|
أثر القمع رواية -الثانية وخمس وعشرون دقيقة- طايل معادات
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 8205 - 2024 / 12 / 28 - 07:52
المحور:
الادب والفن
قليلة الأعمال الرواية العربية التي جاءت بشكل (بوليسي) وهذه ميزة تحسب للسارد الذي قدم لنا أحداثا في ظاهرها (بوليسية) وفي باطنها تحمل معاناة المواطن العربي وما يعانيه من قمع على يد رجال الأمن، فجحم القمع جعل السارد يتحدث (كمجون) فقد صوابه، وهذا أنعكس على مشاهد الرواية التي قدم بعضها بصورة فانتازيا، وأكثر من هذا، يقدم السارد نفسه كإنسان (عادي) يرتعب من التعذيب ويهابه، لكنه يقدم على تعذيب الآخرين بصورة جنونية/سادية، وأيضا يعرض نفسه ـ طوعا ـ ليخضع لعين الطريقة التي عذب بها الأخرين الذين فقدوا حياتهم وهم تحت تعذيبه، وهذه الحالات الثلاث تشير إلى أن السارد فقد اتزانه، وأصبح جزءا من عالم القمع الذي يعيشه، وإلا ما رضيه أن يقوم بدور الجلاد، وما أقدم على (تجريب) التعذيب على نفسه. ونجد أن القمع المطروح في الرواية يتجاوز السارد ليصل إلى المجتمع، وهذا ما قاد الناس ليقدموا على (الخراب العربي)، بمعنى أن الحدث المركزي في الرواية هو القمع وأثره على المجتمع: "لقد أصيبت بنوبة قلبية جراء سماعها يخبر اعتقالك" ص87، وإذا علمنا أن المصابة أم، امرأة عجوز، نصل إلى أثر القمع على أهل المعتقل وكيف سيكون حالهم. قمع رجال الأمن غالبية الأعمال الأدبية العربية تتناول رجال الأمن بصورة سلبية، حتى أننا نجد كم كبير من الأعمال الأدبية تحدثت عن القمع والسجن والتعذيب، في رواية "الثانية وخمس وعشرون دقيقة" يؤكد السارد هذه الرؤية، فرجال الأمن مصدر للسلب والنهب، دون أن يجد من يحاسبهم أو يعاقبهم: "فهو عنصر أمن ذو سلطة ومكانة ويستطيع أن يأخذ ما شاء من نساء وأموال وأملاك" ص27، هذه صورة رجال الأمن في المنطقة العربية، فهم أقرب إلى اللصوص منهم إلى رجال أمن. والأمن هنا لا يقتصر على من يقدم على جريمة (عادية) مثل السرقة فحسب، بل الأمن متعلق بالأمن السياسي، فكل من يقترب من العمل الحزبي/السياسي سيكون حاله: "أن من يفكر أن يكون سياسيا سيتمنى لو كانت جهنم مثواه الأخير" ص98، فهل فعلا جهنم أفضل من واقع المعتقلين السياسيين؟ أم أن هذه مبالغة (روائية) من السارد؟ جهنم "عازار" يحدثنا السارد عن " عازار" مالك جهنم، والمتخصص بتعذيب (الكفرة الأشرار) من الذي يدخلون عنده: "فتح باب ليجلس الجميع ثانيا ركبته وواضعا رأسه بينهما بينما تشتبك أيديهم فوق رؤوسهم" ص98، هكذا يتم مقابلة ملك الجحيم، فعلى (الأشرار) أن يظهروا خضوعهما وانصياعهم ل"عازار" الذي يعاونه (خزنة) جهنم في أدارتها: "ارتفعت العصا في الهواء ونزلت على أجسادهم مصدرة صوت تكسير العظام، لم يكن صوت كسر العصا لأنها متينة بل أن عظم المتلقي للضربة كان يكسر بالفعل، لم يجرؤ أحد على التأوه أو حتى محاولة منع الضرب، لأن أجسادهم قد اعتادت على الضربات الموجعة وقد أصبحت هذه العصا جزءا هاما من أجسادهم لا بد له أن تلتحم بها ليشعروا أنهم على قيد الحياة" ص99، إذن نحن فعلا في الجحيم، وهذا الواقع يتماثل تماما مع حال الكفرين يوم القيامة، وما قوله عز وجل في كتابه: "اصلوها فأصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون" إلا صورة عما يفعله "عازار" وزمرته في المعتقلين. تتفوق جهنم "عازار" على جهنم رب العالمين، بأن في الثانية يمكن لمن هم فيها الشكوى وإظهار ألمهم، لكن في جهنم "عازار" يمنع الشكوى أو إظهار التوجع، يحدثنا السارد عن نفسه بعد أن صرخ متوجعا من الألم: "أثار ذلك الصراخ جلبة جميع من في المحيط من سجانين ليخرجوا بسعادة تملأ وجوههم...الجميع خرج ليشارك بالعرس الدموي الذي يحدث الآن... انهالت الضربات على جسدي من كل صوب...كان صارخي يزداد مع كل ضربة أتلقاها، وكان الصراخ كوقود يحرك آلة الضرب التي لم تكف عن العمل" ص101، معادلة لا توجد في جهنم نفسها، وهذا ما يجعل يقول "عازار" حقيقة، ففي جهنم من حق المعذب أن يصرح/يشتكي/يتألم لكن عند "عازار" ممنوع، ومن يفعل ينزل إلى الدرك الأسفل في جهنم. وبما أننا نتحدث عن جهنم، فلا بد من الحديث عن أصاحبها وما يتصفون: "كنا جميعا متشابهين فوجوهنا مغطاة بالكدمات ولا يمكن التفريق بيننا حتى الأجساد كانت نحيلة وأقرب إلى أصحاب المجاعة" ص 106، وإذا علمنا أن من يدخل جهنم يمضي فيها إلى أبد الآبدين، فلا معنى للوقت فيها، فزمنها بلا وقت، زمانها معدوم/مفقود، كذلك حال جهنم "عازار": "أنت في مكان لا تعلم إن كانت الشمس في مطلعها أو في مرقدها" ص107، وهذا ما يؤكد أن السجن/المعتقل هو جهنم بذاتها، ولا يمكن أن يخرج منها أحد، حتى الأموات كانوا يبقوا بين الأحياء حتى يسمح لها (الخازن) بالمغادرة: "فقد كان بيننا أموات لم ندر أنهم أموات إلى أن تعفنت جثثهم، وكنا مضطرين إلى إبقائهم بيننا إلى أن يقتنع عازار أن الأمر فاق حد لعيش بين الجثث" ص114، هذا حال المعتقلين العرب، فأينما وجد (المعارض/الحزبي) العربي كانت جهنم "عازار" في انتظاره، وعليه أن يتقي (شرها) بعدم (الكفر والإيمان) بأن هناك جحيما ينظر كل من (يكفر) بوجودها. السارد (العادي) ورجال الأمن يقدم السارد نفسه في بداية الأحداث كمواطن (عادي) من المجتمع الذي يهاب رجال الأمن ويخافهم: "لكن تنبه أحد عناصر الأمن لوجودي أفشل ما كنت أخطط له وأشار لي بأصبعه بالتقدم ناحيته، لا أدري هل قدماي تحركتا وحدهما أم أن قوة ما دفعتني لأصبح مقابله في غضون ثوان" ص39، هذا المشهد يشير إلى سطوة رجال الأمن، وقدرتهم على (ضبع) الآخرين، من هنا وجدنا السارد ينصاع لا إراديا، مستجيبا لإشارة رجال الأمن، ودون أن يقرر ذلك، فهذه (القوة الخارقة) ناتجة عن حجم البطش التي يمارسه رجال على من يقع تحت أيديهم. وبعد أن يقترب منهم يتم التعامل معه بهذا الشكل: "عنصر الأمن متباه بضربته التي أردتني أرضا، وهو يفتح كفه ويغلقها بابتسامة خباثة، باغتني بركلة سريعة كما لو أنه يركل كيسا من الطحين" ص42، هؤلاء هم رجال الأمن في المنطقة العربية، وهذه طريقتهم في التعامل مع المواطنين، فهم لا يلقون بالا لمن يقف أمامهم، وكل ما فهيهم يقول أنهم مجرمين/متوحشين/برابرة لا يمتون للمتجمع ولا إلى الوطن بصلة. ونجد أثر الضرب على نفسية السارد من خلال قوله: "علمت أنني أنزف لكنني لم أجرؤ على تحسس مكان النزف" ص 45، نلاحظ أن السارد يتجاوز جرحه وألمه لأنه في موقف أكثر خطورة، فحياته الآن مرتبطة بطبيعة تصرفه وسلوكه مع هؤلاء المجرمين المتوحشين. السارد كسادي بعد ما مر به السارد من تعذيب وألم، يقرر "عازار" أن يخرجه بعد أسبوع، لكن يشترط عليه تنفيذ ما يطلب منه دون تلكؤ، وأن يكون تحت أمره، حتى يخرج من "جهنم" وهنا يخرج السارد من حالته السابقة، العادية، ويمسى شخصا ساديا، بكل معنى الكلمة: "بدأت بضرب الرجل بكل قوتي بالسوط، أحاول التدقيق على أماكن قد تكون مميتة له، أنا أعرف أنه يبتغي الموت الآن، لذا لا بد لي من مساعدته في الحصول على مراده، ركزت عصاي الكهربائية على صدره الأيسر عل قلبه يتوقف من شدة الصدمة...مت، مت علا صراخي في الأرجاء" ص121، نلاحظ أن السارد تحول إلى نقيضه، تحول من ضحية إلا جلاد، وليس جلادا عاديا، بل جلادا شرسا/محترفا وساديا، لا ينتهي من تعذيب الضحية حتى بعد أن فارقت الحياة: "أطفأت سيجارتي في جسد ذلك الرجل" ص122، السارد يتوغل أكثر في تعذيب الضحايا وقتلهم حتى أنه يقتل منهم "تسعة أشخاص" دون أن يرف له جفن، وهنا يصل إلى ذروة السادية، ويتحول إلى وحش حقيقي يبتلع الضحايا. مازوشية السارد النقلة النقيض للسادية كانت من خلال طلب السارد من "عازار" أن يقوم بتعذيبه كما عذب ضحاياه، وأن لا يتوقف عن تعذيبه حتى (يتعرف) على مشاعر/نفسة تلك الضحايا: "إنهال السوط على جسدي كما الصدمات الكهربائية، بدأت أصرخ بكل ما أوتيت من قوة، الآن عرفت شعور الذي قتلتهم أنا أصرخ قهرا وليس ألما ...إنهال السوط على جسدي بينما بدأ صوتي يخفت رويدا وصورة من قتلنهم تمر أمامي كلمح البصر وأنا أراقبهم في شخص عازار نفسه" ص122و123، القبول بالموت بعين الوسيلة والطريقة التي مارسها على الضحايا تشير إلى أن السارد يحاول (التكفير) عما فعله، لهذا أراد ن يمر بتجربتهم وظرفهم، وهذا ما جعل يقول: يصرخون قهرا وليس ألما" وبعد أن اكتشف هذه الحقيقة كانت مغادرته للحياة حياة هي القصاص العادل له. إذا ما توقفنا عند الحالات الثلاث التي مر بها السارد: العادية/الخوف كضحية، المعذب/المتألم من التعذيب، المعذب/القاتل لضحاياه، تقودنا إلى أن القمع ينعكس سلبيا على الإنسان الذي يمكن أن يتحول إلى وحش بحق الآخرين، أو بحق نفسه، وهذا ما فعله السادر في الرواية. الرواية من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، عمان، الطبعة الأولى 2021.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التمرد في كتاب -النهر لن يفصلني عنك- رمضان الرواشدة
-
مهدي نصير وتقديم الألم
-
جواد العقاد والارتباك - وفي إيابي
-
البياض في قصيدة -معراج واسع للقصيدة- سائد أبو عبيد
-
الإيجابية في رواية -زمن القناطر- عامر سلطان
-
الأخلاق وجمالية الكتابة في رواية -لم أكن أتوقع- راشد عيسى
-
الواقع في قصة -الكابوس- مأمون حسن
-
فشل حركة التحرر العربية
-
سورية الجديدة (4)
-
سورية (الجديد) 3
-
سورية الجديدة (2)
-
سورية
-
سامح أبو هنود قصيدة -كن بين شكك واليقين-
-
قصائد -أنا وليلى- للشاعر موسى أبو غليون
-
الإثراء الثقافي والثراء الإنساني في كتاب -الثرثرات المحبّبة-
...
-
النعومة في رواية -النور يأتي من خلف النافذة- إبراهيم جاد الل
...
-
التنوع والتعدد في ديوان -شغف الأسئلة- منذر يحيى عيسى
-
القهر في قصيدة -اعتذار- سامي البيتجالي
-
كتاب -زهرات في قلب الجحيم-[*] للمحامي حسن عبادي
-
الصراع في رواية “كليوبترا الكنعانية” لصبحي فحماوي
المزيد.....
-
مزيج أحزان البلقان والعثمانيين وأوروبا.. غناء سيفدالينكا الب
...
-
وفاة -جولييت- بطلة الفيلم الرومانسي الشهير -روميو وجولييت-
-
وفاة -جولييت- بطلة الفيلم الرومانسي الشهير -روميو وجوليت-
-
تشريح الانهيار العربي والشخصي في تجربة مسرحيّ التسييس سعد ال
...
-
أفضل المسلسلات العالمية في 2024.. نجوم السينما يغزون التلفزي
...
-
لأقوي أفلام الكرتون.. استقبل تردد قناة كرتون نتورك على الناي
...
-
دريد لحام يكشف جوانب من حياته الشخصية وزواجه من الفنانة صباح
...
-
الهند تتصدر قائمة الأكثر نفوذا في مجال الفن على مستوى العالم
...
-
فنانة كبيرة تدعو لحضور جنازة زوجها
-
نصوص:نص(ولا تشم رائحتك علي معطفي)الشاعرمحمدأمين صالح.مصر
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|