|
ألترسيمات والإيقاعات البصرية للبياض والسواد في قصائد جواد الشلال
ليث الصندوق
الحوار المتمدن-العدد: 8187 - 2024 / 12 / 10 - 16:11
المحور:
الادب والفن
من غرائب الكتابة عن ظاهرتي البياض والسواد في شعر شاعر ما هو أن تتماهى مدونات سيرتيه الحياتية والإبداعية مع اللون الأول ، بينما تتماهى مدونات منجزه الإبداعي مع اللون الثاني . وهذا التباين اللوني ما بين الأبيض المجهول ، والأسود الكثيف والمعلوم يكاد أن يكون المظهر الغريب من سيرتي الشاعر جواد الشلال وكذلك من منجزه ، فقد بحثت في ملفات الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الإجتماعي عن ومضة ولو خاطفة أو باهتة للتعريف به إنساناً أو شاعراً فلم أفلح ، وكأن الشاعر قد تعمّد غمر السيرتين بطبقة كثيفة من بياض الإبهام . وفي المقابل فأن صفحات منجزه الإبداعي على فضاءات ومواقع التواصل الإجتماعي مغمورة بطبقات كثيفة من النصوص بما يسمح لي أن أستعير لها توصيف السواد . وقريباً من تلك المقاربة اللونية الإستعارية بنصفيها السيري الخارجي ، والإبداعي الداخلي فقد لفت انتباهي انغمار الشاعر بلعبة الإيقاعات البصرية للونين إنغماراً كفل له أن يجمع ما بين صفتي الشاعر والرسام ، بالرغم من أنه على خلاف الرسامين يستعين على الصفتين بذات المواد ، أي الكلمات ، وبذات الأداة ، أي الكتابة ، مع انزياح جمالي طفيف تتحول لديه الكتابة والكلمات من نصوص إلى لوحات تشكيلية ، وذلك بتطويعه اللعب على الورقة بالبياض ، وهو الفراغ الكتابي أو الطباعي ، وبالسواد الذي يرى البعض أنه الكتابة بحروف غامقة ، ومنمازة عن سواها . بينما نراه هنا الإمتلاء الكتابي بسد الفراغات والفجوات بجمل طويلة ، أو متصلة ببعضها تملأ فضاء الورقة . وأن كان البعض قد ارتأى في البياض مقابلاً للصمت ، ألا أننا نرى أن ثمة فارق ما بين المفهومين ، فأن كان الصمت هو اللاشيء ، أو العدم ، فأن البياض هو الصمت الدال ، أو هو الشيء الموجود ، ولكنه محتجب وراء ستارة الفراغ التي تحول دون رؤيته ، والدليل على وجوده هو في علاقات المجاورة بما قبله وما بعده والتي تُخفي في طياتها آثار ذلك البياض ودلالاته. وبذلك فأن الفراغ الكتابي هو وجود محتجب من دوال غير لسانية ، وأن موقعه المختار بقصدية وعناية ضمن النص يضمن له القدرة على التأثير وإنتاج التأويلات ، فهو إذن لم يعد مجرّد دال على الصمت بقدر ما أصبح لصمت البياض معنى تكتبه أبجدية الفراغ . وفي المقابل صار الإمتلاء الكتابي يفترض المعنى في تكدس الدوال وتعاقبها ، وبذلك لم يعد السواد دالاً فقط على الضجيج الصامت ، بقدر ما أصبح لسواد الضجيج معنى تكتبه أبجدية الإمتلاء . وبمعنى آخر أصبح البياض والسواد موجّهات إيحائية تشير إلى داخل النص للبحث فيه عن الحمولات المتوارية . أن التواشج الهندسي للحروف الطباعية مع التشكيلات اللونية للبياض والسواد في مفهوم الحداثة الشعرية قد أخرج القصائد من سجنها التقليدي كونها مجرّد نصوص مكتوبة للعين فقط ، لتصبح لوحات تشكيلية معدّة للتأمل أيضاً ، كما أزال حاجز التعالي التاريخي ما بين الشاعر والقاريء عندما سمح للثاني بالمشاركة في كتابة القصائد من خلال تعديل اتجاهاتها القصدية وترك بصمة التأويل عليها . وليس من التندّر القول بأن كل تلك القفزات الجمالية الثورية لم تكن لتُنجز لولا انتقال الشعر من مرحلة الإلقاء إلى مرحلة الكتابة ، ذلك الإنتقال الذي مهد للنص الشعري التحول من صيغته الأولى كونه مجرّد صوت يُتلى للأذن إلى صورة تُستقبل بالعين ، وبالنتيجة ساهم هذا الإنتقال في تطويع النص ليكون قابلاً للعرض ، كما هو معدّ أصلاً للقراءة . وما هذه القراءة إلا محاولة لاستنطاق جانب من ذلك التحول من خلال الانزياحات الفضائية للبياض والسواد ودلالاتها داخل بعض نصوص جواد الشلال على موقع التواصل الإجتماعي أل Facebook . إحدى آليات رسم البياض الأثيرة لدى جواد الشلال هي آلية القطع ، حيث يُفتت الجمل المتكاملة إلى نثار يخلّف فضاءات بيض ، كما في المقطع التالي ألذي يتوفر على أربعة قطوعات خلفت خمسة فراغات بيض : ( ألقاكِ يا ابنة الحب الجليل المتقد على نار الحرب ) ألقطع الأول : يعقب جملة الإستهلال الفعلية المتكاملة نحوياً ، إلا أنها افتقرت إلى توصيف أكثر تفصيلاً لضمير المخاطب الأنثى . وبالرغم من اكتفاء الحاجة النحوية بالضميرين الفاعل والمفعول به ، إلا أن مقاصد الشاعر التي لم تتضح عند هذا القطع تتعدى نحويتها إلى تفصيل يستجيب لمضمون الرسالة التي يريد إبلاغها لمحبوبته . وفي غياب ملامح المحبوبة يبقى البياض مهيئاً لاستقبال تأويلات مرجأة للسطر التالي . ألقطع الثاني : تمثل في فصل الموصوف ( السطر الثاني ) عن صفته ( السطر الثالث ) فأنتج هذا القطع بياضاً مؤقتاً ، تأجّلَ ملؤه إلى السطر الثالث المكون من مفردة الصفة ( الجليل ) وهي الأولى ، وستعقبها الصفة الأخرى في السطر التالي . كما أن تأجيل ملء البياض في مستوى هذا القطع لما بعده وضع القاريء أمام تساؤلات عن أسباب فصل الصفة عن موصوفها داخل الجملة الواحدة ، وقد تبيّن أن القصد من ذلك هو التمهيد للصدمة الناجمة عن العلاقة القلقة ما بين المتباعدين ( ألحب والحرب ) . ألقطع الثالث : أستُهلّت ألجملة التي أعقبت الصفة الأولى لمفردة الحب بالصفة الثانية لها ، أي ( المتّقد ) ، ولكن هذا الإستهلال لم يكد يتصل بشبه الجملة ( على نار ) حتى انقطع تاركاً فضاء بياض رابع من دون الإجابة عن طبيعة العلاقة بين ما رشح من دلالات الأسطر السابقة ، تاركاً للقطع التالي وما يليه إضاءة الإحتمالات التأويلية الممكنة . ألقطع الرابع : هو القطع الفاصل ما بين القرينين ( النار ) و ( الحرب ) والذي يُفترض أن تُختم به سلسلة البياض ، بيد أنه ترك بقعة بياض خامسة لا يمكن تأويل ملئِها إلا بما تُخلفه الحروب من قطع للتواصل ما بين ضمير المتكلم في فعل الإستهلال ( ألقاكِ ) ، وما بين المخاطبة التي أوجب عليها قهر الحروب الصمتَ المطبق لتعقب هذا القطع في السطر الأخير مفردة الختام ، وكل ختام ( الحرب ) . والآن : - أليس من المعقول أن نبحث في البياض الذي خلفته مفردات ( الحب + الجليل + نار + الحرب ) عن علاقات التشابك والتفاصل ما بينها وأثر تلك العلاقات على العلاقة ما بين المتكلم والمخاطبة ؟ - أليس الحب قرين النار ؟ - أليس الحب نقيض الحرب ؟ - أليس ( جلال الحب ) في عبارة ( الحب الجليل ) نقيض ( همجية الحرب ) التي تحيل إليها عبارة ( المتقد على نار الحرب ) ؟ - أليس الفاصل ما بين جملة الإستهلال ( ألقاكِ ) وبين ( أبنة الحب ) أقرب ، بما يوحي للإمكان ، من الفاصل ما بين جملة الإستهلال ( ألقاكِ ) وبين مفردة ( الحرب ) بما يوحي للاستحالة ؟ - أليست الفضاءات الأربعة التي سبقت مفردة الختام ( الحرب ) هي تمظهرات بصرية للدلالات النوعية التي يحفل بها قاموسي الحب والحرب . - وأخيراً ، وليس آخراً ، ألم يُساهم هذا النمط من الإيقاع البصري في تحفيز العين على نقل صورة البياض إلى المخيلة لتترجمها إلى معان ودلالات محتملة ؟ في مقابل تساؤلات البياض تلك يتولد التساؤل النقيض ، تساؤل السواد الذي يدفع إليه ضمّ أشتات الصورة الواحدة في جملة واحدة طويلة ، أو ضم الصور العديدة في أسطر متراصة من السواد التعبيري المكثف ، والحالتان تدفعان القراءة للبحث عن مسوغات ذلك السواد ، وواحدة من مسوغات ذلك السواد أو الإمتلاء الكتابي سنجدها في الإمتلاء الدلالي الذي تمثله السلسلة المتراصة من الجموع ، كما في المقتطعات التالية : (أنا الشعب الممتليء بالعطش وأخبار الملائكة الصالحين وتقنيات الطائرات صغيرة الحجم جداً ) أو : ( أزداد عدد منشدي المراثي ، واختفت كؤوس النبيذ ، تغيرت الأصوات وتشابكت الألحان ، والموت متعدد الأطراف ) أو : ( نعم وأنت تطحنين وحدتك وتصبغين قلبك بالحناء ، وتقرأين أناشيد على عظامك المسكونة بتحية الوجع .. لا بأس بكل هذا الحزن الرحيم وأنت تشرين ثيابك المملوءة ببقايا حزن الأمس ) هذا ، وتدعم صيغ الجموع تلك ما تضفيه الجمل التالية من هيمنة صيغ الإمتلاء والكلية والعددية والتشابك على النصوص لتسدّ فراغاتها بسواد دلالي يتماهى مع سوادها الكتابي أو الطباعي : - ألشعب الممتليء بالعطش : دلالة السواد = الإمتلاء - أزدياد عدد منشدي المراثي : دلالة السواد = ألزيادة + العدد - أشتباك اللحان : دلالة السواد = التشابك - ألموت متعدد الأطراف : دلالة السواد = العدد - كل هذا الحزن الرحيم : دلالة السواد = الكلية - ألثياب المملوءة ببقايا حزن الأمس : دلالة السواد = الإمتلاء وكما أوجد الشاعر مساحة البياض بتقطيع الجمل المكتملة ، فقد عمد في قصيدة ( ألملم بقايا الورد وأنتظر زخة مطر ) لذات الآلية ليوسّع حجم البياض الذي أوشك أن يلتهم مقاطعها الثلاثة ممهداً لأسئلة بيض مفتوحة على إجابات بيض أيضاً ، وتتمحور تلك الأسئلة في الغالب ، والتي يُنهي بها القصيدة في مقطعها الثالث حول دلالة الإنتظار ، وعدا ذلك فكل ما تراءى في المقطعين الأول والثاني على أنها تساؤلات فليست سوى وهم نحوي كما سنبين ذلك في : ألمقطع الأول : يضع الشاعر معاناة الأطفال الجادون في انتظارهم للخبز والحرب معاً ، في مقابلة مع تحسّر الكبار على ما آلت إليه مصائر الأطفال وما يقاسونه جراء انتظاراتهم ، لأن مهمة الكبار كما يرى هي التحسّر ، ولذلك يُراكم الشاعر عبء انتظارات الفريقين فيجده عبئاً ثقيلاً ، أو بحسب الإنزياح التوصيفي الذي يرتأي الشاعر أنه أقرب إلى مخيلته المنفلته من المحددات التوصيفية المنطقية ، فهو عبءٌ سميكٌ . أو بالأحرى أنه يرى ( الإنتظار ) سميكاً ، واصفاً المجرّد بالملموس : - كم سَميك كلّ هذا الإنتظار وما بين الطبيعتين المفارقتين يظل الإخبار عن سمك الإنتظار غائباً ، أو متسماً بالبياض ، ولكنّ غيابه لا يعني انعدامه ، ذلك لآن السطور الأولى من هذا المقطع ربما تعين في البحث عن مخرج للمعنى الغائب أو المتواري من خلال جدية مادتي الحياة والموت ، وهما ( الحليب والحرب ) : ( ألأطفال لا يعبثون أنهم ينتظرون الخبز والحرب لا أحد يسقيهم الحقيقة مع الحليب ) ربما يُسوّغ المنطق السليم ( ألمنطق اللاشعري ) أو منطق الجمل السود المكتملة إنتظار الحياة عبر مادتها / الحليب ، ولكن انتظار الحد المفارق / الموت يوجب اللجوء إلى منطق الجمل البيض المقطّعة ، والتي يُلزم تقطيعها على القاريء تفعيل قدراته التأويلية من أجل إكمالها افتراضياً على الأقل . ولكن البياض دلالياً لم يتأتَ فحسب من فحوى الإخبار الذي أوهم القاريء بأنه نمط من الإستفهام ، ذلك لأننا لا نستطيع افتراض الإجابة عددياً عن ( السُمك ) في المقطع الأول ( كم سميكٍ كلّ هذا الإنتظار ) ، ولا عن ( الصعوبة ) كما في المقطع الثاني ( كم صعبٍ تكرار الإنتظار ) هذا من حيث المنطق على الأقل والذي من حق الشاعر تغييبه أو إنكاره ، فللشاعر منطقه الخاص ، لكننا في كل الأحوال نفترض أن الإجابة بالأسم ( كم ) الإستفهامية توجب نصب الإسم بعدها ، وهذا ما لم يتوفر في الجملتين . ولعل الشاعر أيضاً قد وقع تحت طائلة هذا الوهم عندما ختك الجملة الأولى ، جملة ( السُمك ) بعلامة الإستفهام ، بينما أدرك ذلك في الجملة الثانية ، جملة ( الصعوبة ) فحذف علامة الإستفهام ، واستعاض عنها بسلسلة ثلاثية من النقاط . أقول أن دلالة البياض لم تاتِ من فحواه الإخباري فحسب ، بل من النتائج الصفرية البيض لذلك الإخبار عن ثقل أو سُمك انتظار الحليب والموت معاً ، ذلك الإنتظار الذي عانى الأطفال مرارته ، تضاف إليه ثمة علامة بيضاء صفرية أخرى تمثلها الحقيقة الغائبة التي لا يبسطها أحد للإطفال عن مآل انتظارهم : ( لا أحد يسقيهم الحقيقة مع الحليب ) أما الكبار فهم لا يبحثون عن حل لإنهاء حالة الإنتظار ، أو بالأحرى أنهم لا يبحثون عن حل لهذا البياض الدلالي ، لأنهم يكتفون بمعالجة وقع مرارته ( أو سُمكه ) عليهم بالحسرات والدموع : ( فمهمة الكبار ألحسرات وذرف الدموع ) ألمقطع الثاني : يحضر قلق الإنتظار مجدداً ، ولكن بصيغتين ، الأولى صيغة النفي : ( لا أجيد الإنتظار ) لكن نفي الإجادة أو تبييض أثرها الدلالي يدفع الشاعر إلى توسيع أثر البياض في تركيب جملتها شكلياً أو تقطيعها ، وفي المقابل تأتي حالة ( عدم الإجادة ) مقرونة بعكسها ، أو بإثبات الإجادة في حفظ الأسرار ، أو تسويد الأثر الدلالي لتلك الإجادة بتعمد الشاعر توسيع أثر السواد في تركيبها شكلياً ، أو عدم تقطيعها ( أجيد الأسرار حتى تتجمّد ) . ومع ذلك فالشاعر يبدو وكأنه يخترق أعماق المفردتين ( الإنتظار ) و ( الأسرار ) فيرى فيهما ما لا يراه القاموس عندما يضعهما معاً على مستوى واحد من المقايسة الضدية : ( أنا عادة أجيد الأسرار حتى تتجمّد لا أجيد الإنتظار ) أما الصيغة الثانية ، فهي صيغة موافقة للصيفة السابقة في المقطع الأول ، أي صيغة الإخبار : ( كم صعب تكاثر الإنتظار ) ومن الملاحظ أن الإخبار هنا موافق للإخبار في المقطع الأول من حيث توصيف المجرّد بالمزيد من جهة ، ومن جهة أخرى فأن الصيغتين تُكمل وتدعم بعضهما معنوياً ، فلولا ( السُمك ) في الأولى لما ( صعُب التكاثر ) في الثانية . ألمقطع الثالث : تكتمل في هذا المقطع هندسة الفراغات البيض مع حضور الدلالات المفرغة للأسئلة المفتوحة على البياض ، وهي الأسئلة الموجهة إلى الآخر غير الواعي ، ألأرضي ( الأشجار ) ، والسماوي ( المطر ) بعد أن أضفى على الأول وعي الإنتظار : ( أسأل الأشجار ماذا تنتظر ؟ ) وأضفى على الثاني وعي الإرادة : ( ألمطر ماذا يريد ؟ ) وكذلك السؤال الموجه للذات الواعية المتكلمة ( ألأنا ) ، وهو سؤال الإنتظار ذاته الذي سبق أن وجهه المتكلم لقرينه في الموقع ( الأشجار ) وكأن الإنتظار هو ضالة المخلوقات الأرضية : ( أنا ماذا أنتظر ؟ ) ومع مراوحة الأسئلة الموجهة لكل طرف من الثلاثة ما بين الإنتظار والإرادة ، تظل إجاباتهم عنها مقيدة في حدود الصمت الدال ، أو البياض ؟ وفي مقابل هذا البياض يهيمن سواد شبه مكثف على كثير من القصائد ، ولنختر منها قصيدة ( رأيت نبيذاً معتقاً يُشبه أصابعكِ ) ، حيث تتشكل المقاطع من حزمة من الصور ، تتمثل كل حزمة في عتبة تُمهّد السابقة منها للاحقة ، ثم تُختتم بالصورة الحسم التي تُغلق بها الحزمة الصورية ، مع ملاحظة أن جُمل العتبات والجُمل الحسم هي جميعها من الجمل الفعلية ، بغض النظر عن طبيعة الأفعال . يستهل ضمير الغائب المؤنث ألسطر الأول من المقطع الأول من القصيدة ، مكتفياً بأثره هذا ( لم تكن تهذي ) ، إذ يغيب بعد هذا الإستهلال ولا يترك له أثراً ضمن هذا المقطع ، والأثر الوحيد المهيمن بعد الإفتتاحية على هذا المقطع هو لضمير المتكلم ، لكن ضمير الغائب المؤنث سرعان ما يستبدل موقعه النحوي فيتحول إلى ضمير المخاطب المؤنث تاركاً أثراً طفيفاً كما هو أثر الأنثى في المطع الأول ، أثراً لا يتعدى جملة ( لم أعترف لك ) ، والأثر الأوسع منه قليلاً في المقطع الرابع : ( لكني لم أعتد أن أقول لك : أن وجهك نبيذ فرنسي وبعض من ثمار الجنة الطرية ) وعدا ذلك فهذا الضمير يحضر بكامل سلطته التأثيرية في ثريا العنونة ليضيء له أثراً مغيباً في كامل القصيدة ، ويوحي بهيمنته عليها ، وعلى ضمير المتكلم أيضاً . وبتجاوز الإفتتاحية من المقطع الأول تتوالى الجمل العتبات ، وكالتالي : 1 - كانت أصوات أزيز رصاصات غاضبة 2 - ورسائل مملوءة بالشتائم 3 - وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف ( مع ملاحظة أن الجملتين الإسميتين الثانية والثالثة معطوفتان على الأولى الفعلية مما يُخضعهما لتاثيراتها الفعلية ) 4 – أضحك قليلاً لأعي نصف الحياة 5 – أسمع نصف أغنية 6 – وارمي نصف الكأس المملوءة ولكن أين جملة الحسم ضمن هذا المقطع الذي شغلته بالكامل جمل العتبات الست والتي يُفترض أن تُختم بها سلسلة العتبات . أن افتراض الختام الموقعي لجملة الحسم قد اختل في هذا المقطع وازاح موقع جملة الحسم الفعلية من نهاية المقطع ليدغمها مع العتبة الرابعة مقرناً فعلها بلام التعليل ، أي أنها جملة ( لأعي نصف الحياة ) التي أزيحت موقعياً فحسب ، بينما بقى ثقلها الدلالي مؤثراً على كل العتبات الست . مع المقطع الثاني تتوالى العتبات الفعلية كالتالي : 1 – اعتلي قمة السلم 2 – أتلو خطاباً مدججاً بالشتائم الخفيفة 3 – ألوّح بيدي لمن يُخالفني أما الجملة الحسم فهي - ألجمهور كان خفيف الظل ( مع ملاحظة أن ابتداء الجملة بمفردة أسمية ( الجمهور ) يعقبها مباشرة الفعل الناسخ الناقص ( كان ) لا يلغي فعليتها إذ أنه من اليسير قراءة الجملة التالية المبدوءة بذات الفعل على أنها معطوفة عليها : - كان يريد مني أن أبدأ بشتائم ثقيلة حتى يتسنى لهم الضحك بإفراط . ولكن ما الدلالة المعنوية لانحسار البياض نسبياً عن القصيدة وإحلال السواد بدله ؟ ربما تكون الدلالة في حالات الإمتلاء المعبّر عنها بجموع المفردات ( أصوات / رصاصات / حروق / شتائم / جمهور / سلالم / ألبيوت / ثمار ) . وهذا النمط الدلالي للسواد سبق أن أتينا على نظيره ، لكن ما يميزه عنه في هذا النص هو في المحددات المتراوحة ما بين الزيادة والنقص دون أن تبلغ العدم : - فالحروق ليست من الدرجات الطفيفة الأولى ، بل هي من الثالثة ( وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف ) - والضحك خضع للمقايسة فهو لم يُعدم تماماً ، ولم يُكثر بإفراط ، بل هو في حدود القلة ( أضحك قليلاً ) - والأمر كذلك بالنسبة لوعي الحياة فهو لم يُعدم تماماً ، كما أنه لم يكن في أقصى مستوياته ، بل اقتُصر على النصف ( لأعي نصف الحياة ) . - والأمر كذلك لنصف الأغنية ( أسمع نصف أغنية ) . - وللكأس التي خضعت هي ذاتها لمقياس الإمتلاء ، بينما أفرغت محتوياتها إلى النصف ( أرمي نصف الكأس المملوءة ) . - وللجمهور ( ألجمهور كان خفيف الظل ) فهو لم يجعله بليداً ثقيل الظل ، كما أنه لم يحرمه من ظله تماماً كما فعل الروائي فتحي غانم مع أحد أبطال روايته ( الرجل الذي فقد ظله ) ، بل جعله خفيفاً ، والخفة منطقة تتوسط ما بين العدم والثقل . - والأمر كذلك للشتائم المتراوحة ما بين الخفة والثقل ، فهو حيناً يتلو ( شتائم خفيفة ) أما الجمهور فكان يريد منه ( أن يبدأ بشتائم ثقيلة ) كل ذلك من أجل ( الضحك بإفراط ) . - والشيب بدوره لم يتحرر من الحساب ( بضع شيبات ) - وكذلك الأمر للحزن ( حزنت كثيراً ) - واعتلاء السلم إلى قمتها ( أعتلي قمة السلّم ) - والجمهور لم يتكلم كل واحد منهم بصوته منفرداً ، بل ( قالوا بصوت جماعي ) - أما وجه الحبيبة المفرد فقد جاء تشبيهه بصيغة الجمع ، فهو ( بعض من ثمار الجنة الطرية ) أن تفعيل هندسة اللونين في تشكيل الرسمة الخارجية للنص الشعري ليس مجرّد لعب شكلي عابث بقدر ما هو محاولة للتوفيق ما بين طرفي الصورة الشعرية الداخلي / الدلالة ، والخارجي / الشكل ، أو من أجل تمكين الدلالة من التوسع خارجياً ، وفي الحالين تتحكم مخيلة جامحة في موازين التوفيق ، مخيلة سريالية غير مستقرة تهشّم الواقع لتبني من حطامه عالماً أخر ليس له قرين إلا في مخططات الأحلام والكوابيس : ( كان لي حديث ممتع مع عصفور حكيم قال : العمر زمن سريع ) أو : ( بعد مفاوضات طويلة نجحت باستدانة نهر ، أدخلته غرفتي كنت أرغب برفع الملوحة من أقدامي ، لكني لم أجده عند الصباح كتب لي رسالة وهرب : سأعود عندما أجد من يسحب الملوحة من رأسي ) أو : ( حائر لازلت أعاني من صعوبة فضّ النزاع بين غيمتين )
#ليث_الصندوق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألأسئلة المتفجّرة
-
أنا عميل سرّي
-
في التشابه والاختلاف
-
ألفلسطينيون
-
غيابُكِ أطفأ الشمس
-
كلمة حق
-
ألأرض الغاضبة
-
روما جبانة
-
حسرة أخيرة
-
سِرُّ أبي
-
أضواء على أدب ال facebook ألمفقود والموجود من المهيمنة الفرد
...
-
لماذا أيها الوطن ؟
-
قصائد مشاكسة
-
كريم جخيور ومماحكة اليقينيات المتعالية
-
ألثنائيات الضدية في شعر يحيى السماوي
-
تحايا المدن
-
أغنية فكتور جارا الأبدية
-
من تمدد القصيدة خارج جسد اللغة .. إلى انكماشها داخل جسدها
-
هيمنة الغياب وتعدد أشكاله ومظاهره في ( رجل يهزّ الشجرة ويبتس
...
-
ملامح المثلث البنائي في سهول وتضاريس ( جواد غلوم ) الشعرية
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|