هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 09:23
المحور:
الادب والفن
ما بين الأداء التمثيلي والموسيقى هل وقع مسلسل" فاتن أمل حربي" في الـ"ستريو تايب؟
لا يستطيع أحد أن ينكر أثر الدراما التلفزيونية في التأثير على مساحات الوعي للجماعة الشعبية، وما إن يهل السباق الرمضاني السنوي بين صناع الدراما العربية حتى يقع المشاهد العربي من المحيط للخليج فريسة لهذا السباق، ما بين دراما تنشغل بالأبعاد الاجتماعية وأخرى تنشغل بركوب ما يسمى بالترند Trend وإثارة الجدل بين المشاهدين.
ويظل المشاهد ينتقل بجهاز التحكم التلفزيوني ما بين القنوات حتى ينتقي لنفسه مسلسلا أو اثنين يرضيان قناعاته أو فضوله. ومن أكثر المسلسلات إثارة للجدل هذا العام مسلسل" أمل فاتن حربي" بطولة الفنانة نيلي كريم والفنان شريف سلامة ومن كتابة الإعلامي إبراهيم عيسى وإخراج ماندو العدل.
لكن ما الذي يجعل هذا العمل الفني الأكثر إثارة للجدل؟ في الحقيقة داوم إبراهيم عيسى على تفجير قضايا مثيرة للجدل تحاول أن تشتغل على مستوى الوعي وطرح الأسئلة أكثر من تقديم إجابات، وكانت طروحاته تتنوع ما بين المقال الصحفي أو البرنامج التلفزيوني أو الفيلم السينمائي، وأخيرا دخل مجال الدراما التلفزيونية التي تعتبر أكثر مشاهدة وتماسا مع المشاهد من المجالات السابقة التي لها قراؤها ومشاهدوها المختلفين نوعيا عن الدراما.
كانت معركة إبراهيم عيسى دوما مع ما يسمّى بالإسلام السياسي، وقارب أحيانا التراث من وجهة نظر ناقدة ومُساءِلة، لكن أن يقترب هكذا من أفكار يعتبرها البعض من ثوابت الدين فهذا ما فجّر المزيد من الجدل الذي انتقل من المنازل حيث تتم مشاهدة الحلقات إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فشاهدنا من تحمّس للمسلسل لأنه يطرح قضية مجتمعية شائكة ومن تحمّس ضد العمل واتهمه بإفساد المجتمع والهجوم على الدين، وبين هؤلاء وأولئك لم يتوقف أحد لمناقشة فنيات العمل وجمالياته، نجاحاته وإخفاقاته.
لقد شاهدنا حتى الآن ما يقارب من ثلثي المسلسل ويمكن لنا أن نناقش السيناريو بعد أن اتضحت خيوطه الدرامية بشكل جليّ، وصار واضحا للمشاهد العادي غير المتخصص أن المسلسل لن يقدم جديدا فقد كشف عن قضيته منذ الحلقات الأولى، وبات معروفا السياقات الاجتماعية والثقافية التي سيسير فيها العمل دراميا، فالعمل يعتمد على المباشرة والوضوح في طرح قضيته، ولا يخفي أي ألعاب درامية أو فنية.
ولنتأمل العمل منذ البداية:
يحكي السيناريو قصة امرأة من الطبقة الوسطى المصرية ( موظفة في الشهر العقاري) درست القانون بشكل أو بآخر حسب عملها وتخصصها، تقوم بمهام المرأة المصرية التي بات متعارفا عليها في المجتمع المصري، فهي إلى جانب عملها الذي يُدرُّ دخلا تعول به أسرتها الصغيرة( لديها بنتان) تقوم بأشغال المنزل كافة، تذاكر للبنتين، تذهب بهما إلى النادي للاشتراك في التمارين الرياضية، تأتي لهما بالمدرسين الخصوصيين في المنزل حيث تؤمن كما تؤمن كل سيدة مصرية أن التعليم هو وسيلتها الوحيدة للحراك الاجتماعي، ومن المفترض أن يكون الزوج ممتنا لكل هذه الأدوار المتعددة، لكن في حقيقة الأمر الزوج لم يكن ممتنا، بل كان جاحدا ومنكرا عليها فضلها في رعاية أسرتهما الصغيرة، فمارس عليها العنف البدني والنفسي مما اضطرها لطلب الطلاق وقد تم منذ الحلقة الأولى، لكن إمعانا في إذلالها فقد بدد أو سرق أثاث منزلهما المشترك وطردها مع بنتيها للشارع تقريبا، فلم يكن لديها أي مكان تذهب إليه.
فكّرت أن تذهب لدار الإفتاء المصرية تبحث عن فتوى تُدين الزوج الذي مارس ضدها كل أنواع العنف وسرق حقوقها، فلم تجد، فالثقافة الفقهية تناصر الرجل/ الذكر وتطالب المرأة بمزيد من الخضوع لهيمنته الذكورية، ففكرت في القانون( الوضعي) فاكتشفت أن قانون الأحوال الشخصية يهدر أيضا حقوق النساء، فهو مُستقى أو مأخوذ من أحكام الفقه وإن كان قانونا وضعيا، فتقرر أن تقيم قضية على قانون الأحوال الشخصية وتذهب به إلى المحكمة الدستورية العليا لمناقشته لبيان عواره في إهدار حقوق النساء.
هذه هي الإشكالية الكبرى التي جمعت حول المسلسل أنصار حقوق الإنسان وأنصار المرأة أو من يسمون بالـ " فمنيستس" Feminists أو النسويات، وبالطبع كل من هم ضد هيمنة الأحكام الفقهية الإسلامية التي تنطلق منها القوانين المصرية وخاصة في الزواج والميراث حتى أنها تطبق على المسيحيين قبل المسلمين، وهذا أيضا ما حشد ضد المسلسل كل من رآه تطاولا على الفقه الذي هو مرادف لأصل الدين في الوعي الشعبي الذي لا يفرق بين أوامر الله ونواهيه في القرآن الكريم وتفسير الفقهاء ورؤيتهم لهذه الأوامر والنواهي.
إن السؤال الذي أزعج هذا القطاع العريض من عامة الشعب المصري المسلم قول إبراهيم عيسى على لسان البطلة" يعني الكلام ده( وتقصد حقوق الرجل الذكورية) قالوا ربنا بذات نفسه؟ قالوا ربنا بلسانه؟
هذا التعبير بغض النظر عن مضمونه(قالوا ربنا بلسانه) أثار حفيظة القاعدة العريضة من الشعب لأنهم اعتبروه تطاولا على الذات الإلهية، ترى ماذا لو قالت "فاتن أمل حربي" نفس السؤال بصيغة أخرى( هل ورد هذا الكلام في القرآن الكريم؟) هل كانت ستقوم القيامة ولم تقعد مثلما حدث الآن؟.
إن أخطر ما يواجه المسلسل هو الاستقطاب، الاستقطاب الذي يهيمن على فكر كاتبه( إبراهيم عيسى) والاستقطاب الذي يهيمن على المناصرين والمناوئين للمسلسل مما أعمى البصائر عن المناقشة الفنية للعمل، فنحن في النهاية أمام عمل فني له اشتراطاته الجمالية المتعارف عليها، فكتابة السيناريو الدرامي له اشتراطات جمالية، كما أن الأداء والتمثيل والإخراج والتصوير والموسيقى التصويرية لها جماليات بات متعارفا عليها، فمن الإنصاف تأمل العمل الفني وفق هذه الاشتراطات بعيدا عن الحماس الأيديولوجي أو الغضب الأيديولوجي أيضا.
مباشرة وسطحية الخيوط الدرامية في السيناريو:
لأن الكاتب مشغول بالمقولة الفكرية التي يرغب في مناقشتها؛ لأنه يؤمن ـ كما هو واضح من خلال متابعة مشروعه الفكري والإبداعي ـ يؤمن بأن إحالة كل شيء للدين ولأقوال الفقهاء يتراجع بوضع مصر من كونها دولة مدنية إلى دولة شبه دينية تعيد وترجع كل شيء للدين وللأزهر وللكنيسة، وهذا ما جعله يتغافل عن فنيات السيناريو الدرامي، فقد ركز على خيط درامي واحد هو الصراع ما بين الثقافة الذكورية والوعي النسوي الذي امتلكته فاتن أمل حربي نتيجة للضرر المباشر الذي وقع عليها ونتيجة لإعمال عقلها في حقها وحق بناتها؛ مما دفعها لأن تُساءل الخطاب الديني والخطاب المجتمعي معا.
التركيز من قبل الكاتب على هذا الخيط الدرامي جعله يغفل عن خيوط درامية كثيرة كان من الممكن أن تساعده على كتابة عمل فني تتصارع فيه الأفكار وتتجادل مما ينتج دلالة كلية يسعى إليها الكاتب حتما وهي تطوير مناطق الوعي لدى المشاهد، فكل مشكلاتنا الحياتية والمجتمعية هي الوعي، غياب الوعي يوقعنا تحت هيمنة وسطوة النسق الثقافي المهيمن سواء كان نسقا ثقافيا دينيا أو اجتماعيا.
فمثلا لم يشتغل إبراهيم عيسى على ماضي الشخصيات وتاريخها النفسي والاجتماعي، فشخصية الزوج الذي يمثلها الفنان شريف سلامة لا نعرف عن تاريخه النفسي والاجتماعي شيئا! ما الذي جعله بهذا الوعي الذكوري الإقصائي؟ علاقته بأمه " السافرة " ـ بتعبيره لزوجته حين كان يحاول أن يلزمها بالحجاب ـ لا تتضح. أمه تمتلك مصنعا لا نعرف عنه شيئا، لا نعرف عنها هي شيئا، لا نعرف عن تاريخ أبيه النفسي المتوفي شيئا! من غير المعقول أن يقبل المشاهد أن الزوج بهذه الشخصية دون أن يكشف السيناريو عن ذلك!
كذلك مجموعة الشخصيات التي تحيط بفاتن وتساعدها وتدعمها لا نعرف عنهن شيئا، بل كلهن بما فيهن الشخصية التي تقوم ببطولتها الفنانة هالة صدقي لا يعرف المشاهد تاريخهن النفسي والاجتماعي، فلو أن السيناريو قام بذلك لوجد إبراهيم عيسى بين يديه خيوطا درامية عديدة ثرية كان من الممكن توظيفها لصناعة حبكات درامية صغيرة تتضافر لتنتج لنا حبكة درامية كبرى مشوقة وممتعة وتساءل أيضا الدين والعرف والقانون.
أداء الشخصيات:
لم يخرج أداء نيلي كريم من حيث الانفعالات وردود الأفعال ولغة الجسد عن معظم أدوارها التي قامت بها في السنوات الماضية( سجن النساء ـ لأعلى سعر ـ تحت السيطرة) تقريبا لغة الجسد واحدة، حتى أنها باتت تعرف بالـ " الكئيبة" حتى أن المشاهد أعجب بها جدا حين خرجت على هذا النمط من الأداء الذي بات مكررا حين قدمت العام الماضي مسلسلا كوميديا بعنوان:" بميت وش".
لكن ما مثل مفاجأة هذا العام هو أداء الممثل شريف سلامة الذي قام بعشرات الأعمال في السنوات السابقة، لكنه لم يقدم عملا سوف يعلق في ذهن المشاهد طويلا مثلما قام بهذا بدور سيف الدندراوي زوج " فاتن أمل حربي" فلغة الجسد تمكنت من تصوير الشخصية التي كانت مرشحة لأن يكرهها المشاهد، فهو لا يكتفي بأنه ذكوري مهيمن ، بل يمارس الإقصاء والتعنيف والعنف، وفي نفس الوقت لا مانع لديه أن يسرق حقوقها، بل لم يكن لديه مانع أن تصرف مرتبها عليه وعلى سيارته. وفي نفس الوقت أمام الجمهور العام يمثل البراءة والسلمية في مواجهة زوجته العنيفة المقصرة في حقه كزوج شرقي. كل هذا أوصله للمشاهد بلغة الجسد، الصوت ومستوياته ما بين العنف والغضب والاستكانة والاستسلام، نظرات العين وغيرها من لغة جسد كانت قادرة على تجسيد ما أراده الكاتب من الشخصية.
أما أداء بقية الشخصيات فقد انقسمت كذلك ما بين شخصيات خيرة طيبة تساند البطلة وشخصيات أخرى شريرة تساند الزوج وفي كلا النمطين تحول أداء الممثلين والممثلات إلى ما يُسمّى بـ " ستريو تايب" stereotype أو صورة نمطية عن الخير والشر، فتقريبا لم يخرج أحد من الممثلين في الأدوار الثانوية عن تصورنا عن النمط.
الموسيقى :
من وضع الموسيقى للمسلسل هو الموسيقار الشاب خالد كمار الذي ركز في المسلسل على وضع موسيقى يتضافر فيها صوت العود والناي والرق وهي آلات شرقية بحتة تميل غالبا إلى الحس الدارامي الحزين، فقد وقع هو الآخر في فخ الـ "ستريو تايب"، باعتبار أن قضية مثل هذه لا بد أن تكون كل آلاتها شرقية بما لهذا من دلالة ميلودرامية باكية مرتفعة الصوت والمباشرة، حتى أن في بعض الأحيان كانت الموسيقى تطغى على الحوار.
وأخيرا قارب إبراهيم عيسى هذه القضية الإشكالية في ظل تطور الميديا الحديثة وتطور الوعي بحقوق الإنسان العالمية بنفس طريقة الثمانينات (1975) من القرن الماضي في فيلم" أريد حلا" الذي قامت ببطولته فاتن حمامة ورشدي أباظة وكتب السيناريو له سعيد مرزوق وفاتن حمامة نفسها وآخرون.
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟