أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فرحات - صعود














المزيد.....

صعود


محمد فرحات

الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 22:51
المحور: الادب والفن
    


...يمرّ بجانب فرشة الجرائد، لا يلتفت، فالجرائد الآن لم تعد تشبه جرائد أبيه، ولم تعد العناوين تحمل عبق الزمن الذي كان. يتأمل الفرشة من بعيد، كأنها مشهد من الماضي عالق في الزمن، يراه بوضوح لكنه لا يستطيع لمسه. يسير متثاقلاً، يحمل على كتفيه ما هو أكثر من سنوات العمر، يحمل غياب الأحبة، وسنوات الوحدة، وأياماً طويلة تكررت بلا تغيير.

عندما يصل إلى باب المنزل القديم، تتوقف قدماه للحظة. يمد يده المرتعشة نحو البوابة الخضراء التي بدأت تفقد لونها، ويضغط عليها ببطء. يفتح الباب، ويستقبله الصمت، ذلك الصمت الذي اعتاد عليه منذ سنوات طويلة. يدخل البيت، ينظر حوله، فلا يرى سوى أثاث غطاه الغبار، وصور قديمة تملأ الجدران، بعضها بدأ يفقد ألوانه، لكنه لا يزال يحتفظ بأصوات الضحكات التي كانت يوماً تسكن هذا المكان.

يجلس على كرسي أبيه الهزاز، يتحرك ببطء للأمام والخلف، بينما تسرح عيناه نحو السقف، وكأنهما تبحثان عن شيء ضاع في زحمة الأيام. فجأة، يسمع صدى صوت أبيه في ذاكرته، ذلك الصوت الجهوري الممزوج بالضحك: "بكره محدش يباريه في الرغي زيك انت وهو...". يبتسم الكهل الأشقر الأشيب، ثم تنهمر دمعة بطيئة.

ينظر نحو المطبخ، يتخيل أمه هناك، تناديه لتناول الغداء. يتذكر رائحة الملوخية الخضراء، أطباق المحشي، والبخار الذي كان يغلف الطبلية الخشبية. لكنه يعلم أن كل هذا لم يعد إلا في مخيلته. ينهض من كرسيه، يتجه نحو النافذة، ينظر إلى السماء التي بدأت تتلون بحمرة الغروب.

كان الطفل الكهل الأشقر الأشيب يجلس على كرسيه الهزاز، عيناه مثبتتان على السقف، بينما تتراقص الذكريات أمامه كأنها شريط قديم. صوت الأذان يتردد في أرجاء الحي، لكن قلبه كان يزداد خفقانًا، وكأن شيئًا غير مرئي يناديه.

أغمض عينيه، وجد نفسه في حلم مختلف. كان يقف على ربوة جامع سيدي شبل، لكن هذه المرة لم يكن وحيدًا. رأى والده، بوجهه الباسم وصوته الجهوري، يرتدي جلبابه الأبيض، ينتظره عند مدخل المسجد. كان المشهد مشرقًا على نحو غريب، الضوء يلف المكان، والنسيم يحمل عبيرًا عتيقًا.

تقدّم نحوه والده بخطوات ثابتة ومدّ يده إليه قائلاً:
"تعال يا بني، تأخرتَ كثيرًا، والجميع ينتظرك."

في تلك اللحظة، شعر الطفل الكهل بخفة لم يعهدها من قبل. لم يعد أشيب الشعر، ولا محني القامة، بل عاد طفلًا طويلًا أشقر، يمسك بيد والده كما كان يفعل في صباه. نظر إلى نفسه بدهشة، ثم ابتسم كأنما أدرك أن كل شيء قد اكتمل.

بدأا السير معًا، يتبادلان الحديث والضحكات. عبر الأب عن شوقه لتلك الأيام القديمة، وتحدّث الابن لأول مرة دون تلعثم أو صمت. سارا معًا نحو المسجد، وكانت أبوابه مفتوحة على مصراعيها، يخرج منها نور لا يمكن وصفه.

قبل أن يدخلا، استدار الطفل الكهل نحو الحي بنظرة أخيرة، رأى منزله القديم، الطبلية، الجرائد، وحتى كرسيه الهزاز. كان كل شيء ساكنًا، لكنه بدا مطمئنًا. ابتسم، ثم أمسك بيد أبيه بإحكام، وعبر العتبة.

حين أشرقت شمس الصباح، كان الكهل الأشقر الأشيب لا يزال جالسًا على كرسيه الهزاز. عيناه مغمضتان، وملامحه هادئة كأنه أخيرًا وجد السلام الذي بحث عنه طويلًا.



#محمد_فرحات (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حلم
- -اسمي نجيب سرور--٤
- اسمي نجيب سرور -1-
- -نعي الأحلام المجهضة-
- -أولاد حارتنا- المبادرة والانتظار .
- عبد القاهر الجرجاني يُنظِرُ لقصيدة النثر.-سأعيد طروادة ثم أح ...
- -بالضبط يشبه الصورة- ومُحدِدات الجنس الكتابي
- نون نسوة مناضلة -بيضاء عاجية، سوداء أبنوسية.-.
- ماتريوشكا
- أحاديث الجنِ والسُطَلِ، المجدُ للحكايات.
- نجيب محفوظ -نبيًّا-.
- تحدي قصيدة النثر ؛ديوان-ابن الوقت- نموذجًا.
- حائزة -عبد الفتاح صبري- في نسختها الأولى.
- أخيرا العثور على المسرحية المفقودة لنجيب سرور-البيرق الأبيض- ...
- الروائي شادي لويس وصفعة لوجه الرأسمالية القبيح.
- مخطوطات نجيب سرور
- القصة الشاعرة. - قراءة لفصل من كتاب ألعاب اللغة للدكتور محمد ...
- د. محمد فكري الجزار شمولية النص القرآني وسيميوطيقا النهايات.
- ألعاب اللغة-5-، ما بين الشعري والتدوالي.
- ألعاب اللغة-4- نقد جاكبسون.


المزيد.....




- موكب الخيول والموسيقى يزيّن شوارع دكا في عيد الفطر
- بعد وفاة الفنانة إيناس النجار.. ماذا نعرف عن تسمم الدم؟
- الفنان السوري جمال سليمان يحكي عن نفسه وعن -شركاء الأيام الص ...
- بالفيديو.. لحظة وفاة مغني تركي شهير على المسرح
- كيف تحولت السينما في طرابلس من صالونات سياسية إلى عروض إباحي ...
- بالفيديو.. سقوط مطرب تركي شهير على المسرح ووفاته
- -التوصيف وسلطة اللغة- ـ نقاش في منتدى DW حول تغطية حرب غزة
- قدمت آخر أدوارها في رمضان.. وفاة الممثلة التونسية إيناس النج ...
- وفاة الممثلة التونسية إيناس النجار إثر مضاعفات انفجار المرار ...
- فيلم -وولف مان-.. الذئاب تبكي أحيانا


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فرحات - صعود