محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8200 - 2024 / 12 / 23 - 23:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مجتمعاتنا اليوم، نشهد مشهداً متناقضاً يصعب تجاهله. تمر بجوارك صورة شخص متشبث بمظاهر السلفية، بعقلية تبدو مجمدة في زمن مضى، بينما في جيبك هاتف يعرض لك عالماً آخر مليئاً بالحداثة والإبداع والانفتاح. هذه الازدواجية ليست مجرد تناقض في المظهر، بل تعكس أزمة هوية عميقة تُترجم إلى انفصام حضاري تعاني منه شعوبنا.
هذا الانفصام لا يقتصر على السطحيات، بل يتغلغل في طريقة تفكيرنا وأساليب حياتنا وحتى رؤيتنا للمستقبل. كيف يمكننا أن ننتمي إلى عالم يعيش في القرن الحادي والعشرين بينما ما زالت عقولنا مقيدة بنماذج عفا عليها الزمن؟ نحن شعوب تائهة، عالقة بين تمجيد ماضٍ مليء بالقيود والتقاليد، وانبهار حاضرٍ غني بالتحديات والفرص، لكننا لا نحسن استغلاله.
هذا التردد المزمن يخلق شعوباً مكبلة بالكبت، غير قادرة على مواكبة التحولات العالمية، لكنها في الوقت نفسه مبهورة بمنجزات لا تفهمها أو تساهم فيها. نحن نتشبث بالمظاهر التقليدية وكأنها ملاذ من المتغيرات التي نخاف مواجهتها، بينما العالم الآخر يتقدم بخطى ثابتة نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ أهو تأثير خارجي يهدف إلى إدامة تخلفنا؟ أم أننا نحن من اخترنا أن نغرق في الماضي بدلاً من بناء الحاضر؟ الحقيقة، كما هي دائماً، تقع في منطقة رمادية. القوى الخارجية قد تسهم في إبقاء المجتمعات رهينة الجمود، لكنها لا تتحمل وحدها المسؤولية. نحن نملك إرثاً غنياً من الحضارات المتقدمة، لكننا تركنا هذا الإرث يُستبدل بنسخ مشوهة من الهويات التي لا تمثلنا.
الحل ليس في إنكار الماضي ولا في الانبهار الأعمى بالحاضر. بل في صياغة رؤية جديدة تعيدنا إلى جوهر حضارتنا وتدمجها مع متطلبات العصر. نحن بحاجة إلى مشروع فكري يعيد تشكيل وعينا الجماعي، مشروع يعيد تعريف علاقتنا بتاريخنا بحيث نستفيد منه دون أن يتحول إلى عبء، ويمنحنا الأدوات اللازمة للانخراط الفعّال في الحاضر.
النجاة من هذا الانفصام تتطلب شجاعة كبيرة للتخلي عن أوهام الماضي، دون فقدان الإيمان بقدرتنا على التغيير. إذا أردنا أن نصبح شعوباً قادرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية مجدداً، فعلينا أن نبدأ بإعادة بناء مفاهيمنا، وأن نجرؤ على مواجهة أنفسنا بحقيقة وضعنا الحالي. هذا هو التحدي الأكبر، ولكنه أيضاً الفرصة الأعظم.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟