|
الهوية بين الأرض والدين: كيف شكّل الإستعمار العقائدي معالم الشعوب؟
محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8185 - 2024 / 12 / 8 - 22:01
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
لطالما كانت الهوية ركيزة أساسية في تشكيل مصائر الشعوب، فهي الرابط الذي يربط الفرد بأرضه وثقافته وتاريخه. لكنها قد تتحول إلى أداة صراع داخلي عندما يُفرض عليها الانحياز لأحد جوانبها على حساب الآخر، خصوصًا إذا أُلبست العقيدة الدينية ثوب الأولوية المطلقة. هذا الانحياز يجعل الغزاة الذين يدخلون باسم الدين مقبولين أو حتى مقدسين، مهما كانت نواياهم. وقد كانت هذه الجدلية حاضرة بوضوح في التجارب الاستعمارية، خاصة في شمال إفريقيا، حيث لعب الاستعمار العقائدي دورًا أخطر وأعمق من الاستعمار العسكري، مستهدفًا الهوية ذاتها.
الولاء للأرض هو التعبير الطبيعي عن ارتباط الإنسان ببيئته التي شكّلت ثقافته وتاريخه المشترك مع أبناء وطنه. عبر العصور، كان هذا الولاء أساس المقاومة ضد الغزاة، إذ نظر كل شعب إلى المحتل على أنه دخيل يسعى لطمس هوية الأرض والسيطرة عليها. هذا الولاء يعكس إحساسًا عميقًا بالمسؤولية تجاه الإرث الحضاري والجغرافي للأرض، مما يجعل الدفاع عنها واجبًا يتجاوز كل الانتماءات الأخرى. ولكن ماذا يحدث عندما يتم استبدال هذا الولاء بولاء آخر؟ هنا تظهر الإشكالية الكبرى، حيث يمكن أن تتحول الهوية الوطنية إلى هوية ثانوية لصالح انتماء أوسع، يجعل من الغازي الذي يشارك الشعب دينه أخًا ومحررًا، لا مستعمرًا.
عندما يُقدَّم الدين على الهوية الوطنية، يصبح الغازي الذي يحمل العقيدة نفسها مقدسًا، بغض النظر عن نواياه الحقيقية. هذا التداخل بين الدين والسياسة كان ولا يزال أداة فعالة استخدمها الغزاة لتبرير احتلالهم. في تاريخ شمال إفريقيا، استغل العرب الدين كوسيلة لتجاوز مقاومة السكان المحليين، حيث تم تصوير الغزوات الإسلامية على أنها تحرير للشعوب. إلا أن بعض القوى التي رفعت شعاره كانت تسعى لتوسيع نفوذها السياسي والثقافي، مما أدى إلى تغييب تدريجي للهوية الأمازيغية المحلية لصالح ثقافة الغازي. على عكس الاستعمار المادي الذي يُفرض بالقوة العسكرية، يأتي الاستعمار العقائدي بهدوء، مخترقًا العقول والثقافات ليُعيد تشكيل الهوية الجماعية للشعب. خطورة هذا النوع من الاستعمار تكمن في قدرته على خلق شعور بالتبعية الفكرية والثقافية، حيث يفقد الشعب المُستعمَر وعيه بذاته، ويصبح الغازي جزءًا من هويته الجديدة.
في حالة شمال إفريقيا، لم يقتصر الأمر على الغزوات العربية، بل تكرّر مع الاحتلال الفرنسي الذي استغل الانقسامات الداخلية التي خلقها الاستعمار العقائدي السابق. فبدلاً من مقاومة موحدة، وجد الشعب نفسه ممزقًا بين ولاءات متعددة، مما سهّل على الاستعمار الفرنسي إحكام سيطرته لعقود طويلة. قراءة التاريخ تكشف لنا كيف أن الشعوب التي تخلّت عن ولائها للأرض لصالح أي ولاء آخر كانت أكثر عرضة للاستغلال. من الغزوات العربية إلى الاحتلال العثماني، وصولاً إلى الاستعمار الأوروبي، استخدم الغزاة الدين أو الأيديولوجيات لتبرير وجودهم. لكن التاريخ يعلمنا أيضًا أن الشعوب التي أدركت أهمية استعادة هويتها الوطنية نجحت في التحرر. المقاومة لم تكن دائمًا بالسلاح، بل كثيرًا ما كانت بالكلمة والثقافة. من إحياء اللغات المحلية إلى الحفاظ على العادات والتقاليد، كانت هذه الوسائل أدوات فعالة في مواجهة الاستعمار العقائدي، وإبقاء روح الانتماء للأرض حيّة.
اليوم، لا تزال المجتمعات العربية والإسلامية تواجه نفس التحديات المتعلقة بالهوية والولاء. فالصراعات التي تُبنى على أساس ديني أو عرقي تُهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي، مما يجعل استعادة التوازن بين الولاء للأرض والدين ضرورة ملحّة. لتحقيق هذا التوازن، يجب العمل على بناء وعي جماعي يقوم على إعادة قراءة التاريخ بموضوعية لفهم كيف تم استغلال الدين كوسيلة للهيمنة، وتعزيز الهوية الوطنية من خلال التعليم والإعلام مع احترام التنوع الثقافي. كما يجب رفض التبعية الفكرية عبر تشجيع التفكير النقدي والاحتفاء بالقيم المحلية التي تُعزز من ارتباط الفرد بأرضه، مع تحقيق التكامل بين الدين والأرض، بحيث يصبح الدين قيمة مضافة للهوية الوطنية، لا وسيلة لتهميشها أو إلغائها.
بين الأرض والدين، لا ينبغي أن يكون هناك صراع، بل انسجام يعكس تكامل الهوية الإنسانية. لكن هذا الانسجام لن يتحقق إلا عبر وعي تاريخي وثقافي يُحرر العقول من قيود الماضي، ويُعيد صياغة العلاقة بين الشعب وأرضه بشكل يضمن الولاء للأرض دون التضحية بالقيم الروحية. إذا كان الاستعمار المادي يُزال بالمقاومة المسلحة، فإن التحرر من الاستعمار الفكري يحتاج إلى ثورة فكرية عميقة تعيد للشعوب سيادتها على هويتها وثقافتها، وتُحصّنها من أي محاولات استغلال جديدة، مهما كانت شعاراتها
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التحرر الحقيقي والمصالحة مع الذات الوطنية
المزيد.....
-
بيستوريوس: لا يجوز أن نكون في موقف المتفرج تجاه ما يحدث في س
...
-
أردوغان يعلن -مصالحة تاريخية- بين الصومال وإثيوبيا
-
الرئيس التركي أردوغان: اتخذنا الخطوة الأولى لبداية جديدة بين
...
-
قوات -قسد- تسقط طائرة أمريكية مسيرة
-
-CBS NEWS-: ترامب يوجه دعوة إلى شي جين بينغ لحضور حفل تنصيبه
...
-
مجلس النواب الأمريكي يصادق على الميزانية الدفاعية بحجم 884 م
...
-
العراق.. استهداف -مفرزة إرهابية- في كركوك (فيديو)
-
موسكو تقوم بتحديث وسائل النقل العام
-
قوات كردية تسقط بالخطأ طائرة أميركية بدون طيار في سوريا
-
رئيس الإمارات وملك الأردن يبحثان التطورات الإقليمية
المزيد.....
-
علاقة السيد - التابع مع الغرب
/ مازن كم الماز
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي
/ فاروق الصيّاحي
-
بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح
/ محمد علي مقلد
-
حرب التحرير في البانيا
/ محمد شيخو
-
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
/ خالد الكزولي
-
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر
/ أحمد القصير
-
الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي
/ معز الراجحي
-
البلشفية وقضايا الثورة الصينية
/ ستالين
المزيد.....
|