عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8205 - 2024 / 12 / 28 - 12:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من دون مقدمات نرى أن الإنسان العربي سَئِمها وملَّت هي ذاتها التكرار، نقول بلسان عربي مبين، أخفق القوميون العرب واليساريون. والإسلاميون على وشك الالتحاق بهم في الإخفاق، ما لم يتصالحوا مع العصر.
أخفق القوميون في مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا، لأسباب كثيرة نختصرها في أربعة.
الأول، تحول أنظمة حكمهم إلى ديكتاتوريات عسكرية، أعاقت بسلطويتها وضيق أفقها مسار التطور الطبيعي لمجتمعات الدول العربية التي حكموها. وفي السياق ذاته، ليس يفوتنا التذكير بانقلاب أنظمتهم على الفكر القومي العربي التحرري لصالح أنظمة حكم عائلية استبدادية، بكل ما ترتب على ذلك من تحويل الدولة إلى مزرعة للحاكم وأسرته وعائلته الأوسع وحاشيته والمقربين منه. ولا ريب أن دولة على هذه الشاكلة ينخر الفساد مفاصلها، أعجز من أن تنهض بمهمة جَبْه أيٍّ من التحديات الكبيرة الماثلة أمام العرب، ناهيك باستحالة أهليتها للإنسجام مع شروط العصر المتعلقة بالدول الحديثة.
الثاني، اخفاقهم الفاقع في تحقيق أيِّ انجاز يُعتد به، على صعيد القضية الفلسطينية، رُغم ضجيجهم الشعاراتي الصاخب بشأنها. ما حصل هو العكس تمامًا، وبشكل خاص في مهزلة 1967، حيث تمكن العدو من إلحاق هزيمة مُذلة خلال ساعات بجيوش عربية عدة.
الثالث، الإخفاق المريع في قراءة التحولات الدولية، وبشكل خاص بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. ولعل أصرح الأدلَّة وأدَلُّهَا، الوقت الذي اختاره الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لاجتياح الكويت. وقد تسبب هذا الإخفاق لشعوب الدول، التي حكموها بمآسٍ ما تزال تدفع ثمنها حتى يوم الناس هذا. ولا أظننا بحاجة للإتيان ببراهين تُعزز ما نقول، كونها أظْهَر من أن تحتاج إلى مَزِيدِ بَيَان.
الرابع، اخفاقهم في امتحان الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. هنا، يمكن قول الكثير، لكننا نكتفي بتثبيت حقيقة تاريخية مؤداها أن أي نظام سياسي استبدادي يقمع الإنسان ويقهره، يستحيل أن يكون وطنيًّا ومؤهلًا لمواجهة العدو وتحرير المحتل من الأرض.
مقول القول، تراكمت أخطاء القوميين وخطاياهم على أرضية اخفاقات أنظمة حكمهم العائلية الاستبدادية وتفكيرهم الأحادي ضَيِّق الأفق. ولقد كان سقوط أنظمتهم مخجلًا، على صعيدي الكيفية، والبديل، حيث ثمثل هذا الأخير بالاحتلال الأميركي المباشر أو أدوات الخارج.
أما اليساريون، فإن تضاؤلَ جماهريتهم وعزلتهم في مجتمعاتنا ليستا من دون أسباب ومقدمات تأدت بالضرورة إلى نتائج. لم ينتشر الفكر الماركسي اللينيني في مجتمعاتنا لنضوج الظروف الموضوعية المواتية لهذا الفكر، ونعني على وجه التحديد وجود اقتصاد صناعي وفرز طبقي واضح المعالم على صعيد تشكُّل الطبقة العاملة صاحبة المصلحة في تطبيقه على أرض الواقع. كان العامل الحاسم في انتقال هذا الفكر بحذر شديد إلى مجتمعاتنا تأثير الإتحاد السوفييتي السابق، كقوة دولية عظمى مناهضة للإستعمار الغربي وداعمة لحركات التحرر في العالم. ولأن العالم العربي كان وما يزال، يُحكم من قِبَل أنظمة ديكتاتورية تسلطية تابعة للغرب، فقد حورب هذا الفكر بشراسة ضاعف حدتها توظيف "المقدس" كالعادة ضده، في مجتمعات ما يزال الدين يُشغل مركز الدائرة في ثقافتها. وقد انتشر الفكر اليساري بشكل رئيس في صفوف الأقليات، لأسباب ليست موضوع مقالنا. وحملت رايته البرجوازية الصغيرة، بما يُعرف عنها من انتهازية وتذبذب في المواقف. وفوق ذلك، اتخذ اليساريون مواقف تخص أحداثًا مفصلية في تاريخنا الحديث استغلتها القوى المناوئة لهم ووظفتها ضدهم على طريقة "كلام حق يُراد به باطل". ومن هذه المواقف، على سبيل المثال لا الحصر، تأييدهم قرار تقسيم فلسطين 1947، ليس انطلاقًا من قراءة علمية لمجريات الأحداث على أرض الواقع وفق منطوق النظرية الماركسية اللينينية ذاتها، بل لأن موسكو أيدت القرار. بمنطق الإنسان البسيط، وفي السياقات الزمنية لصدور قرار التقسيم، لا يمكن تبرير القبول به. تخيل أن يأتي غرباء إلى وطنك في تلك الآونة، أو في أي أوان، ضمن مشروع استعماري احلالي بغيض، ويُطلب إليك أن تتنازل لهم عن نصف أرضك وبيتك. فبأي مبرر يمكن أن تقنع نفسك بقبول طلب شاذ عجيب غريب من نوعه كهذا، وبأي مُسوِّغات؟!!! فكيف بالنسبة لأحزاب، لجأت أنظمة اليمين الرجعي الحاكمة بدعم وتوجيه من أجهزة أسيادها في الغرب إلى محاربتها وتشويه سمعتها، بربطها بالإلحاد والإباحية الجنسية، وهو كلام باطل لا أساس له وتزييف للوعي وتشويه للحقيقة؟!!!
وقد أثبتت الأيام أن هؤلاء الغرباء لم يكن هدفهم الاستيلاء على نصف أرضك وبيتك فحسب، بل فلسطين كلها، ثم الإنطلاق منها لتحقيق وهم خرافي توراتي اسمه إسرائيل الكبرى.
يخطئ اليساريون وما يزالون في قراءة مجريات الأحداث في واقعنا العربي، ومن ذلك تشبثهم برؤية كل ما يحدث من زاوية نظرية المؤامرة. هذا مع العلم أن مرجعيتهم الفكرية تؤكد، كما أوضحنا قبل قليل، أن كل شيء يبدأ في الواقع المادي المعيش بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يتشكل فيه ويتفاعل، وتفرض الظروف الموضوعية والذاتية شروطها وإيقاعها على مساراته.
رؤية كل شئ من "خُرم" نظرية المؤامرة أوقعت اليساريين في مواقف محرجة، كي لا نقول شيئًا آخر، زادت من عزلتهم بين الجماهير. وقد تجلت رؤيتهم بهذا المعنى في آخر تبدياتها بما شهدته سوريا يوم الثامن من كانون أول 2024، ويمكن العثور على أنموذجات منها بسهولة بواسطة محرك البحث غوغل. تفسير كل شيء من زاوية نظرية المؤامرة اخترعه الاستبداد العربي لسببين. الأول، استخدامه شماعة يعلق عليها أسباب إخفاقه وعجزه. والثاني، الهروب من مواجهة الحقيقة مهما كانت مرة وتسمية الأشياء بمسمياتها الفعلية.
أما الاسلاميون، فنعتقد أنهم مروا بما يكفي من التجارب والدروس ليتعظوا من حقيقة أن الدين مُطلق ثابت والحياة نسبي مُتحرك. وأي محاولة لتقييد النسبي المتغير بشروط اليقيني الثابت، ستنتهي بالتأكيد إلى الصدام بينهما. في هذه المعادلة بالتحديد يكمن مأزق الفكر الديني، بمختلف تنويعاته وتعبيراته، مع المجتمعات ومع الحياة. مقصود القول، يستحيل خوض معارك اليوم بأسلحة أزمنة غَبَرَت. وإلى المستحيل أقرب، مواجهة تحديات الحاضر بِعِدَّةٍ فكرية أنتجتها القرون الوسطى وما قبلها. فلا يمكن تحقيق التحديث السياسي في القرن الحادي والعشرين بثقافة "الراعي والرعية" و "السمع والطاعة"، و "الولاء والبراء"، و"من اشتدت وطأته وجبت طاعته". وما كان صالحًا لأزمنة "المشكاة" و "النفاثات في العُقد" و "الجزية" و "الجواري والإماء" لا يصلح للحاضر، ولا يستسيغه الحاضر إلا موضوعًا للدرس. ومن سابع المستحيلات، بناء اقتصاد حديث بموروث الغزوات والسلب والنهب واعتراض طرق القوافل!
فلم يعد يوجد في عصرنا قوافل نعترضها، وننهب حمولتها.
لقد أثبت الإسلاميون في عشرية ما يُعرف بالربيع العربي أن تمددهم الشعبي، يَمْتَحُ من المشاعر الدينية العاطفية المتأصلة في النفوس، ويغذوه إخفاق القوميين واليساريين وإفلاس دولة الحاضر العربية ووصول نُظُمُ الحكم فيها إلى طريق مسدود. وتأكد من تجربتهم في مصر وفي تونس، أنهم رُغم ضجيجهم العالي بلا رؤية عصرية للدولة، وأن مرجعيتهم بهذا الخصوص لا تتعدى الخلافة، مع العلم أنها ليست من الدين بشيء. فلم تُذكر في آية أو حديث، بل هي اجتهاد بشر أوجدته ظروف زمانه. ولم يشهد التاريخ العربي قيام دولة دينية، بل عرف وما يزال أنظمة حكم توظف الدين لتحقيق مصالح سياسية دنيوية.
مقصود القول تأسيسًا على ما تقدم، ثقافتنا مأزومة، والمدارس الفكرية التقليدية المُجرَّبة في الحكم وفي حياتنا السياسية بمسيس الحاجة إلى مراجعة نقدية شاملة لمنظوماتها الفكرية بشروط العصر ومعايير التقدم بمفهومها الحديث.
الحل الذي لا حل سواه برأينا، تحول فكري وسياسي باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية العالمانية لكل مواطنيها. هذا الحل لا يتحقق بالرغائب والأمنيات، بل لا بد له من أرضية ثقافية تحمله وتضمن تطبيقه على أرض الواقع، وبمستطاعها تكريسه وتأمين تطوره. كما أنه يصب في صالح الجميع بالمناسبة، في عصر التعددية سريع التحول والإيقاع. فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وليس من حق أيٍّ كان الإدعاء بأن رؤاه هي الصواب بعينه لا يأتيه الباطل عن يمين أو شمال.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟