|
قصة قصيرة : تَبَاريحُ الخُضَرِيّ
ادريس الواغيش
الحوار المتمدن-العدد: 8185 - 2024 / 12 / 8 - 22:01
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة : تَبَاريحُ الخُضَرِيّ قلم: إدريس الواغيش
أنشودة بيضاء، يُردّدها “لافُوكَا“ كلّ إشراقة صباح، ينادي على أثمان سلعته بصوته الجهوري: “وَااا..المليح“. يتلقّفها المُشترون موسيقى تمجّدُ للرّخاء. رجلٌ يجاور الستّين من عمره، هويته في صمته، تراه شاردًا في وقفته، وتشعرُ أنّ في أعماق الرجل وجع دفين. صمته وشروده يخيفاني، حين أقف إلى جانبه وأدقّق في ملامحه. حالة نفسية غريبة، حين ينتهي من سُعاله، أشعر كأنّ هواء ساخنا مكتومًا يخرج من أعماق جوفه. “لافوكا“ هي كُنية الرجل، وبها يُناديه الناس. يعيش حياته بعفوية عجيبة، يعيشها كما يريدُها هو، لا كما يريدُها له الآخرون. بحثت ما يكفي وفشلت، لم أعرف كيف أهتدي إلى اسمه الحقيقي. وأجد دائمًا ما اختاره الناس له من كُنية كافيا، وأصبحت أناديه "لافوكا" مثلهم. لا أنكر أنّني كنت في البداية أخاف من ردة فعل غير متوقعة منه، ولكنّني حين عرفت كم هو مُسالم، استأنست إلى طبعه وطبيعته. هجرة "لافوكا" من قريته بالبادية إلى فاس، لم يكن فعلا اختياريا، سنوات الجفاف الحادّ في البادية ألزمته على ذلك، واختار مثل كل الوافدين الجُدُد على فاس أن يمتهن بيع الخضر. مهنة انحاز لها كل المهاجرين من البوادي المجاورة للمدينة، لأنها لا تتطلب رأسمالا كبيرًا، ولا رصيدًا ضخمًا في البنك. صوتٌ وتعب، ثم أشياء تأتي بالتدريج لاحقا، ومُعاملات أخرى يتعوّد عليها مع مرور الوقت. لا تجد الفواكه في دكان "لافوكا" الصغير إلا نادرًا، في الشتاء ينكمش وسط دكانه بالزّاوية، وفي الصيف يخرج مُناديًا على بضاعته. شخص ذو ملامح مُحايدة وغامضة، وإن كانت سحناتُ وجهه تحمل آلام صغر صامتة. كثيرا ما يسهو أو يصمت، وحين يستعيد نشاطه وحيويته ينادي بأعلى صوته، محدّدا أثمنة جديدة لما لديه من خضروات، أثمنة تتجدّد في كل مرة، ومنافسة كثيرا ما تكون غير شريفة بين بائعي الخضر والفواكه من أجل كسب المزيد من الزّبائن. لا تعرف من جغرافية وجه الخُضَرِيّ، إن كان سعيدًا أو بئيسًا. يعرض "لافوكا" بضاعته في دكان يبدو صغيرا، مثلث الأضلاع مثل قطعة جُبن، ولكنّ وُجوده في زاوية تحت شجرة أعطاه مساحة إضافية، وأصبح يبدو أكبر من مساحته الحقيقية. الشجرة التي تظلل جوانبه هي عامل إضافي يشجع الزبائن على التوافد، وُيسَبّب زِحَامَا وعرقلة للرّاجلين وسائقي السيارات العابرة. ينادي الخُضَرِيُّ على البضاعة بما يملك من طاقة وحيوية، مُستعمل في ذلك جملا مقتضبة وصارمة في الغالب، تعبّر عنها ملامح وجهه الصّارم، وهو أيضًا لا تنقص شخصيته صرامة. يستعمل في الترويج لبضاعته المُوَزّعة بين الدكان والرّصيف بدون ترتيب، تعابير لا تخلو من فوضى في التركيب، ولو أنه يعمل ما في وسعه على ترتيب بضاعته دون توقف، ولكنه لا يتقن ذلك مثل باقي بائعي الخُضر. أغلب عباراته جافة وباردة، وغير مُهيّجة للمُشترين عكس ما يعلن عنه من أثمنة. ومع ذلك، لا تجد دكانه خاليا أبدا من الزّبائن. يُساعده في تجارته بعضُ الشبان، لا يعرف إلا القليلين إن كانوا من أبناءه أو إخوته وأبناء عمومته. يتعاملون جميعهم مع الزبائن بلطف وهمّة وجدية عالية، قلما تجدهم يتكلمون مع بعضهم أو مع زبائنهم. ربما يتركون الكلام إلى المنزل أو جلسات أخرى، عند الانتهاء من بيع. ما لديهم من سلعة. يقول "لافوكا" لزبونة، في صدق أبناء الريف: - الله رزقني بولدين وبنت، وهو عكس ما كنت أشتهي. أبي ترك وراءه يفوق الأربعين نفرًا، ما بين ذكر وأنثى...!! يُقسم الرجل بإيمانه أنه كان يتمنى لو أنه شابه أباه، ولكن الله شاء غير ذلك. ويُعرف “البرّاح“ عند زبائنه، وأغلبهم من النساء، بكَاسِر الأثمنة. وزبائنه من كل شرائح المجتمع، فيهم الموظف، الطبيب والصيدلاني، وكلهم يزدحمون على اقتناء بضاعته، تجد في جنبات دكانه العامل كتفا لكتف إلى جانب المتقاعد والعاطل عن العمل. "لافوكا" له لغة خاصة ومنطق خاص في التعامل مع زبائنه، يفهمها الجميع ويعملون بها. ينادي على أثمان البضاعة المركونة بلا تنسيق، توخز مُفرداته جيوبهم ولكنهم يتجاهلونها، كما يتجاهل العابرون هدير أمواج البحر على الشاطئ. كثيرا ما أتساءل، وأنا واقف أمام دكانه، لماذا لا يبيع الفواكه ويكتفي بالخُضر؟ ولماذا تلتطم أمواج من أجساد الرجال بأفخاذ النساء أمام دكانه؟ يلتقي في دكانه المُتديّن المُلتحي مع الحداثي وحتى العلماني، الشباب مع المُسنين، المُتبرّجة مع المحجّبة والمُنقبة، فزبائنه من كل الأعمار والطبقات والإيديولوجيات، تجدهم يتزاحمون بكل عفوية على انتقاء مُشترياتهم. ولم يسبق أن اشتكت زبونة من احتكاك مُتعمّد أو تحرّش أمام دكانه، إن بالواضح أو بالمرموز. لا يهم "لافوكا" طريقة وضع الطربوش على رأسه، ولا كيف أو ماذا يلبس من ثياب، ويجهر بأنه بدويّ، ويفتخر بثقافة البدو والبادية. حاولت مرارًا أن أبدأ معه الحديث، ولكنني أجده مُداومًا على التأمل والتفكير، مُنشغل بتشكيل عرض بضاعته على جوانب دكانه الصغير، ورفع صوت حنجرته مُعلنًا عن تكسير الأثمنة لجلب المزيد من المُشترين. وفي كل مرة أحاول أن أفتح معه نقاشًا، فأجده يتفاداني دون أن يحرجني، ويقفل أمامي كل الأبواب بذكاء شديد، وكأنه يقول لي خفية في قرارة نفسه: “معذرة، لا تحاول معي...“.
#ادريس_الواغيش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توصيات المناظرة الرابعة للإعلام في بني ملال
-
مناظرة في أبي الجعد وبني ملال تقارب العلاقة التكاملية بين ال
...
-
في مديح ماكرون للملكة المغربية الشريفة...!!
-
آنَ لخُطوط الطفل الكورسيكي كُبولاني أن تنمَحي
-
مَذاقُ الوَطن بنُكهَة العُيون
-
من أوزود إلى مرّاكش، فرَادة المَغرب المُتعَدِّد
-
التّقاعُد، آن لي أن أرتاح، قد تعبتُ من السّفر...!!
-
نوستالجيا: إحصاء، زواج وشعر...!!
-
شكري في زمن الأخطاء
-
مُنتدى “كفاءات تاونات“ يحتفي بمُتفوّقي باكالوريا 2024 في الر
...
-
ألأمين جمَال، هل خان؟ أم رَدَّ إحسانًا بإحسَان؟
-
مَشرع بلقصيري تختمُ مهرجانَ القصّة القصيرة
-
بلقصيري تعلن عن النسخة ال 15 من مهرجانها الوطني للقصة القصير
...
-
في مُواجهة تزييف الفرادَة المَغربية
-
لاهِثٌ أُلاحِقُ بَقِيّتي
-
جامعة فاس تُصدر كتاب عن مغربية الصّحراء
-
مؤتمر دولي يقارب شمولية الترافع عن مغربية الصحراء
-
الجَهل المُقدّس، من “سَرْغِينَة” إلى مَعرض الكِتاب
-
فريدة بليزيد: نقارب المحرمات لتعرية سلطة الدين والجنس والسيا
...
-
عبد الصّمد بن شريف يُحاضر بفاس حول تحوُّلات الإعلام بالمغرب
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|