سيادة ظاهرة الاتباع في التراث العربي." والدين جزء من هذه الظاهرة المفترضه-جزء من الأبينة الفوقية- فكيف يكون هو نفسه سببًا فيها..؟ إن هذا معناه أن الأبنية الفوقية هي سبب الأبنية الفوقية، وأن الدين هو سبب الدين، وأن ظاهرة الاتباع هي سبب ظاهرة الاتباع، والفكر هو سبب الفكر..والأرض أرض، والهواء هواء، والبحر بحر، والسماء سماء..وكان الله يحب المحسنين!..ولكن خذ بالك..! أن أستاذك الذكي اليسوعي يدرك هذا كله ويريدك أن ترد المسألة إلى بنية الفكر العربي على حد تعبيره، إلى البنية الذهنية العربية على حد تعبيرك..لا إلى الدين..وهذا دفاع عن الدين في الظاهر، كما أنه أنه-في الظاهر- دفاع عن الفكر العربي خاصة، وأن هذا الأخير لا ينفرد بتلك الظاهرة كما يعترف هو نفسه!..ولكن هذا الدفاع عن الفكر العربي هجوم أيضًا عليه..فمن أين يأتي هذا التناقض؟
هل هذه الظاهرة تخص الفكر العربي وحده؟ أم هي ظاهرة إنسانية عامة؟! إذا كانت الأولى فهذا يعني وجود نقص ما في الفكر العربي! وإذا كانت الثانية فهذا يعني أن الفكر العربي، والفكر الإنساني سواء..وإذا صحت الثانية فأين تذهب ظاهرة سيادة الاتباع، وإذا صحت الأولى فأين يذهب تاريخ الفكر الإنساني الذي يؤكد شيوع تلك الظاهرة في جميع العصور باعترافه هو نفسه؟!
إما أن يعيب العقل العربي. وإما أن يعيب العقل الإنساني عامة!..وإما أن يلغي تاريخ العربي أو يلغي تاريخ الإنسانية أو يمسخ هذا وتاريخ الفكر العربي بالذات لا بالدين- فهو أذكى من أن يقع أو يوقعك في هذا الحرج!
فليلعبها من ناحية النوعية..الطبيعة..الفطرة..البنية..العنصر!-ويونج جاهز لهذه المهمة-..بهذا يكون قد احتفظ للدين كدين بكرامته وقداسته..ويكون في نفس الوقت، منذ حقق غرضه أو أشبع ميوله العنصرية الكامنة الخفية وهو في الواقع-وبيني وبينك- لا يعنيه الدين في كثير أو قليل..لا الدين المسيحي و لا الإسلامي ولا أي دين..ولكن ما باليد حيلة..لا بد من تجنب الحرج..لهذا بدا متناقضًا مع نفسه للغاية، ولكن منسجم معها للغاية أيضًا..بدا مدافعًا عن الدين وهو أزهد ما يكون فيه!
أدونيس: سر هذا العداء الذي يكنه العربي بعامة لكل إبداع حتى لكأنه مفطور عليه!
أنا: أنت بدأت البحث..وانتهيت إلى "أنه"..! ورددت كل شئ دون أن تدري-إلى نقص في العقل العربي- في البنية الذهنية العربية- الماضوية بتعبيرك في الفكر العربي..في النوعية..الطبيعة..الفطرة..العنصر! انظر كم كنت"دمية" في يد أستاذك! ثم اعجب معي كيف للدمية أن تلعب بدمى أخرى في عالمنا العربي..خاصة وأنك تشير –بلاتواضع- إلى موقعك في الحركة الشعرية الحديثة"من حيث كتابة الشعر أو التنظير لهذه الكتابة على حد تعبيرك في ص19 .." أكمل أرجوك لا داعي لأن تستبق الحديث..من أين بدأت؟!
أدونيس: ورأيت..أن أبدأ من البداية، فرجعت إلى الشعر الجاهلي، الأصل الأول للثقافة العربية وللرؤيا الشعرية العربية أعيد دراسته وتحليله.
أنا: ألأنه أكثر يقينية من الشعر الإسلامي؟! غير معقول-مؤقتًا- فالأولى أن يكون الشعر الجاهلي أقل يقينية من الشعر الإسلامي-بحكم البعد الزمني- وهذا يقلل من أهمية الاعتماد على الشعر الجاهلي في رصد الظاهرة المنسوبة إلى التراث العربي كله..ظاهرة الماضوية..أو سيادة الاتباع على الابداع!
أدونيس: تبين أن النقد العربي القديم، ويتابعه في ذلك النقد الحديث في معظمه يقدم عنه صورة تفتقر إلى الكثير من الدقة لكن لا أقول إنها صورة خاطئة.
أنا: القضية هنا ليست قضية الفرق الممكن بين صورة للشعر الجاهلي وصورة أخرمن حيث الدقة كما ينقلها النقد القديم أو الحديث. وليست قضية صورة خاطئة أو صوررة غير خاطئة..إنها قضية الشعر الجاهلي كله وفي حد ذاته..قضية وجوده..مدى يقينية المصادر التي أقام عليها النقد القديم والحديث أحكامه أو رسم الصورة من خلالها أو اعتمادًا عليها..وبالتالي مدى إمكان الاعتماد على نفس المصادر لتصحيح الصورة وجعلها أكثر دقة في بحث طويل كبحثك! ثم أنت تصرح بأن الصورة كما يقدمها النقدان ليست دقيقة ولكنك لا تقول بأنها خاطئة..لأن النقد يربط الشعر الجاهلي..
أدونيس: عضويًا بالقبلية وقيمها. صحيح أن هذه الصورة الغالبة لكن صحيح أيضًا أنها ليست الكاملة..
أنا: ألم تلاحظ في "صورة" الشعر الجاهلي كما أوصلها إليك النقاد القدامي والمحدثون أصداء مدنية وحضارية..ورواسب أو بقايا أبنية فوقية قديمة سابقة بآماد زمنية طويلة على الزمن التقديري لما يُسمى بالعصر الجاهلي؟! ألم تلاحظ أن تلك الأصداء والرواسب والبقايا-حتى الميثولوجية- تتجاوز القبيلة وقيمها؟! ألم تضع في حسابك الحضارات البائده؟! وإذا صح ذلك-وهو صحيح- أتكون الحضارات البائدة التي تطورت قديمًا عن القبلية التي يُنسب إليها الشعر الجاهلي هي قبلية لاحقة لفناء أو انحلال تلك الحضارات أي ردة إلى القبلية تطورت بعد ذلك إلى مدنية فحضارية بعد الإسلام؟! ثم أيمكن أن تتخيل أن الشعر الجاهلي ظهر في المرحلة القبلية وحدها، ولم يظهر في المراحل التي سبقتها، ولا في المراحل التي سبقت تلك المراحل؟!
هنا أذكر أحمد بن عبد ربه...
"...""العقد الفريد".
وهنا أذكر أيضًا بلوتارك في العظماء عندما يقول:
"..."
أنت معذور إذن!..فلنقتصر على الشعر الجاهلي بالصورة التي وصلتك ووصلتنا من خلال النقد القديم والحديث والتي تبدو لك يقينية المصادر بحيث يبدو لنا أن العيب كل العيب في النقد لا في الأصول..وهذا النقد يربط-كما نقول- الشعر الجاهلي بالقبلية وقيمتها..وأن هذه الصورة الغالبة-وهي صحيحة في نظرك ونظرنا-مؤقتًا- وإن كانت غير كاملة كما تقول أيضًا..ولكن لماذا هي ناقصة؟
أدونيس: ففي الشعر الجاهلي نفسه تجد بذورًا قوية لحركة ابداعية خرجت على القبلية، وقيمها السائدة، وتتمثل هذه الحركة بشعر الصعاليك خصوصًا. وتشهد لها قصائد لامرئ القيس وطرفة بن العبد، ولم تكن هذه الحركة خروجًا وحسب وإنما كانت تحاول أن تطرح بديلًا جديدًا!
أنا: أنت إذن تبحث عن البذور لا عن الجذور. ما علينا..أنت حر! غير أن هذه البذور القوية-كما تقول- تنفي الطابع الذي تخلعه على العقلية أو الذهنية العربية..لأنها دليل على أن العقل العربي أيضًا له محاولات ابداعية..بله حركات قوية! وهنا تختلف وتتفق مع أستاذك في وقت واحد..وتختلف وتتفق مع نفسك أيضًا في وقت واحد..وإلا فأين تذهب مقولة"الفكر العربي" لديه ومقولة"الذهنية العربية الماضوية" لديك..ثم بمَ تفسر ظاهرة سيادة الاتباعية على التراث العربي؟! إذا كانت الذهنية العربية قد أثبتت لك قدرتها الابداعية..فما سببها؟! الدين مرة ثانية؟! ولكن الدين-في حسابك- لم يكن موجودًا إبان الفترة التي يُنسب إليها الشعر الجاهلي، ومع ذلك فقد كانت تلك الحركات الإبداعية القوية مجرد استثناء من قاعدة تعني-منطيقًا- سيادة الاتباعية في الشعر الجاهلي أيضًا..فأمثال امرئ القيس وطرفة بن العبد مجرد استثناءات نادرة..هذا يعني-بمفهوم المخالفة- أن القاعدة في الشعر الجاهلي أيضًا هي سيادة ظاهرة الاتباعية! فما السبب مرة ثانية؟ الدين؟ أي دين؟ الوثنية؟! ولماذا لم تفعل الوثنية نفس الشئ في أوروبا والعالم؟! كانت هناك المسيحية أيضًا في العصر الجاهلي..فهل هي السبب؟ ولماذا لم تفعل نفس الشئ في أوروبا والعالم؟ أم اليهودية؟! وكانت موجودة أيضًا في العصر الجاهلي.
هل كان الإسلام سببًا في سيادة الاتباعية على الشعر الجاهلي؟ هذا يبدو مضحكًا إذن-مرة ثانية- لابد أن تعود للدوران حول محور أستاذك..النقص في العقل العربي! وإلا فماذا يتبقى؟! ولكن صبر جميل. ودعنا الآن-مؤقتًا- من امرئ القيس وطرفة بن العبد ومن شعر الصعاليك فسوف نعاود الحديث التفصيلي في هذا كله، وفي الوقت المناسب وبعد أن نفرغ من مقدماتك عن منهج البحث! والهدف منه! ولكن منهجك غير مبين لنا أن الاتباعية سادت والتراث العربي الجاهلي والإسلامي-وهذ مالم يبينه- إلا أنه لا يفسر لنا لماذا سادت؟! إن بذور الحركات الإبداعية في أي مجال، وأي ميدان وأي شئ لا تظهر إلا إذا نضجت لها شروط وظروف موضوعية..إنها لا تظهر هكذا عفويًا وتلقائيًا دون سببٍ معقول. هناك دائمًا السؤال:
لماذا ظهرت تلك البذور بالذات في هذا الوقت بالذات وفي هذا المكان بالذات؟! لماذا لم تظهر في وقت آخر وفي مكان آخر؟ وهل سبق أن ظهرت أم لا..إلخ..كما أن "الخروج" على العقلية وقيمها لا يحدث لمجرد الخروج..كما لا يحدث صدفة-خصوصًا إذا تكرر وفي أوقات متقاربة وبأشكال متباعدة أو متطابقة ثم إن الخروج عن القبلية وقيمها-أو عن أي نظام اجتماعي- أو الخروج عليها قد يكون-في الواقع- انضواءً معكوسًا تحت نفس القبلية وتحت قيمها وتحت النظام الاجتماعي عامة وقيمه! وقد يكون انضواءً في الباطن وخروجًا في الظاهر..وقد يكون خروجًا في الباطن وانضواءً في الظاهر..فما المعيار الذي يمكننا أن نميز به بين تلك الظواهر المختلفة؟! هل نرد خروج امرئ القيس عن القبيلة أو طرفة إلى مزاج كلٍ منهما..إلى مجرد رغبتهما في الخروج والسلام؟! ثم خروج لماذا؟! ومن أجل ماذا؟! وإلى أين؟! إن الخروج كثيرًا ما يكون ردة إلى القبيلة..ولكن بصورة مقنعة"تنكرية" ثم ما هو هذا البديل الذي تشير إليه، الذي كانت الحركة الابداعية المتمثلة لديك في شعر الصعاليك وفي شعر قصائد امرئ القيس وطرفة تطرحه؟! بديل لماذا؟! للاتباع؟ وما الذي أوجب الحاجة إلى طرح البديل؟! وفي أي شئ كان البديل؟! أسئلة بريئة كما ترى وأنت مطالب في بحثك بالإجابة عليها!..
ولكنها جميعًا طرقًا مسدودة بالنسبة إليك..إذًا إلى الخلف در ينطبق عليك قول الجلجول*:
صلحت حالنا للخلف حتى
صرت أمشي إلى الورا زقفونه..
كما انطبق –من قبل- على واحد من أتباعك ومريديك*.
وإذا كانت هذه هي حالة القادة الشعراء المنظرين، فما أتعس حالة الاتباع والمريدين والدمى والسذج ممن مشوا خلفك "بزقفونية" تثير السخرية والإشفاق!..ها أنت تغوص في رمال متحركة فلم يعد أمامك إلا أن تواصل الغوص حتى الخرس! أوتواصل الدوران وأنت تسير في نفس الوقت زقفونيًا!
قل لنا ماذا اكتشفت من وجود بذور حركة أو حركات إبداعية في الشعر الجاهلي لنراجعك فيها فيما بعد:
أدونيس: كشف لي هذا الواقع عن مبدأ رأيت أن فيه ما يمكن أن يكون منطلقًا لحقائق ونتائج مهمة في دراسة الشعر العربي بل الثقافة العربية!
أنا: حقًا؟! إذن ما هذا المبدأ أرجوك! إنني شديد الشوق إلى أن انطلق معك إلى تلك الحقائق والنتائج!
أدونيس: يتمثل هذا المبدأ في أن الأصل الثقافي العربي ليس واحدًا بل كثير..
أنا: هذا صحيح وإن كنت لم تكشف لنا في كتابك عن هذا الأصل أو هذه الأصول. وليست هناك في تاريخ الإنسانية ثقافة وحيدة الأصل..كل الثقافات كذلك، ولا تنفرد الثقافة العربية عن غيرها في هذا الأمر قديمًا أو حديثًا! الحمد لله..معنى هذا ضمنًا أن العيب وإن كان هناك عيب- ليس في العقل العربي أو البنية الذهنية العربية! ومع ذلك يجب أن نصر هنا على التمييز بين ما هو عربي فعلًا- أي أصيل-وما هو غير عربي- أي دخيل-وذلك لاعتبارات منهجية وآخرى قومية وآخرى لا دواعي لذكرها الآن! ولكنك للأسف تسوق تعدد الأصول في الثقافة العربية كمفاجأة لنا..وتسوقه وكأنها خاصية تنفرد بها الثقافة العربية –وهذا غير صحيح- وتسوقه ضمًا باعتباره ظاهرة راجعة إلى أبنية الذهنية العربية، فنعود إلى ما فرغنا منه-فيما كنت أظن- تعود للدوران!..ولكن ماذا رأيت في هذا المبدأ؟!
أدونيس: إنه يتضمن بذورًا جدلية بين القبول والرفض، الراهن والممكن، أو لنقل بين الثابت والمتحول..
أنا: أو السلب والإيجاب! مش كده؟!..ولكن هذا أيضًا قانون الوجودين الطبيعي والاجتماعي على السواء! وهو قانون الثقافات جميعًا والشعر دون استثناء!
*من شخصيات رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، المحرر.
*!(*يقصد محمد عفيفي مطر1935-2010، انظر مقالات نجيب سرور بمجلة الكاتب القاهرية، مرثاة نقدية لشاعر لم يمت بعد يوليو1978، والضحك في زمن البكاء أغسطس 1978، المحرر
ولاتنفرد به الثقافة العربية ولا الشعر العربي ولا أي شئ!..إن تعدد أصول الثقافة العربية لا ينفي وحدتها التفاعلية..ووحدتها التفاعلية لا تنفي تعدد أصولها..والوحدة هنا كالتعدد هناك يؤكدان الجدلية بين السلب والإيجاب وهذا طبيعي! ولكن ماذا بعد هذا؟
أدونيس: وقادني هذا المبدأ إلى التأكد من أن الشعر بذاته، لا يفسر تأصل الاتباعية في الحياة العربية.
أنا: أي أنك مصر سلفًا-على اسقاط الاتباعية على الشعر العربي والثقافة العربية لأن عقدة النقص في البنية الذهنية العربية كامنة هناك في أعماق اللاشعور-على طريقة فرويد- وبدلًا من أن تبرهن بمعطيات الثقافة العربية الموضوعية على تأصل الاتباعية نراك تبرهن بمفهومك الذاتي للاتباعية على تأصل النقص في الثقافة العربية..وبالتالي في البنية الذهنية العربية..وذلك بعد المصادرة العربية على المعطيات الابداعية! ولذلك سنأجل الحديث عن مفهوميك للاتباع والابداع إلى حين! والآن ماذا بعد أن صممت على أن تنتزع من الثقافة العربية الحسيرة شواهد وأدلة الاتباعية الجاهزة سلفًا؟! وماذا بعد أن قادك مبدأ"تعدد أصول" الثقافة العربية إلى أن الشعر بذاته لا يفسر تلك العقدة!..لا..بل كيف قادك هذا المبدأ إلى هذه النتيجة وهو لا يفضي منطقيًا ولا موضوعيًا إليها؟! ألا يقودك إلى نفس النتيجة بنفس الطريقة-طريقتك- لو تناولت أية ثقافة من الثقافات الإنسانية القديمة والحديثة؟ أو تناولت الشعر منها فحسب بما أنه مبدأ لا تنفرد به الثقافة العربية دون سائر الثقافات كما قلنا منذ قليل؟! ثم كيف أصبح الشعر عاجزًا عن تفسير تأصيل الاتباعية ولماذا؟ وكيف وأين ومتى وفي أية ثقافة-مثلًا-كان الشعر قادرًا على تفسير هذا التأصيل؟ أم أنها خصيصة في الشعر العربي بالذات أي مرة آخرى-ولن تكون الأخيرة- في الثقافة العربية وبالتالي في البنية الذهنية العربية؟!
إلى متى ستظل تدور حول نفسك متخبطًا بين التناقضات؟! يبدو أنك أوشكت أن تكف...
أدونيس: وكان واضحًا تبعًا لذلك أنه لابد من البحث عن أسباب هذا التأصل في غير الشعر وفي غير العصر الجاهلي؟!
أنا: لابد!..لابد من البرهنة وبأية طريقة، وبأية وسائل على هذا التأصل فعم ستكون رسالة الدكتوراه وعم ستكون مرتبة الشرف؟! وكيف نشغل موقع القيادة في الشعر وفي التنظير له؟! ترى هل ستغيرمنهجك في البحث؟!
إنك باعترافك غير مؤهل عمليًا لهذا وبإصرارك المسبق على الإسقاط غير راغب في هذا..أما وقد نفضت يديك من الشعر الجاهلي..وهذه خسارة كبيرة..فلنأخذ في البحث عن الأسباب!
أدونيس: في الرؤيا الدينية الإسلامية!
أنا: ها قد عدت بنا إلى الدوران..
أولا: إن الرؤيا الدينية الإسلامية في حاجة إلى أسباب تفسرها فكيف تصبح هي السبب الذي يفسر الكل الثقافي العربي؟!
ثانيًا: إن الرؤية الدينية الإسلامية لاحقة للإسلام بينما أصول الكل الثقافي العربي سابقة عليه بأزمنة سحيقة! وقد تفسر هذه الرؤية ما بعدها ولكنها عاجزة عن تفسير ما قبلها بقدر ما هي عاجزة عن تفسير نفسها.! أي أنك معني لا بالكل الثقافي العربي بل بالثقافة العربية الإسلامية فقط؟
ثالثًا: أليست في البدء بالرؤيا الدينية الإسلامية.. مصادرة ضمنية على تعدد أصول الثقافة العربية ذلك الذي قلنا به منذ قليل..وبالتالي مصادرة على الرؤيا الدينية الإسلامية ذاتها..وعلى الكل الثقافي العربي على حد تعبيرك؟! أليس تورطًا في التجزيئية؟!
أدونيس: وهذه الرؤية غيبية وحياتية في آن، فهي نظرة شاملة للفكر والعمل، للوجود والإنسان، للدنيا والآخرة!
أنا: نعم ولكن أية رؤيا؟! أو أية نظرة؟! ثم ألا نكون بذلك قد تورطنا في الغيبية؟! سأترك لك تقدير هذه التساؤلات..
أدونيس: وبما أن هذه الرؤيا لم تكن تكملة للجاهلية بل كانت تأسيسًا لحياة وثقافة جديدتين وكانت بما هي تأسيس أصلًا، معاصرته الوحي ومادته الأمة- النظام.
أنا: أولًا: كيف لم تكن تكملة للجاهلية؟! بأي معنى؟! هل ظهرت هكذا فجأة دون أسباب دون ظروف ودون مقدمات ودون بذور أو جذور؟! شيطاني يعني؟! ألم تظهر نتيجة تطور لتلك الأسباب والظروف والمقدمات؟
ثانيًا: بأنها حقًا نفي لما سبقها ولكنها في نفس الوقت اثبات لما سبقها فهي إذن استمرار وتكملة فيما هي-فرضًا- تجاوز.
ثالثًا: وهي تأسيس لحياة وثقافة جديدتين هذا حق، ولكنها غير مقطوعة الصلة تمامًا-ولا يمكن- بالحياة والثقافة السابقتين عليها!
رابعًا: والثقافة الجديدة تحمل في أحشائها جميع الرواسب الثقافية السابقة..جميع التناقضات..جميع الأصول وإن كان"الكيف" الجديد مختلفًا تمامًا عن عناصر"التأسيس" ولذلك لا يمكن للثقافة الجديدة بما هي تأسيس-تأسيس من ماذا؟- أن تكون أصلًا..وأصلًا جامعًا! إن الكيف الجديد أصل لشئ جديد، ولكنه ليس أصلًا لنفسه. أي أن الإسلام كان للثقافة الإسلامية-فرضًا- ولكنه ليس أصلًا لنفسه، ولا للكل الثقافي العربي؟! أو الثقافة العربية.
خامسًا: إن هذه الرؤية الغيبية قد تفسر لنا الشعر الإسلامي مثلًا وتكشف فيه عن الثابت-الاتباعي- والمتحول- الابداعي- فرضًا أقول- ولكنها لا تكشف عن الثابت والمتحول في الشعر الجاهلي!..ولكن..
أدونيس: ثبت لدي أنه لا يمكن فهم الرؤيا الشعرية العربية في معزلٍ عن هذه الرؤية الدينية وأن الظاهرة الشعرية جزء من الكل الحضاري العربي لا يفسرها الشعر ذاته بقدر ما يفسرها المبنى الديني لهذا الكل!
أنا: أولًا: كيف ثبت لك هذا؟!
ثانيًا: كيف ارتبطت-بلا تدليل- الرؤيا الشعرية العربية-إلى هذا الحد- بالرؤية الدينية؟! بالقوة؟!
ثالثًا: ماذا ستفعل هنا أكثر من استبدال تأصل الاتباعية بتأصل الرؤية الدينية لنعود مرة آخرى إلى تأصيل الاتباعية فنعود مرة آخرى أيضًا إلى تأصل المسألة في البنية الذهنية العربية وهكذا إلى ما لا نهاية؟!
رابعًا: إذا كانت الظاهرة الشعرية جزءً من الكل الحضاري لا يفسرها الشعر ذاته فكيف يلزم من هذا تلك التجزيئة التي تورطت فيها منذ قليل بالفصل تمامًا بين الثقافة الإسلامية وبين الكل الثقافي السابق عليها..والمصادرة على تاريخ الثقافة فيما قبل الإسلام؟ ثم كيف يلزم من هذا أن يكون المبنى الديني وحده أقدر على تفسير الظاهرة الشعرية-الجزئية كما تقول- وأقدر على تفسير الكل الحضاري والثقافي؟! أليست هذه مهزلة؟! بل فضيحة؟!
خامسًا: إنك تواصل السقوط في الدوامة"الزقفونية" بشكل مؤسف على الصعيدين النظري والتطبيقي! ثم إنك تقول تارة بالانفصال التام بين ما قبل وما بعد الإسلام في الكل الحضاري أو الثقافي العربي ثم تعود فتقول بالوحدة في هذا الكل وتخص ما بعد الإسلام بالرؤيا الدينية ثم تعود فتعمم هذه الرؤية على ما قبل الإسلام ومنطقيًا ستخص ما بعد الإسلام بالاتباع أو الابتداع-على كيفك!_ ثم تعمم هذا التخصيص على ما قبل الإسلام، وتخص الكل الثقافي العربي بأشياء لا تخصه وحده وإنما تخص أي كلٍ ثقافي في تاريخ الإنسانية.
أدونيس: وهكذا اكتمل لدي اليقين بأن دراسة هذا الكل الثقافي العربي هي وحدها التي تتيح لنا أن نفهم الرؤيا العربية للإنسان والعالم فنعرف موقف العرب من الشعر وغيره ومن الاتباعية والابداعية ومن القضايا الثقافية والإنسانية بعامة!
أنا: أولًا: كيف بعد كل هذه التنبؤات العشوائية أن يكتمل لديك أي يقين بأي شئ؟!
ثانيًا: ها أنت توحي بأن الرؤيا الدينية هي الرؤيا العربية للإنسان والعالم..وستواصل الدوران في هذه الدائرة المغلقة!
ثالثًا: أنت تفرض أن للعرب موقفًا-خاصًا- من الشعر وغيره ومن الاتباعية والابداعية ومن القضايا الثقافية والإنسانية..مما يعني استمرار الدوران في الدائرة المغلقة.
تأصل الاتباعية-فتأصل الغيبية- او العكس- تأصل التأصل في البنية الذهنية العربية..في الإنسان المختلف-كما يُراد له أن يكون- عن سائر أجناس البشرية..ولكن ماذا وقد فتح لك أستاذك اليسوعي أبواب العنصرية على مصراعيها..وأمرك بيونج؟! أما الهدف من المنهج فواضح..وأما المنهج نفسه أهذا مدى تماسكه؟! وماذا نتوقع في النظر والتطبيق؟!
أدونيس: كان منهج البحث مشكلة دقيقة وصعبة. الخط الأول العام لدقتها وصعوبتها أنني لا أتناول شاعرًا واحدًا أو قضية مفردة، وإنما أتناول ثقافة أمة بكاملها في عهدها التأسيسي، وأتناول عبر ذلك شخصيتها الحضارية!
أنا: لا تنس من فضلك أنك أسقطت منذ قليل ما سبق ذلك العهد التأسيسي المُشار إليه..أسقطت ما قبل الإسلام! فكيف يمكنك بعد ذلك أو عبر ذلك-بتعبيرك- أن تتناول الشخصية الحضارية العربية ككل أو الثقافة "الأمة" بكاملها؟! أم أنك تقصد الشخصية الحضارية الإسلامية..وثقافة الأمة الإسلامية..فأين تُذِهب حينئذٍ الكل الثقافي والكل الحضاري؟! ثم هل بدأت الشخصية الحضارية العربية منذ ظهور الإسلام فقط؟! وهل بدأت الأمة العربية منذ ظهوره فقط؟ كل هذا-كما قلت لك- مصادرة على التاريخ العربي كله، وعلى الثقافة العربية كلها وعلى الشخصية الحضارية كلها، ولكنك فيما يبدو لا تفهم من هذا شيئًا ولا تريد أن تفهم..أنت مُصِر على ما في نفس يعقوب!
أدونيس: والمظهر الثاني الخاص يتصل بالمنطق: هل أبدأ بفرضيات أضعها ثم أبحث عما يدعمها في الوقائع والأفكار؟!
أنا: هذا بالضبط ما فعلته في رسالتك!
أدونيس: أن أبدأ على العكس من هذه الوقائع والأفكار؟!
أنا: هذا ما لن تفعله أبدًا!
أدونيس: ويتصل المظهر الثالث بمجال الدراسة: ما العصر أو العصور الثقافية التي سأدرسها ومن هم الأشخاص الذين سأختارهم وما مقاييس اختيارهم؟
أنا: لا مقاييس لذلك على الإطلاق-كما سنرى- ولذلك من حقك أن تختار من تشاء من الأشخاص" وبأية مقاييس شئت! ولكننا نفرغ بعد من قضية الرؤيا الدينية! فعن أية رؤيا دينية تتحدث؟!..إن أستاذك اليسوعي الذكي أشار لك في مقدمته إلى الفرق الباطنية في المسيحية والإسلام، ولكنك لم تفهم منه شيئًا! وهناك من الرؤى الدينية بقدر ما هناك من أديان..وهناك من أديان بقدر ما هناك من فرق لا رؤى!..هذا يصدق على العصور الإسلامية وهلى العصور السابقة على الإسلام..الجاهلية..وبنفس الدرجة قبل الجاهلية الأولى أو الثانية أو الثالثة أو ما شئت فكما يقول أو العلاء:
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم على إثر آدم
أي جائز أن يكون قبل الجاهلية جاهلية على إثرها جاهلية على إثر حضارات و أديان على إثر جاهليات إلخ.
أقول أن تلك الفرق الدينية يهودية ومسيحية ومجوسية إلخ..كانت تذرع الجزيرة العربية ، وكانت هذه الجزيرة مكتظة بالفرق الباطنية-بالذات- وكانت بالطبع مكتظة بالفرق-الظاهرية- وكانت هناك رؤى دينية، بقدر ما كان هناك من أديان وعقائد ومذاهب، وكان هناك من تلك بقدر ما كان هناك من فرق. والإسلام نفسه-قبل ظهوره بهبوط الوحي!- لم يكن غير واحد من هذه الفرق الباطنية أو الحركات السرية التي تقذف عند الضرورة إلى الظاهر ببعض أتباعها وتحتفظ في نفس الوقت باحتياطي سري لكمون الباطني. منتظرة الفرصة المناسبة للظهور!..وكان يدور بين تلك الفرق وبعضها تناقضات وصراعات ومعارك تجري في صمت أحيانًا، وتتخذ شكلًا دمويًا أحيانًا أخرى..وكانت بينها تحالفات أحيانًا، واتحادات-فيدرالية- أحيانًا، وكان بعضها يتسلل في داخل البعض الآخر، ويمتطيه ويقوده تحت نفس الأقنعة والرايات والشعارات! ثم ظهر الإسلام فأجبرها جميعًا على الكمون إلى حين الفرصة المواتية، وإن كانت قد أعلنت عن نفسها ببعض البوادر في حياة النبي ثم بعد وفاته بالذات..ثم في عهدي أبي بكر وعمر..ثم أعلنت عن نفسها أكثر في العصر الأموي..ثم اكتسحت العصر العباسي بالذات وأصبحت طوفانات لا حصر لها حريصة في نفس الوقت على التنكر وراء قناع الإسلام..والتحرك تحت رايته وشعاره لإنجاز مهامها السرية الباطنية السحيقة القدم وتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة! مرة آخرى..عن أي دين؟ وفي أية رؤيا دينية من هذه الأديان؟ ومن هذه الرؤى التي لا حصر لها تتحدث؟! إنك أيضًا واحد من الذين يركبون موجة التجديد فيي الشعر العربي لنسف الشعر العربي، أو للسير به نحو الهاوية، ولطمس التراث العربي وتحريفه ومسخه-وهو مش ناقص- وذلك تمهيدًا لإنجاز مهام وأهداف سنتعرف عليها من خلال تنظيراتك للثابت والمتحول في تراثنا العربي..
وهكذا أستاذك اليسوعي الذكي..وهكذا ماسينيون*! ..ما علينا الآن كيف حللت الصعوبة الأولى؟!
أدونيس: قررت أن أحصر دراستي في القرون التي ينعقد الإجماع على أنها تشكل مراحل التأسيس والتأصيل. وهي القرون الهجرية الثلاثة الأولى. وأخذت الأشخاص أو الحركات التي ينعقد كذلك الاجماع على أنها هي التي أسست وأصلت سواء تفكيرها أو عملها.
أنا: أولًا: انعقد إجماع من؟! ثم هو إجماع على- الظاهر أم إجماع على الباطن؟!
ثانيًا: تأسيس وتأصيل ماذا؟ هذان الندان تتوهم أنهما حدثا في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، بعد كل ما قلته لك منذ قليل؟! وهل يمكن أن تكون الرؤيا الدينية الإسلامية إسلامية خالصة بعد هذا كله، أو يمكن أن تكون الرؤى الدينية التي ظهرت وتكاثرت بعد الإسلام إسلامية الظاهر وغير إسلامية الباطن معًا؟ أم إسلامية الظاهر وغير إسلامية اللباطن؟! أم إسلامية الباطن وغير إسلامية الظاهر؟ أم لا هذه ولا تلك؟ أم ماذا؟
أعتقد الآن بأنني أرحتك نهائيًا من قضية الرؤيا الدينية..وإن كنت في نفس الوقت قد أتعبتك وجعلت المشكلة الدقيقة الصعبة شيئًا أكثر دقة وأكثر صعوبة بل واستحالة!
*المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون1883-1962، مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية، والراعي الروحي للجمعيات التبشيرية بمصر، تخصص في الدراسات العربية والإسلامية أشهر دراساته عن الحلاج، أستاذ وصديق الأب لويس نويا أستاذ أدونيس، المحرر.
ثالثًا: ما سبق ينطبق بالحرف والحذافير على الأخص وعلى الحركات التي أسست وأصلت-فى وهمك- وكذلك على الإجماع ذاته! ولكن لا داعي لأن نستبق الحديث!
كيف يا ترى تجاوزت-فيما تتوهم- الصعوبة الثانية؟
أدونيس: بفعل إصراري مع تجنب الفرضيات القبلية، وانطلقت من الوقائع والأفكار كما هي وهو موقف أكد حدسي الأول من أن جدلية الرفض والقبول هي الظاهرة الأكثر طبيعية وواقعية في الثقافة وفي الحياة الاجتماعية السياسية بعامة!
أنا: واحده واحده أرجوك..
أولًا: أنت مصر-على العكس- على الفرضيات القبلية..وأنت تنطلق من الأفكار-القبلية- لتفسر الوقائع ولا تنطلق من الوقائع لتفسر الأفكار..أي تنطلق من مجرد حدسك الأول كبرجسون.. أي من الأفكار –مرة أخرى- مع أنه لا حدس ولا يحزنون..وإنما هو نية مبيته وإصرار مسبق.
ثانيًا: تنطلق إلى مدد من جدلية الرفض والقبول. وأنت تحب أن تكرر كلمة الرفض بالذات!..ولكن رفض ماذا من أجل ماذا ولماذا وأين ومتى؟! كل هذا لا يعنيك وإنما يعنيك الرفض ذاته..والقبول في ذاته؟!
ولكن ماذا يبقى من الرفض أو القبول بعد دوامة الباطن والظاهر تلك التي دُخنا معها منذ قليل؟
قد يكون الرفض الظاهري قبولًا باطنيًا، كما قد يكون القبول الباطني رفضًا ظاهريًا؟ قد يكون الرفض رفضًا للرفض أي قبول وهكذا إلى ما لانهاية. بل قد لا يكون رفضًا ولا قبولًا لا في الظاهر ولا في الباطن؟! ثم حدسك ذاته قد يكون أو لا يكون حدسًا في الظاهر أو الباطن. من يدري؟!
أدونيس: في كل مجتمع نظام يمثل قيمًا ومصالح معينة لجماعات معينة ونواة لتصور نظام آخر يمثل قيمًا ومصالح متناقضة لجماعات أخرى مقابلة من جهة ثانية. وليس تطور المجتمع إلا الشكل الأكثر تعقيدًا للصراع أو للتفاعل بين هذه الجماعات!
أنا: هذا ما لاخلاف بيننا عليه..ولكنه يفشي تخبطك المنهجي..إذ هنا يتداخل مع منهجك –المثالي- منهجٌ آخر تمامًا دون أن تدري، ورغم إصرارك على تجاهله منذ السطور الأولى لحديثك عن المنهج والهدف!..ومع ذلك فالأمر هنا- وفي الثقافة العربية بالذات- ليس بهذه الدرجة من السهولة التي تكفي معها تلك الجمل التقريرية..فهناك افتراض ضمني للتجانس بين الجماعات"المعينة" على جهة، والجماعات "الأخرى" على الجهة المقابلة..وما يدور بينها، وهنا بالذات في العالم العربي-غير ممكن وغير متصور..لأن لا تلك الجماعات على الجهة الأولى، ولا هذه على الجهة الثانية تنتمي إلى أصل أو جنس أو سلالة واحدة!
وإلا لكان الصراع سهلًا..ولكن كما قلنا عن تداخل وتمازج واتحاد الفرق الدينية وميلها إلى تقمص جلود وأقنعة بعضها البعض، والتسلل إلى بعضها البعض، وامتطاء بعضها البعض إلخ...
نجد أيضًا هنا في داخل تلك الجماعات على الجهتين..نفس الميول ففي أي اتجاه يسير التطور ولحساب من وعلى حساب من؟ عن أي جماعات إذن نتحدث؟! وعن أي صراع؟ عن الظاهر أم عن الباطن؟! وأي تطور أو أي نظام؟!
سيكون لدينا من الأنظمة بقدر ما لدينا من عدم التجانس، وسيكون لدينا من أقنعة بقدر ما لدينا من رؤى في الظاهر والباطن؟ وقد يكون لدينا نظام واحد-لقناع واحد- رغم هذا اللاتجانس اللانهائي وهذا التعدد والتكاثر الباطني..كالأفعى تغير جلدها، ولكنها لاتغير سمها أو نابها وهكذا! العقبة هي أية جماعات؟! وأي صراع؟! وأي تطور؟! وأي نظام؟ وأي تأسيس؟ وتأسيس لماذا؟ وعلى أية أسس..لا مجرد تقريرات عامة تلي الحدود والفروق بين التناقضات أو تذويبها أو طمسها أو تجاهلها..ليست المسألة إذن مجرد تطبيق آلي أو ميكانيكي لمنهج ما ..وإنما هي الفهم السليم لجوهر المنهج وتطبيقه السليم على المعطيات والوقائع! وخصوصًا على الثقافة العربية والحضارة والإنسان العربي بالذات وفي ظروفنا الراهنة بالذات!
ثالثًا: إنك تريد-في الظاهر- ان تستأصل تلك الرؤية الغيبية أو الدينية أو ذلك المبنى الديني أو كما شئت له من أسماء..ولكنك-في الظاهر والباطن- تحاول أن تأصل ذلك في البنية الذهنية العربية وفي الثقافة العربية وفي الكل الثقافي والحضاري العربي..تمامًا كأستاذك اليسوعي الذكي الذي يبدي الكراهية للرؤية الدينية ويحرص –في الظاهر- في نفس الوقت على تعميقها ويدفعك إلى هذا ويحرضك عليه..وتحسب أنت أن المسألة مسألة "حدس" فهل هو"وحي" هبط عليك من السماء أنت الآخر؟ أنت تعرف أن الوحي انقطع منذ وفاة النبي!..ولكن حدسك ليس في الواقع بعيدًا عن"الوحي" إنه نفس الرؤيا الدينية أو المبنى الديني إلخ..وهو موجود في رأسك لا في الذهنية العربية ولا في الكل الثقافي الحضاري العربي!..كما أن حدسك ليس ببعيد عن حدث برجسون أو من "الشعور" لديه أو من "لاشعور فرويد" ولذلك لا تخشى الكنيسة و لاتخشى الامبريالية العالمية أمثال برجسون وفرويد من الملاحدة المثاليين، وهذه وتلك تفرقان وتقولان بحق-على حد قول بوليفرير إنهم"ليسوا سوى حملان ضالة والواقع أننا في الغالب جدًا نرى فعلًا الحملان تعود إلى حظيرتها بعد أن تؤدي مهمتها.""ترجمة إسماعيل البنهاوي ص34"
ولكن اسمح لي أن أريحك من قضية الشعر نهائيًا..الشعر الجاهلي والإسلامي على السواء! لكي أسبب لك متاعب أكثر بأن أزيد المسألة تعقيدًا ودقة وحرجًا وصعوبة دون قصد مني طبعًا! خاصة وأنك تقول إن الصعوبة الأولى-تناول ثقافة أمة بكاملها لا تناول شاعر واحد أو قضية منفردة لم تعد"من هذه الشرفة صعوبة بالمعنى الحضري للكلمة وإنما أصبحت تحديًا يغري بالبحث ويدفع إليه! وأنت فيما يبدو مولعًا
بالتحدي!
تيمنًا، أهدي لك الآن فيما أرجو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري طبعة كامل كيلاني سنة1925 المكتبة التجارية، افتحها أرجوك على الصفحة 149 واقرأ معي الحوار الذي أجراه أبو العلاء مع ابن القارح والجني المكنى يأبي هدرش!
"النص"
فيقول:" لله درك يا أبا هدرش، فكيف ألسنتكم؟ أيكون فيكم عرب لا يفهمون عن الروم، وروم لا يفهمون عن العرب كما نجد في أجيال الإنس؟"
فيقول:"هيهات أيها المرحوم إنا أهل ذكاء وفطن، ولابد لأحدنا أن يكون عارفًا بجميع الألسن الأنسية ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنسي."
تحرير: محمد فرحات، مشروع إعادة نشر تراث نجيب سرور



#نجيب_سرور (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحن حبات البذار..
- كفاكم دعارة
- فـَرَجَ الله و الغِستابو
- التراجيديا الانسانية


المزيد.....




- 6 أفلام تتنافس على الإيرادات بين الكوميديا والمغامرة في عيد ...
- -في عز الضهر-.. مينا مسعود يكشف عن الإعلان الرسمي لأول أفلام ...
- واتساب يتيح للمستخدمين إضافة الموسيقى إلى الحالة
- “الكــوميديــا تعــود بقــوة مع عــامــر“ فيلم شباب البومب 2 ...
- طه دسوقي.. من خجول المسرح إلى نجم الشاشة
- -الغرفة الزهراء-.. زنزانة إسرائيلية ظاهرها العذاب وباطنها ال ...
- نوال الزغبي تتعثر على المسرح خلال حفلها في بيروت وتعلق: -كنت ...
- موكب الخيول والموسيقى يزيّن شوارع دكا في عيد الفطر
- بعد وفاة الفنانة إيناس النجار.. ماذا نعرف عن تسمم الدم؟
- الفنان السوري جمال سليمان يحكي عن نفسه وعن -شركاء الأيام الص ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب سرور - حوار مع أدونيس