|
-مثل زجاجة- ومعمار الحداثة في قصيدة النثر العربية: قراءة في تجربة الشاعر توفيق الشابي..
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 8199 - 2024 / 12 / 22 - 09:23
المحور:
الادب والفن
تمثل قصائد الشاعر التونسي توفيق الشابي في هذه المجموعة التي أمامنا بعنوان "مثل زجاجة"*، تجربة مميزة في سياق قصيدة النثر العربية المعاصرة التي نتطلع اليها وسبق لنا أن أطلقنا بخصوصها بيانا شعريا**، حيث تجمع هاته القصائد ما بين الأصالة في الرؤية والحداثة في الشكل لتقدم المجموعة مشروعًا شعريًا متكاملًا يتجاوز حدود التعبير التقليدي، من خلال تقنيات مبتكرة تجمع ما بين الإيجاز والإيحاء، وبين البناء المفتوح والانضباط الداخلي، إذ تستلهم القصائد التفاصيل اليومية والمعاني الوجودية الكبرى لتعيد صياغتها في إطار شعري مبتكر، يكسر الحدود الشكلية ويفتح آفاقًا جديدة للإبداع. ويمكن تثبيت الثيمات المركزية المتراوحة بين المعاني الكونية والتفاصيل اليومية في هذا الديوان على وفق الخطاطة التالية:
1. في البحث عن الذات:/ يتصدر موضوع ألم الفقدان لب هذه المجموعة، حيث تتحول النصوص إلى استكشاف حميمي للذات الإنسانية في مواجهة العالم. في نص يحمل الدلالة ذاتها، يقول الشاعر: > "مدينتي، مكتبتي، هي كل ما أفتقده في بلاد من ثلوج."
هنا تتحول المكتبة والمدينة إلى رمزين لفقدان الانتماء والذاكرة، إذ يعبر النص عن اغتراب الإنسان في مواجهة الزمن والهجرة في الجغرافيا والروح. تتكرر هذه الثيمة في قصائد أخرى لعل أوضحها في التمثيل قصيدة "فَقْد"، حيث يعيد الشاعر بناء عالمه المفقود من خلال استحضار الأماكن التي سكنته.
2. الزمن بوصفه مركزا للوجود:/ ليس الزمن في هذه المجموعة مجرد سياق فيزيائي للأحداث، بل هو كيان جوهري يتشابك مع تجربة الحياة. في نص "ساعة"، يعبر الشاعر عن إدراكه المتأخر لتحولات الزمن: > "لم أضع ساعة في معصمي منذ زمن، لذلك لم أشعر بدبيبه إلاّ في الخمسين."
يبدو الزمن هنا كحقيقة ملموسة في تفاصيل الشيخوخة، حيث تعكس النصوص أثره في الجسد والذاكرة. أما في نص "رياضيات"، فيقدم الشاعر لنا الزمن كمعادلة فلسفية: > "في القاعة رقم 1، أكشف عن ولعي بالرّياضيات... مع ولعي هذا، أعترف أنّني لم أُدرك بعض حقائقها إلاّ الآن، في الخمسين."
3. المفارقة العاطفية:/ الحب في نصوص توفيق الشابي يتجاوز البعد العاطفي ليصبح تجربة إنسانية معقدة، مشبعة بالمفارقات. في نص "قسوة الحب"، يقول: > "من هنا مرّ رجالٌ ونساء... هنا جلسوا... وهم يستمعون إلى سيدة الغناء."
يظهر الحب هنا كحالة استدعاء للتاريخ الشخصي والجمعي، حيث تتداخل الذكريات مع الحاضر لتكشف عن عمق التجربة الإنسانية وتعقيداتها عبر استلهام رمزية كوكب الشرق السيدة أم كلثوم.
4. المدينة ككيان شعري:/ المدينة في قصائد المجموعة ليست مجرد فضاء جغرافي، بل هي كيان حيّ ينبض ذاكرة وتاريخًا. في نص "أطلال"، يقول الشاعر: > "لا شيء اليوم غير الحوانيت المغلقة، مقهى وحيد، مطعم يستجدي الزوار... لوحة مصغرة لمكان على حافة الأطلال."
تتحول المدينة هنا إلى استعارة لحالة الانهيار الداخلي والاغتراب. الأمر ذاته في نص رائع بعنوان "روائح إسطنبول" حيث يتم استحضار المدينة كرمز للصراع الداخلي والتاريخي الذي يسكن الشاعر، فلنسمعه يقول: > "في تلّته، من بين الأنْقاض، أنقاض الموْتى في مقبرة إسطنبول ولدت أحلام بيار لوتي من أبوين تركيّين."
شخصيا كقاريء، أعجبني في الشاعر ذكاء الإشارة والإستعارة حول الرحالة والكاتب الفرنسي بيير لوتي المتوفى عام 1923 والذي كان يلقب بعاشق إسطنبول . و"لوتي" له حكاية بل حكايات طويلة مع الشرق ليس هنا مجال التطرق اليها فلربما عدنا إليه وإليها في مناسبات قادمة.
5. الفن كاستعارة للحياة:/ تشكل الإشارات والإحالات الفنية والثقافية ملمحًا بارزًا في نصوص ديوان "مثل زجاجة". في نص بعنوان "جاك بريل أو مدينة الفنون"، يستحضر الشاعر تجربة المغني والشاعر الفرنسي الشهير جاك بريل ويقول: > "جاك بريل أو قل مدينة الفنون. من الموسيقى إلى الكتابة مرورًا بالمسرح والسينما."
يشكل هذا الاستدعاء الفني بعدًا جماليًا يعيد تشكيل العالم من خلال عدسة الفن، حيث تغدو الأغاني والأعمال الفنية استعارات لحالات إنسانية كبرى. في استعادة لأغنية Ne me quitte pas، يقول الشاعر: > "غناء، بل صرخة مُتعَب. أغنية، بل أنشودة مُتعَبين."
# والآن، وبعد استعراضنا للثيمات المركزية المهيمنة على أجواء ديوان توفيق الشابي بعنوان "مثل زجاجة"، دعونا نستجلي هنا بعض التقنيات الشعرية والحيل اللغوية المستخدمة في البنية والرؤية داخل قصائد الديوان:/ فمن حيث التكثيف والإيحاء، تعتمد النصوص على لغة مقتضبة مشحونة بالدلالات، حيث الكلمة تحمل ثقلًا شعريًا يفتح آفاق التأويل. ولم يبخل علينا الشاعر باستعمال تكنيك التناص الثقافي فعمد إلى استحضار شخصيات وأعمال فنية وأدبية كجزء من بناء النصوص، مما أثرى التجربة الجمالية وعَمق أبعادها الفكرية. أمثلة على ذلك: جان كوكتو، بيير لوتي، جاك بريل، سعدي يوسف، عبد الرحمان منيف، قسطنطين كافافي، والت ويتمان، فيروز، محمود درويش، خورخي لويس بورخيس، الخ.. وعلاوة على ذلك، قام الشاعر بنجاح بالتقاط التفاصيل اليومية اللحظوية العابرة وجَعْلها تتشابك مع التجربة الكونية، مما منح النصوص طابعًا سرديًا وشعريًا في آن واحد، وذاك شرط منشود لأية قصيدة نثر ناجحة. كذلك قام الشاعر في ديوانه هذا بإمطارنا بوابل من الصور الشعرية الإيحائية وكأننا أمام فيلم سينمائي ليس فيه سوى لقطات سريعة متتالية بالكاد تصمد أمام النظر، لتشكل في النهاية فسيفساء خيالية تشير الى صورة واحدة ألا وهي: الشاعر في وجوده الصعب. تبدأ الرحلة بالمدينة-المكتبة مع أصداء الوقت في خرائط الفقد في مدن على حواف الأطلال مثل حيوان وحشي حيث تتحول القصيدة إلى استعارة تتحدث عن معاناة الإبداع مثيرة الفضول وعاكسة الجانب الفوضوي للشعر عبر ممرات الضوء والعتمة خلف أصوات المقابر وأغاني مدن الحلم والخراب ولا من دليل سوى خارطة الذئاب السياسية في سياق يحمل بعدًا نقديًا عميقًا للمجتمع، حيث على الشاعر أن يغني أنشودة المتعبين ليجسد روح التعب الإنساني والبحث عن الخلاص في الجمال والألم معًا. تشكل مجموعة "مثل زجاجة" للشاعر توفيق الشابي شهادة ملموسة على حيوية قصيدة النثر العربية المعاصرة، ودليلًا على قدرتها على استيعاب تحولات الواقع دون أن تفقد عمقها وفرادتها. نصوص المجموعة هي دعوة للتأمل في الذات والآخر، الماضي والحاضر، حيث تلتقي التفاصيل اليومية بالمعاني الكبرى للحياة لتشكل تجربة شعرية متكاملة تجمع بين التأمل والتجديد لتثبت أن قصيدة النثر المرجوة ليست مجرد شكل جديد، بل هي أفق رحب لتجديد التعبير الشعري بلا حدود.
هوامش:/ * من مقدمتنا لديوان "مثل زجاجة" للشاعر التونسي توفيق الشابي، منشورات "كتاب كناية"، سلسلة القصيدة العربية الجديدة ما بعد النثر والتفعيلة، ستوكهولم 2024. ** انظر: حكمت الحاج، "بيان القصيدة العربية الجديدة ما بعد النثر والتفعيلة"، المنشور في موقع "الحوار المتمدن" على وفق الرابط التالي: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=821207
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورة للفنان بوصفه جُرواً: ديلان توماس بين القصة والقصيدة وال
...
-
وحيدة على الرصيف
-
حسين علي يونس الشاعر السوريالي المتهكم بمراوح الخلود
-
من الرمزية إلى السوريالية: قراءة في قصص -الحصان الأبيض- لصلا
...
-
أربع قصائد من نوفمبر
-
دورة اللولب
-
حسين علي يونس: الشاعر السوريالي المحلق بمراوح السخرية السودا
...
-
على نهر البلاد جلست وبكيت
-
انفعالات، استعارات، تروبيسمز، مدارات استوائية: عمل متأرجح ما
...
-
من الرمز إلى العاطفة: مفهوم نقدي جديد لسيمياء الأهواء
-
نقد عربي جديد بلا معاطف أو قفازات
-
أربع هايكوات وتانكا..
-
النقد المتأني كطريقة للنظر في النصوص الأدبية
-
إلى أين أنت ذاهب أيها الربُّ
-
في البحث عن طوق نجاة.. كتاب مشترك جديد
-
القصائد-النثر العشر الطوال
-
البحث عن طوق نجاة
-
غرناطة
-
سبعة هايكوات
-
سيمون فايل، من الماركسية والمجالسية إلى التصوف والروحانية: ت
...
المزيد.....
-
“كشف حقيقة ليلى وإصابة نور” مسلسل ليلى الحلقة 15 Leyla مترجم
...
-
-الذراري الحمر- يتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية
...
-
بليك ليفلي تتهم زميلها في فيلم -It Ends With Us- بالتحرش وال
...
-
“الأحداث تشتعل” مسلسل حب بلا حدود الحلقة 47 مترجمة بالعربية
...
-
في ذكرى رحيله الستين.. -إيسيسكو- تحتفي بالمفكر المصري عباس ا
...
-
فنان أمريكي يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بتنفيذ إبادة جماع
...
-
-الناقد الأكثر عدوانية للإسلام في التاريخ-.. من هو السعودي ا
...
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
-
الأمم المتحدة: نطالب الدول بعدم التعاطي مع الروايات الإسرائي
...
-
-تسجيلات- بولص آدم.. تاريخ جيل عراقي بين مدينتين
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|