|
استغلال الدين لترسيخ العرش سلاح ذو حدين
حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 8194 - 2024 / 12 / 17 - 14:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في المرحلة الأخيرة من حكمه، وعلى إثر تصاعد القمع الوحشي الذي اجتاح المدن وبلغ ذروته في مجزرة السابع عشر من سبتمبر في ساحة ژاله، قرر الشاه الهروب من مملكته. وفي محاولة بائسة لاسترضاء الجماهير الغاضبة، ظهر عبر شاشات التلفزيون مخاطباً "رعيته" البالغ عددهم خمسة وثلاثين مليون نسمة حينذاك، يزعم أنه "سمع صوت الثورة" ، متعهداً بأن حقبة الظلم والنهب والجرائم مضت ولن تتكرر مجددًا.
بيْد أن خطابه هذا تضمّن، رغم محاولته إثبات حسن النية، اعترافاً ضمنياً وجلياً بأن فترة حكمه كانت شاهدة على فصول من الظلم والانتهاكات . ومع ذلك، لم تُفلح وعوده في تهدئة مشاعر الغضب الشعبي، إذ ازدادت الاحتجاجات زخماً واتساعاً . و في محاولة منه للنجاة من الأزمة المتفاقمة وتخفيف الضغط الشعبي الهائل، أطلق الشاه حملة واسعة النطاق ضد مجموعة من المسؤولين المقربين منه. فبدأ باعتقال كبار الوزراء والمسؤولين متّهماً إياهم بتحمل المسؤولية عن الجرائم والانتهاكات التي حدثت في ظل حكمه. وكان أمير عباس هويدا، رئيس الوزراء حينذاك، من بين أبرز الذين ألقي القبض عليهم، إضافة إلى مجموعة من البرلمانيين وكبار رجال الدولة الذين زُجّ بهم في السجن. كان ذلك بمثابة مناورة يائسة لإلقاء التهم على الآخرين وتحميلهم أوزار فشله أمام الشعب. ومع ذلك، لم تفلح تلك الخطوات في إعادة الثقة المفقودة بشخصيته أو بنواياه، إذ ظل الشعب متمسكاً بموقفه الرافض لسرديات الشاه وأبواقه ومحاولاته الدفاع عن نظامه المتهاوي. ومع تفاقم الأزمة وزيادة العنف اليومي نتيجة المواجهات المتكررة بين الشعب وقوات الحرس الخاص به، التي اشتهرت بوحشيتها، أدرك الشاه أن بقاءه ملكا على ايران بات مستحيلاً وأن أيام حكمه باتت معدودة. وفي سبيل كسب الوقت ومواصلة استرضاء الثوار الغاضبين، أمر بسجن مزيد من الوزراء والمسؤولين. ومع اشتداد حدة الأحداث وبلوغها مرحلة اللاعودة، بات فراره أمراً حتمياً لا مفر منه.
استغل الشاه الدين كوسيلة أساسية لتعزيز قبضته على الحكم وتوسيع هيمنته السياسية من خلال تقديم صورة مغايرة عن نفسه تصورّه كقائد عادل ومؤمن حريص على القيم الدينية. لكن الواقع كان مغايرًا تمامًا، حيث اعتمد الشاه بشكل كبير على دعم رجال الدين الذين أيدوه وساهموا في شرعنة نظامه. في المقابل، لم يتردد في استغلال مراكز الاعتقال والسجون مثل قزل قلعة وأوين كأدوات رئيسية للتنكيل بالمعارضين وسحق أي محاولة للنقد أو المعارضة. هؤلاء السجناء تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب والإذلال التي انتهكت أبسط حقوقهم الإنسانية. وعلى الرغم من أن الشاه أبدى احترامه الظاهري للدين والرموز الدينية، فإن الواقع كشف عن تناقض خطير في سياساته، حيث لم يتوانَ عن استهداف حتى بعض رجال الدين الذين تجرأوا على معارضته أو الخروج عن خطه. كما سخّر الشاه وسائل الإعلام لتكون أداة طيّعة في يده يستخدمها كمنصة لتلميع صورته ونشر الدعاية الموالية له، كل ذلك مع حجب وقمع أي صوت إعلامي مستقل يخرج عن السيطرة. وعلى الرغم من التلاعب المكثف الذي مارسه، إلا أن خططه لم تنجح في كسب تأييد الشعب أو الحفاظ على استقرار نظامه. وفي النهاية، اندلعت ثورة شعبية عارمة كانت في بدايتها تعبيرًا صادقًا عن الغضب الشعبي ضد سلطته، إلا أنها انتهت بالوقوع تحت سيطرة رجال الدين أو ما يُعرف بالملالي، مما أدى إلى الإطاحة بنظامه بشكل كامل. هذا المشهد يطرح تساؤلات جوهرية حول الدور الذي لعبه رجال الدين خلال الثورة الإسلامية وما بعدها. فمن ناحية، كان رجال الدين أنفسهم أحد أدوات الشاه لضمان استمرار شرعيته وفرض سيطرته، ومن ناحية أخرى، كانوا من أبرز قادة الثورة التي أطاحت به في النهاية. هذه المفارقة تعكس تعقيد العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة في إيران، وكيف يتم استخدام الدين بشكل مزدوج يمكن أن يخدم أجندات متناقضة وأهداف متباينة تبعًا للظروف وللمصلحة السياسية.
وبعد مرور سنوات مطرودين من البلاد، بدأت ترتسم تساؤلات حول مصير المملكة ومستقبل الوراثة السياسية، حيث تتوجه الأنظار إلى وريث السلطنة المحتمل رضا، الذي مثّل لأنصار الملكية وبعض اللبراليين الأمل الوحيد لاستعادة الحكم. فبعد مرور خمسة وأربعين عاماً على هذه الفترة المفصلية في التاريخ السياسي للبلاد، لا تزال عائلة الشاه السابق تعيش في ظلال الماضي، معتمدة على ثروات اكتُسبت بطرق مشبوهة وأموال نُهبت من موارد الشعب . وبرغم سقوط العرش، يواصل أفراد العائلة ما تيسر لهم من محاولات كسب الدعم لتلميع صورتهم و الإيحاء للعالم بأنهم القادرون على مليء الفراغ بعد سقوط محتمل للجمهورية الإسلامية ، مدّعين أنهم الأجدر بحكم البلاد. وهذا ما أعلنه رضا بهلوي لوسائل الاعلام في الفترة الأخيرة.
ولا يقتصر ذلك على الداخل أو مع الايرانيين، بل يعقدون آمالهم على دعم خارجي ممن تبقى من الدوائر السياسية الطامحة إلى توسيع نفوذها في العالم، مستعينين بشخصيات مثل نتنياهو وأطراف دولية أخرى لإعادة مجدٍ طواه النسيان وبات من الماضي المغمور. أثبتت الوقائع على الأرض أن الشعب هو المحرك الأساسي والقوة الحقيقية وراء التغيير، وأن أي نظام مهما بدا قوياً ومحصناً لا يمكنه الصمود طويلاً أمام عزيمة شعوب تطالب بحقوقها المشروعة وتتمسك بإرادتها في تقرير مصيرها . إن اعتماد القمع كوسيلة لإخماد الحراك الشعبي يؤدي دوماً إلى نتائج عكسية، فهو لا يزيد الأوضاع إلا اشتعالاً ويعمل على تفاقم الأزمات بدلاً من معالجتها. فالحقيقة لا يمكن طمسها أو دفنها إلى الأبد، والشعب الذي عاش المآسي وشهد الجرائم يعرف جيداً من يتحمل مسؤولية ذلك الظلم الذي وقع عليه.
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في رؤية أدونيس حول التغيير في سوريا
-
رجلنا في دمشق: دور سوريا في توظيف غرف التعذيب لصالح وكالة ال
...
-
أبارك لأبناء سوريا الجميلة الخلاص من كابوس الطغيان
-
تعبيرات جسد المرأة في ايران سياسياً وثقافياً
-
حزب الحرب الديمقراطي وفقدانه للشرعية
-
المعادلة المعقدة بين الشيوعي والشيعي
-
إمكانية إيقاف انزلاق أمريكا نحو الفاشية
-
شخص واحد، صوت واحد، دعابة واحدة... عن الديمقراطية
-
في ذكرى بازوليني
-
الفكرة اللينينية عن الامبريالية اليوم
-
المهاجرون الذين لا يمكن الاستغناء عنهم في أمريكا
-
كيف ساهمت جائزة نوبل للسلام في التغطية على الإبادة الجماعية
...
-
الشعر والالتزام في ستينيات القرن الماضي والعصر الرقمي
-
ألبرت أينشتاين لم يحصل على جائزة نوبل عن نظرية النسبية
-
لعنة الحدود
-
دور شبكات التواصل الاجتماعي في الحركات الاجتماعية والتحولات
...
-
نزعة نتنياهو العسكرية الخطيرة
-
لماذا لا نجد في عصرنا الحالي كتّابًا عباقرة مثل شكسبير، وبلز
...
-
الدين والتدين والنقد الديني
-
النمو الاقتصادي مرتبط بالسياسة الخارجية
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|