|
الفلسفة و الحياة
وليد مسكور
الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 23:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" لا يمكن للإنسان أن يستوعب روح التفلسف ما لم يدرك أن مدرسة الفيسلوف عبارة عن عيادة طبية" إبكتيتوس. منذ ظهورها في اليونان مطلع القرن السادس قبل الميلاد، أعلنت الفلسفة نفسها نمطا من التفكير التأملي، يقلب النظر في كل مسائل الوجود، متوسلة -أي الفلسفة- بذلك مبدأ اللوغوس، من جهة ما هو قانون كوني مؤسس على العقل، يسعى إلى مساءلة مختلف القضايا المتصلة بخطاب الحقيقة. فكان من بين ما تعنيه الفلسفة عند الإغريق القدامى عشق الإنسان للحكمة و ولعه بالمعرفة في ثوبها النظري، على نحو يخرج العقل من منطق الإعتياد، و يسلمه مفاتيح التحرر من ثقافة السائد. فوحده الفيلسوف قادر على خلخلة البداهات، و التورط في نقد الأحكام الجاهزة، و ذلك لأن المرء كما يؤكد ديكارت بحاجة إلى الشك في الآراء و الاحكام التي انتقلت إليه بغير طريق العقل قدر الإمكان. و تجدر الإشارة ههنا، إلى أن الفلسفة و إن كانت محض بحث جدي عن الحقيقة، فإنها لا تدعي احتكارها لهذه الحقيقة، بل هي رؤية إلى الكون بين مختلف الرؤى الأخرى. و إذ ينظر الفيلسوف إلى عمله بحسبانه نشاطا تساؤليا، يستتبع الإنسياق وراء فعل الدهشة و يوقظ فيه الحاجة إلى ممارسة الشك، نجد رب قائل بأن الفلسفة قد وقعت في فخ العدمية الإنكارية، و اية ذلك أنها تلجأ إلى تكثيف الأسئلة متى عجزت عن إيجاد الحلول الممكنة، و كأن المهمة الوحيدة التي من أجلها جاءت الفلسفة هي طرح الأسئلة. و ردنا على ذلك، أن الفلسفة هي مغامرة فكرية و مستعجلة، تدفع الفيلسوف إلى الكشف عن المعارف و إثباتها ببراهين عقلية، و في ذات الان ترغمه على وضع مسافة نقدية بينه و بين تلك المعارف التي تم تحصيلها، بغية مساءلتها و فحصها فحصا نقديا، و بيان مواطن الخلل فيها. على أن الفارق بين الفلسفة و باقي المباحث، أنها- الفلسفة- و إن قدمت جوابا عن أحد الأسئلة أو الإستشكالات، كان ذلك مناسبة لها لكي تفجر أسئلة جديدة، لكن، ماذا لو سأل سائل: ما قيمة الفلسفة في الحياة؟ على عكس ما يعتقده عامة الناس، بأن الفلسفة هي مجرد جهد عقلي يستنزف في قراءة نصوص الفلاسفة، و تحليل تصوراتهم التي غلب عليها الطابع النظري و المجرد، نجد فيلسوفا كإيمانويل كانط يؤكد بأننا نتعلم التفلسف لا الفلسفة- و إن كان فهم تاريخ الفلسفة شرطا ضروريا لاكتساب مهارات و تقنيات التفلسف- لأننا بواسطة التفلسف نتمرس على النقد، و طرح السؤال، و بفضل التفكير الناقد نؤتى القدرة على الحياة. فكما أن الروح المطلق في نظر هيجل بما هي عقل كلي، يمكنها أن تسوتعب كل التناقضات التي تحدثها التجربة الإنسانية في التاريخ، فكذلك عقل الإنسان بمقدوره أن يتصدى لكل التمزقات و الصراعات الداخلية، من غرائز و شهوات و أهواء، بحكمة فلسفية تجعل من صاحبها إنسانا فاضلا. أي أن الواقع الإنساني مهما صور شكل بشاعته و مهما صارت درجة قساوته، فإننا لسنا مضطرين إلى تغييره، بل علينا أن نلتقط منه ما نراه مناسبا لكي نعيش بشكل معقول. حينها سنعي ما أكدته الفلسفة الرواقية بأن الأشياء لا تهمنا، بقدر ما تهمنا الطريقة التي نفكر بها في الأشياء. إذ لطالما دعتنا الفلسفة إلى إعادة النظر في طرق تفكيرنا، بما يتماشى و النظرة السليمة إلى الحياة، هنا حيث يقدر التفكير النقدي على نزع الأسطرة و السحر على قوانين الوجود الإنساني(النحس و وسوء الحظ) كلما تعلق الأمر بالحب أو الثروة أو السعادة أو الألم أو الموت. إن الفلسفة بهذا الإساس، تحريض على تعلم فن الحياة، و يا له من تحريض. كيف لا و أن الحكمة الثاوية وراء الدعوة إلى فعل التفلسف، قائمة على ضرورة تأسيس وعي نقدي، نرى به الحياة بسيطة، كأن نختارلأنفسنا مسلكا يعفينا من شبح الشقاء، و يضعف الالام و يحطم الأوهام. و لا يستقيم حديث عن الحياة البسيطة في ظل عدم تصالح المرء مع قدره الخاص، و دون الكف عن مقارنة قدره بقدر أي إنسان اخر. و يحضر في سياق حديثنا عن مفهوم القدر الخاص قول فولتير: " ... لقد قلت لنفسي مئة مرة إنني سأصير سعيدا لو كنت بببلاهة جارتي، و مع ذلك فإنني لا أرغب بسعادة كتلك". نفهم من هذا القول، أن عين المرء قد تنبهر لمجرد رؤيتها مختلف نجاحات الاخرين، المادية منها و المعنوية، لكن، لا شيء أبدا يعادل قيمة النجاح الذي تحققه ذات اختارت لنفسها نمط عيش يناسب كينونتها، و يعبر بحق عن وجودها الأصيل. كما لو أن كل امرئ معني بالإنخراط في فلسفة الحياة، بما هي خبرة ذاتية يتحصل بها كل واحد منا سعادته، دون أن يكون مضطرا لاستنساخ تجارب غيره، حتى و إن كانت تجارب قيمة جديرة بالإشادة و الإقتداء. ما من شك، أن أمواج الأقدار تقودنا في الكثير من الأحيان حيثما تريد، و أن الحضارة التي ننحدر من تاريخها، ميالة في معظم الأوقات إلى تمجيد الأموات منها إلى تقدير الأحياء، أضف إلى ذلك أن ظروفا اجتماعية و سياسية و اقتصادية، قد تكون صاحبة اليد الطولى في الكثير من القرارات التي تخصنا، لكن، رغم كل ذلك، يجب على الإنسان أن يبحث عن سبل الإنعتاق، كي يحيا حياة جديرة بأن تسمى حياة. و هنا لا تكفي الرغبة وحدها إذا نحن أردنا أن نحظى بهذا الشرف، و واقع الحال أن ما من ذات إلا و هي بحاجة إلى أسلوب مناسب ينسج بخيوطها هي. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف شخص الفلاسفة علاقة الفلسفة بالحياة؟ تتطلب مسألة تحديد طبيعة العلاقة بين الفلسفة و الحياة، العودة بالضرورة إلى الأصل الإشتقاقي لكلمة فلسفة عند الإغريق philosophia، و الوقوف عند معناها الذي يفيد محبة الحكمة، فما معنى أن نكون محبين للحكمة؟ إن الحكمة في هذا المقام، لا تعادل علما، أو معرفة مجردة، أو برهانا، قدر ما هي نوع من المعرفة الأكثر خصوصية، و المتصلة بالممارسة و التمرين و التجارب الحيوية. إنما الحكمة هي معرفة كيف نحيا و كيف نعيش بشكل يحقق مبدأ الخير بالنسبة إلى كل ذات متأملة، و بهذا تغدو الفلسفة ضربا من التأمل الذي يدفع الإنسان إلى التقرب من الحياة، و يسلك أنجع السبل بلوغا للحياة السعيدة، أي أن يوجد على نحو جيد Savoir vivre،"... يتعلق الأمر بأن نفكر جيدا كي نعيش جيدا، و هذا وحده ما يعني التفلسف في الحقيقة، فالفلسفة هي ما يهيؤنا للحياة كما ذهب مونتيني..." الحكمة إذا، هي ضرب من المعرفة التي تكسبنا الوعي بقيمة و أهمية الحياة، إنها اشبه بتمرين روحي يجعلنا مقبلين على الحياة الفاضلة، و يمنحنا السلم الداخلي، و ينصرنا على الهم و الألم، و بهذا يكون التفلسف نافدة مطلة على الحياة المبهجة، أو لنقل تلك الحياة التي فكرنا فيها على نحو مبهج. و لعله لذات السبب تساءل أوندري كونت سبونفيل، عن ماهية الحكمة، فماذا عساها تكون هذه الحكمة، إن لم تكن أساسا يعكس قمة السعادة في قمة الوضوح، إنها الحياة الجميلة، على حد تعبير الإغريق، لكنها حياة إنسانية بمعنى اخر، مسؤولة و فاضلة، فليس الحكيم محبا للحياة لأنه أكثر سعادة منا، بل هو أكثر سعادة، لأنه محب للحياة . وخير ما نستدل به على هذا الأمر عند المحدثين، حديث رونيه ديكارت عن منفعة الفلسفة في معرض تأكيده أن الحكمة الفلسفية وحدها ما يمنح أمة امتياز التحضر، و تميزها عن باقي الأجناس المتوشحة و الهمجية. إن التفلسف عند ديكارت ممارسة عقلية، تنظم أخلاقنا، و توجه سلوكنا في الحياة . و إذا تصفحنا المتن النيتشوي، فسنجد بأن الفلسفة بحسب اعتقاد صاحب الجينيالوجيا، لا تعدو كونها إقبالا حرا و إراديا على الحياة، فبفضلها يمكن للذات مقاومة غرائز الإنحطاط، و مختلف المتهات العدمية، التي تزرع في الإنسان هاجس النفور من الحياة و الشعور بالتشاؤم، بالمقابل لا بد و أن نجيد التعامل مع الحياة بما هي غريزة(إرادة قوة لا شهوة) .
#وليد_مسكور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم العدالة عند برلمان في كتاب: « Ethique et Droit » إنجاز
...
-
ابن رشد والسياسة: قراءة في كتاب الضروري في السياسة لصاحبه اب
...
-
من الفلسفة الدينية إلى فلسفة الدين
المزيد.....
-
واشنطن: توجيه اتهامات لإيرانيين فيما يتعلق بمقتل 3 جنود أمري
...
-
مباشر: الجولاني يعد بحل الفصائل المسلحة وضم مقاتليها إلى الج
...
-
اليمن: الجيش الأمريكي يستهدف منشأة قيادة للحوثيين في صنعاء
-
8 شهداء في غارة إسرائيلية جديدة على مدينة غزة
-
-قسد-: جاهزون لإبقاء الطريق إلى ضريح سليمان شاه مفتوحا
-
نيبينزيا: روسيا لن تقبل أي تجميد للنزاع في أوكرانيا
-
سويسرا تشدد شروط تصدير الأسلحة لضمان عدم توريدها إلى أوكراني
...
-
إيران تنفي انخفاض صادراتها من النفط الخام
-
السوداني يدعو الدول الأوروبية للعب دور إيجابي لمساعدة السوري
...
-
وزير الخارجية السويسري يؤكد التحضير لمؤتمر ثان حول أوكرانيا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|