|
عشتار الفصول: 11954 التغيراتُ المعاصرةُ بالشرقِ الأوسطِ
اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.
(Ishak Alkomi)
الحوار المتمدن-العدد: 8184 - 2024 / 12 / 7 - 16:14
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
موضوعٌ خاصٌ للعددِ الأولِ للمجلةِ الأوروبيةِ لدراساتِ الشرقِ الأوسطِ. تقديمُ إسحق قومي. الصراعاتُ لا يمكنُ أنْ تتوقّفَ، وهي أمرٌ طبيعيٌّ، ولكنَّ الذي ليسَ بطبيعيٍّ أنْ لا تُوظَّفَ تلكَ الصراعاتُ ضمنَ سياقاتِ حركةِ الشعوبِ والقوميّاتِ والدولِ. الشرقُ الأوسطُ هو تلكَ الرقعةُ الجغرافيةُ التي تتصلُ بالقارّةِ الإفريقيةِ من الغربِ والجنوبِ الغربيِّ، وبهذا فهو يُشكّلُ البوابةَ الغربيةَ للقارّةِ الآسيويةِ على القارّةِ الإفريقيةِ من خلالِ قناةِ السويسِ وبابِ المندبِ والبحرِ الأحمرِ. وكانت لهُ منذُ القِدمِ مكانةٌ عظمى في التكوينِ الجغرافيِّ للعالمِ: لوقوعهِ على البحرِ الأبيضِ المتوسطِ أولاً، وتوسُّطِهِ قاراتِ العالمِ القديمِ ثانياً. أمّا دولُهُ فهي عديدةٌ، منها ما هي دولٌ عربيةٌ، ومنها دولٌ غيرُ عربيةٍ. حيثُ تختلفُ هذهِ الدولُ في مكوّناتِها القوميّةِ، وأنظمةِ حكمِها، وتعدّدِ مصادرِها القانونيةِ والدستوريةِ. كما تختلفُ في دياناتِها ومذاهبِها التي تُشكّلُ القوةَ الدافعةَ الأولى التي تُشكّلُ مصدرَ عدمِ استقرارِها باستمرارٍ. ولابدَّ لنا أنْ نذكرَ بأنَّ معالمَ الحدودِ السياسيةِ لأغلبِ دولِ الشرقِ الأوسطِ كانت في حالةِ تغييرٍ دائمٍ من خلالِ القوى المتصارعةِ المحليّةِ والغربيةِ والشرقيةِ على هذا الجزءِ من العالمِ. أمّا الأقوامُ التي تُكوّنُ الشرقَ الأوسطَ، فهي عديدةٌ في أسمائِها ودياناتِها وطقوسِها، ونحنُ هنا لسنا بصددِ ذكرِها كاملةً، إنما سنذكرُ أغلبَها لضروراتِ البحثِ وأهميّةِ وجودِها في بُعدِها الجيوسياسيِّ والمورفولوجيِّ والفكريِّ. وأولُ تلكَ الأقوامِ نذكرُ العربَ الذينَ يُكوّنونَ القسمَ الأكبرَ من القومياتِ الأخرى الموجودةِ في الشرقِ الأوسطِ. ويُقسّمونَ إلى قسمينِ من حيثُ الدينِ: فمنهم منْ هو مسلمُ الديانةِ عبرَ مذاهبِها الأربعةِ، وهم غالبيةٌ عُظمى يبلغُ عددُها حوالي 99.85%، والبقيةُ مسيحيّونَ عربٌ. والقوميةُ الثانيةُ في المنطقةِ هي القوميةُ التركيةُ، تليها القوميةُ الفارسيةُ، فالكرديةُ. وهناكَ القوميةُ الأذريةُ، والتركمانُ، والشيشانُ، والشركسُ، واليونانيونَ، واليهودُ، والأرمنُ، والسريانُ، والآشوريونَ، والكلدانُ، والمندائيونَ، والصابئةُ، واليزيديونَ، والمجوسُ، والزردشتيونَ، وغيرُهم من القوميّاتِ والدياناتِ والمذاهبِ. إنَّ هذا التنوعَ العرقيَّ والقوميَّ والإثنيَّ يؤدّي غالباً إلى صراعاتٍ بعضُها خفيٌّ، وبعضُها الآخرُ يتوضّحُ من خلالِ مسيرةِ التطورِ الاقتصاديِّ والعلاقاتِ الخارجيةِ، خاصةً معَ الدولِ المتقدمةِ والمتطورةِ. كما نجدُ الأمرَ واضحاً لدى تركيا العثمانيةِ حينَ ربطتْ علاقتَها بأوروبا القويّةِ اقتصادياً وعسكرياً، ومعَ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ وقاعدةِ أنجرليك. ولهذا نجدُها تدخلُ الناديَ الأوروبيَّ وحلفَ الناتو العسكريَّ. وعلى الرغمِ من ثقتِنا بأنَّ كلَّ العلاقاتِ الدوليةِ تحتكمُ لمجموعةٍ من القوانينِ والأنظمةِ والمصالحِ الاقتصاديةِ، فإنَّ تلكَ القوانينَ تختلفُ في أهميتِها باختلافِ أنواعِها، وأهدافِها، وطرقِ، ومناهجِ تنفيذِها، واستخداماتِها. والحكوماتُ والدولُ التي تنفّذُها قد تلغي بعضاً منها لضروراتِ ما يُسمّى بالأمنِ القوميِّ. وهذه ليستْ حالةً شاذةً تمارسُها الدولُ المتخلفةُ أو دولُ العالمِ الثالثِ، ومنها دولُ الشرقِ الأوسطِ، بل حتى في أكبرِ الدولِ التي تدّعي... 4o بالديمقراطيةِ والحريةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ والدينيةِ. إلا أنّه يجبُ أنْ نُميّزَ بينَ نوعينِ منَ القوانينِ: 1- القوانينُ العلميةُ: التي توصّلتْ لها البشريةُ عن طريقِ التجاربِ العلميةِ المتكرّرةِ، والتي ثَبَتَتْ بالبرهانِ. فهذهِ القوانينُ لا يمكنُ أنْ يصلَها الشكُّ إلا إذا تطوّرَ البحثُ في جوهرِها وتقدّمتْ دراساتٌ تُثبِتُ عدمَ ثبوتِها. وهذا باقٍ مادامتِ الظروفُ العامةُ في الوجودِ والعالمِ على حالِها، لم تتغيّرْ ولم تتبدّلْ. 2- القوانينُ الوضعيةُ: والتشريعاتُ بأنواعِها، والخرائطُ الجغرافيةُ، والتقسيماتُ الإداريةُ التي ترتبطُ بالجوانبِ السياسيةِ، والتي تخصُّ المجتمعاتِ الإنسانيةَ، فلا يمكنُ أنْ يُعوّلَ على بقائِها للأبدِ. وقد يكونُ في بقائِها لمدةٍ أطولَ عبئاً ثقيلاً على المجتمعاتِ، وتكونُ مصدرَ قهرٍ وظلمٍ واستغلالٍ واستعبادٍ لمجموعاتٍ عرقيةٍ ودينيةٍ (إثنيةٍ). وبهذا تُشكّلُ تلكَ الخرائطُ أو القوانينُ سدوداً مانعةً للتقدّمِ والتطوّرِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ والسياسيِّ والأخلاقيِّ، ومصدراً منْ مصادرِ نشوءِ النزاعاتِ بينَ المجتمعاتِ البشريةِ. وتنعكسُ آثارُها ومخلّفاتُها على السلوكيةِ، والمناهجِ السياسيةِ للجماعاتِ التي ترى أنّ قوتَها لم يَحِنِ الوقتُ لتظهرَها بالشكلِ المطلوبِ إلا حينَ تُلحظُ أنّ هناكَ متّسعاً منَ الحريةِ السياسيةِ والدينيةِ والاقتصاديةِ. وإذا كانت القوانينُ والتشريعاتُ قد وُلِدَتْ في الشرقِ، وخاصةً من بلادِ ما بينَ النهرينِ، كما تشهدُ المسلّاتُ في متاحفِ اللوفرِ بباريسَ ومتحفِ برلينَ، فإنّ التشريعاتِ والقوانينَ التي وضعَها المعلّمُ الأولُ (حمورابي بنُ الملكِ سن مو بليّت) الأموريُّ الآراميُّ، تُعَدُّ أولى القوانينِ المكتوبةِ في التاريخِ البشريِّ. فلهُ تُسمّى وتُنسبُ جميعُها، وما القوانينُ المصريةُ واليونانيةُ والأوروبيةُ لاحقاً إلا أحفادٌ لتلكَ القوانينِ الحمورابيةِ بامتيازٍ. وجديرٌ بالذكرِ أنّه وُجِدَتْ تشريعاتٌ أخرى في زمنِ حمورابي، لا بل قبلَهُ، مثلَ مخطوطةِ أورنامو وإشنونا، ومخطوطةِ بيت إشتار ملكِ آيسن. لكنّ المعلّمَ حمورابي يبقى المُشرّعَ الأولَ في الحضارةِ البابليةِ القديمةِ، وهو الجامعُ لكلِّ التجاربِ القانونيةِ التي سبقتهُ. ونعلمُ أنّه بجانبِ القوانينِ السياسيةِ والإداريةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، هناكَ الأعرافُ، وهي الأخرى قوانينٌ بدائيةٌ، ولكنّها لا تزالُ تعيشُ في سلوكِنا اليوميِّ، ولها منَ الأهميةِ بمكانٍ كما التاريخُ الشفهيُّ الذي ينتقلُ من جيلٍ إلى جيلٍ. وكي ندخلَ في موضوعِنا والعنوانِ الذي اخترْناهُ نقولُ: إنّ كلمةَ "شرق" في البحوثِ الجيوسياسيةِ تعني جميعَ البلادِ التي تقعُ في غربي القارّةِ الآسيويةِ، أي أغلبَ البلادِ التي تشملُ بلادَ فارسَ وما بينَ النهرينِ وسوريةَ الكبرى والجزيرةَ العربيةَ. تلكَ الدولُ التي رُسِمَتْ خرائطُها، وتحدّدتْ حدودُها، وتعيّنتْ عواصمُها وحكوماتُها عبرَ قرنٍ من الزمنِ، وإنْ تغيّرتْ تلكَ الحدودُ عبرَ مئاتٍ منَ السنينِ، فأُعيدَ ترتيبُ وترسيمُ تلكَ الحدودِ وذلكَ من خلالِ الضروراتِ التي تقتضيها الحالةُ السياسيةُ والقوةُ العسكريةُ. لهذا المسيطرِ أو ذاكَ الغازي أو المحتلِّ. فكمْ منْ مرّةٍ مثلاً يسيطرُ الفرسُ على أرضِ بلادِ ما بينَ النهرينِ (العراقِ الحاليِّ) وقسماً من سوريةَ؟!!! ويستمرُّ وجودُهم فترةً طويلةً، ثمّ ينحسرُ ذاكَ الوجودُ. ولكنّ أظلمَ تقسيمٍ إداريٍّ في منطقتِنا كانَ التقسيمَ الذي يُسمّونه "سايكس الإنكليزي وبيكو الدبلوماسي الفرنسي". حدثَ ذلكَ في عامِ 1916م، فهما منْ وضعَ خريطةَ منطقتِنا من دونِ أنْ يُراعيا الوجودَ القوميَّ والدينيَّ والمذهبيَّ لسكانِ المنطقةِ، خاصةً للمكوّنِ القوميِّ الآشوريِّ السريانيِّ الآراميِّ الكلدانيِّ. لا بل نقولُ... 4o فقد قُسِّمتِ المنطقةُ حتى تبقى تلكَ المجتمعاتُ في حالةِ صراعٍ مستمرٍّ، وبهذا فإنّ المخططاتِ التي وُضِعتْ قبلَ 96 عاماً نتائجُها وأهدافُها تُحصدُ اليومَ، فيما يُسمى الربيعَ العربيَّ الذي توقّفَ في الأراضي السوريةِ، ولم يعدْ يُغادِرُها. وبعدَ هذا، لابدّ لنا أنْ نُقدّمَ بعضَ الأسئلةِ التي نرى أنّها تُشكّلُ العمودَ الفقريَّ لمنظومةِ بحثِنا، فنقول: 1. ما هي التغييراتُ؟ ما نوعُها؟ ما مدى تأثيرِها؟ وهل هي دائمةٌ أم طفرةٌ؟ 2. ما هو تأثيرُها في البنيةِ الفكريةِ، والاجتماعيةِ، والسياسيةِ، والاقتصاديةِ لدولِ الشرقِ الأوسطِ؟ 3. التطوراتُ الاقتصاديةُ في دعمِ الاكتفاءِ الذاتيِّ وأثرُها على تلكَ المتغيراتِ. 4. أنظمةُ الحكمِ في الشرقِ وأثرُها على تلكَ التغيراتِ. 5. القضيةُ المركزيةُ ـ فلسطينُ ـ وما تركتْهُ من آثارٍ واضحةٍ على مسيرةِ حركةِ شعوبِ الشرقِ والمتغيراتِ. هل ستنتهي معَ صفقةِ القرنِ أم ستبقى مصدراً ومنجماً للصراعاتِ؟ 6. الربيعُ الذي سُمِّي زوراً وبهتاناً بالربيعِ العربيِّ (الفوضى الخلّاقةُ) وأثرُهُ على المتغيراتِ. 7. المأساةُ السوريةُ والمنظماتُ الإرهابيةُ (داعشُ وأخواتُها). 8. العراقُ بينَ المدِّ الشيعيِّ والسنيِّ والكرديِّ ومصالحِ إسرائيلَ والغربِ في الشمالِ. 9. تعاظمُ الدورِ التركيِّ في المنطقةِ. 10. الدورُ الإيرانيُّ في المنطقةِ. 11. دورُ روسيا في المنطقةِ. 12. الدورُ الأمريكيُّ في المنطقةِ. 13. إسرائيلُ وصداقاتُها غيرُ السريةِ معَ العديدِ من دولِ الخليجِ وغيرها. 14. تعاظمُ العداءِ بينَ قطبيِّ الإسلامِ (الشيعيِّ بقيادةِ إيرانَ وأتباعِها، والسنيِّ بقيادةِ السعوديةِ وأتباعِها). 15. تعاظمُ الدورِ الكرديِّ في شمالِ شرقيِّ سوريةَ والعراقِ. 16. أثرُ قرارِ الرئيسِ الأمريكيِّ على أنّ القدسَ عاصمةٌ أبديةٌ لإسرائيلَ وتلاهُ الاعترافُ بالجولانِ كجزءٍ من الدولةِ اليهوديةِ. 17. صفقةُ القرنِ كخطةٍ تُقدّمُها الولاياتُ المتحدةُ بينَ إسرائيلَ والفلسطينيينَ. وهناكَ العديدُ من المحطاتِ التي منَ الممكنِ أنْ نقفَ عندَها. فكلمةُ "تَغْيِيرات" جمعُ "تَغيير"، والتغييرُ اسمٌ، والمصدرُ "غَيّرَ"، وفيهِ معنى التحويلِ والتبديلِ. أما التغييراتُ المعاصرةُ: فتعني ما أصابَ الشرقَ الأوسطَ من تغييراتٍ جرّاءَ الأحداثِ الدمويةِ أو السياسيةِ. إنّ موضوعَ التغييراتِ في الشرقِ لم تنقطعْ ولا يمكنُ أنْ نقرَّ بعمليةِ انقطاعٍ وتأثيرٍ للمتغيراتِ كحالةٍ جامدةٍ أو عمليةٍ صنميةٍ. لكونِ الشرقِ أحدَ أعمدةِ العالمِ قديماً وحديثاً. فالتغيراتُ مستمرةٌ وهي عمليةٌ ترافقُ الجوانبَ الاقتصاديةَ والسياسيةَ والعسكريةَ والتكاثرَ البشريَّ، ما يؤدّي إلى وجودِ حاجةٍ لتوفيرِ مستلزماتِ هذا التكاثرِ والتوسعِ. منْ هنا، فالموضوعُ شاسعٌ واسعٌ، إنْ نحنُ أخذناهُ بمعناهُ العامِّ والخاصِّ معاً. ولهذا أرى أنْ نعودَ قليلاً للحضاراتِ التي سادتْ على أرضِ بلادِ ما بينَ النهرينِ، وسوريةَ، ووادي النيلِ، وحتى في أرضِ اليمنِ والسعوديةِ والخليجِ. فهي دلالاتٌ واضحةٌ على تغيّراتٍ كانتْ تُصيبُ مفاصلَ الحياةِ برمّتِها. ولو أنّنا سقنا هذا المثلَ للتدليلِ على أنّ التغييراتِ ليستْ طفرةً تحدثُ في زمنٍ معينٍ ومكانٍ معينٍ. إنما التغييرُ يُلازمُ الحياةَ بكلِّ جوانبِها ومجموعةِ الأنشطةِ الإنسانيةِ على تنوعِها وأزمنتها. ولكنْ لنفترضْ أنّ هناكَ أكثرَ من نوعٍ للمتغيراتِ، منها ما هو عابرٌ، ومنها ما يُؤثّرُ على العلاقاتِ برمّتِها بعدَ حدوثِه. والنوعُ الأخيرُ يندرجُ حولَ صفةِ الغزوِ والاحتلالِ الذي حدثَ للحضاراتِ المشرقيةِ قبلَ ألفِ عامٍ وأكثرَ، ويحدثُ الآنَ بأساليبٍ عصريةٍ. ومع تطوّرِ الأزمنةِ وتقلبِ الأحوالِ والحضاراتِ والدولِ، نقفُ عندَ الفترةِ التي تلتْ انسحابَ العثمانيينَ منْ أرضِ الشرقِ، وكانَ آخرُهُ عامَ 1916م. حيثُ مرّتِ المنطقةُ بعهدٍ جديدٍ تلاهُ الاستعمارُ الفرنسيُّ والإنكليزيُّ، وربما مرَّ الألمانُ منَ الشرقِ أيضاً، وهكذا الهولنديونَ والبرتغاليونَ. وعلى الرغمِ منَ الدورِ الإيجابيِّ للمستعمرينَ، إلا أنّنا نجدُ مقاومةً تفرضُ إنهاءَ المعاهداتِ بينَ تلكَ الدولِ المستعمِرةِ والبلادِ المستعمَرةِ. وما إنْ أطلَّ العهدُ الوطنيُّ حتى ابتُليَ الشرقُ بقضيةِ فلسطينَ التي تركتْ آثارَها واضحةً على جميعِ محطاتِ الحياةِ المشرقيةِ. وتاجرَ بها منْ تاجرَ، واعتلى الكراسيَ منْ اعتلى. ولهذا أعتبرُها المصدرَ الأكبرَ والأوسعَ والأعنفَ في تصديرِ الإرهابِ بأنواعِه ومدارسِه. وحين استعصتْ هذهِ القضيةُ على الحلِّ، أوجدَ أصحابُ الشأنِ عدّةَ وقائعَ وحركاتٍ منْ أجلِ إلهاءِ الشعوبِ المعنيةِ بهذهِ القضيةِ. فكانَ آخرُها الربيعُ العربيُّ الذي توقّفَ في سوريةَ لمركزِها الجيوسياسيِّ والقريبِ منْ إسرائيلَ. إنَّ ما حدثَ في سوريةَ خلالَ الأعوامِ المنصرمةِ غيرَّ العديدَ منَ المفاهيمِ والقيمِ، سواءٌ أكانتْ إنسانيةً أم وطنيةً أو قوميةً… كما غيّرَ الشكلَ الديموغرافيَّ في أرجاءِ المحافظاتِ كافةً. وكذلكَ العراقُ، فليسَ بأقلِّ مما حدثَ لسوريةَ ولا يزالُ على براكينَ لا نعرفُ نتائجَها. وأما ظهورُ المنظماتِ الإرهابيةِ التكفيريةِ كداعشَ وجبهةِ النصرةِ وأخواتِها، فقد جعلَنا أمامَ قراءاتٍ مختلفةٍ لما عاشتهُ المنطقةُ خلالَ سبعينَ عاماً مضتْ. إذْ أصبحتْ سوريةُ ملجأً لكلِّ الإرهابيينَ في العالمِ الذينَ جاؤوا للجهادِ فيها. فإنَّ العراقَ ينقسمُ إلى عدّةِ حالاتٍ سياسيةٍ وجغرافيةٍ. فجنوبُهُ منتفضٌ حتى على رجالاتِ الشيعةِ أنفسِهم. وكذلكَ السنةُ، وهكذا الأكرادُ. ولكنَّ المستفيدَ الوحيدَ هو منْ سيتمّمُ تأسيسَ دولتِهِ المعترفِ بها. ونرى بأنَّ التغييرَ والتمردَ الإيجابيَّ للشعبِ العراقيِّ سينتهي بالعراقِ إلى تقسيمِه لأكثرَ منْ إقليمٍ، وهكذا سوريةُ التي لنْ تهدأَ إلا على قرارٍ سوريٍّ يقرُّ بالتقسيماتِ الفيدراليةِ بدلاً منَ المحافظةِ كحالةٍ إداريةٍ، وإنْ بقيتْ دمشقُ المركزَ… إنَّ إيرانَ لها إرادتُها في العراقِ وسوريةَ ولبنانَ إنْ شئنا أمْ أبينا. وكذلكَ تركيا الأردوغانيةُ، وهكذا إسرائيلُ، وروسيا، وأمريكا، والصينُ وكوريا. ولكي تترسّخَ حقيقةُ التقسيماتِ والتغيراتِ والتبدلاتِ، لابدَّ منْ إنشاءِ خلافٍ شيعيٍّ وسنّيٍّ بينَ القطبينِ الأعظمينِ: إيرانَ والسعوديةِ. وبهذا يتأكّدُ منْ أنّ الأجندةَ الموضوعةَ للشرقِ تُحقّقُ أهدافَها والمتغيراتُ قادمةٌ. ولابدَّ أنَّ السياسةَ الأمريكيةَ هي التي لها قدرةٌ على حفظِ العمودِ الفقريِّ لمجموعةِ المتغيراتِ والتبدلاتِ في الشرقِ. فلا بدَّ بتقديري منْ إنشاءِ دولةٍ كرديةٍ تكونُ بمثابةِ عقوبةٍ لتركيا الأردوغانيةِ، لأنَّ القراءةَ الأولى هي تقسيمُ تركيا إلى أكثرَ منْ دولةٍ. وهكذا العراقُ وسوريةُ وإيرانُ التي تحتوي على تناقضاتٍ تُؤدّي فعلَها، ولكونِها تحتوي على العديدِ منَ القومياتِ: (الفرسُ يُشكّلونَ أكثرَ منْ 51%، الأذريونَ 24%، جيلاك 9%، أكراد 7%، عرب 3%، لور 2%، بلوش 2%، تركمان 2%، وهناك يهودٌ وأرمنٌ وآشوريون). إنَّ هذا التنوعَ القوميَّ يجعلُها عرضةً أكثرَ منْ غيرِها للتفككِ والتشرذمِ، كما تركيا. أما الدورُ الأمريكيُّ في الشرقِ الأوسطِ، وخاصةً حيالَ إسرائيلَ، فهو يُؤدّي نجاحَهُ التصاعديَّ. وهكذا تأثيرُهُ على لبنانَ واليمنِ والخليجِ برُمّتِه. لِكونِ السعوديةِ، معَ تسلُّمِ وليِّ العهدِ محمد بن سلمان العرشَ، فإنّ السعوديةَ الوهابيةَ ستتحوّلُ إلى دولةٍ واقعيةٍ تقرأُ الأحداثَ والتطوراتِ والحياةَ بشكلٍ مُغايرٍ عمّا فعلتْهُ الوهابيةُ منذُ مئةِ عامٍ على أقلِّ تقديرٍ. وهي التي تُساعدُ على تحقيقِ حلمِ إسرائيلَ وأمريكا معَ رئيسِها ترامب، بشأنِ القضيةِ المركزيةِ التي أراها قد دخلتْ غرفةَ الإنعاشِ. إنّ التغيراتِ في الشرقِ كما أراها، فهي ضرورةٌ حقوقيةٌ وسياسيةٌ وقوميةٌ واجتماعيةٌ وإنسانيةٌ. إنَّ الشرقَ، دونَ تحقيقِ الدولةِ المدنيةِ والمواطنةِ الكاملةِ غيرِ المنقوصةِ، لن يهدأَ، وسيبقى براكينَ للتغيراتِ. بمعنى أنّ إعادةَ تقسيمِ المنطقةِ على أسسٍ واقعيةٍ وحقيقيةٍ تُؤدّي لتلبيةِ الحقوقِ القوميةِ والدينيةِ في عالمٍ لا يرى نفسَهُ إلا حاكماً، فهي ضرورةٌ. ومنْ هنا، فتغييرُ البنيةِ السياسيةِ للشرقِ الأوسطِ يُشكّلُ ضرورةً إنسانيةً ومطلباً حقوقياً للقوميّاتِ المتعدّدةِ التي تعيشُ على أرضِ أجدادِها، وهي مسلوبةُ الإرادةِ. كما ويُشكّلُ التغييرُ حاجةً دوليةً أيضاً. ولكنْ ليسَ كلُّ تغييرٍ إيجابياً، فقد يكونُ حالةً سلبيةً، لا بل تدميريةً، كما حدثَ للمسيحيةِ المشرقيةِ معَ الربيعِ العربيِّ. فمن خطّطَ لهذا الربيعِ أجزمُ أنّهُ ارتكبَ أفظعَ الجرائمِ وأهولَ الأخطاءِ. كما أنّهُ شاركَ عن عمدٍ في تصفيةٍ عرقيةٍ ودينيةٍ لسكانِ المنطقةِ بشكلٍ عامٍّ، وللمسيحيينَ والأقلياتِ الدينيةِ بشكلٍ خاصٍّ. ومنْ دونِ أنْ نطيلَ الحديثَ نقولُ: إنّ سوريةَ والمنطقةَ تعيشانِ على فوهةِ بركانِ حربٍ أهليةٍ بغيضةٍ طويلةِ الأمدِ، ستخلّفُ مما يعجزُ عنهُ الوصفُ وتتوقّفُ الأقلامُ والضمائرُ عنِ التعبيرِ. ومن بينِ تلكَ الأمورِ ما يلي: 1. سنشهدُ تخلّفاً في جميعِ النواحي والمستوياتِ، وتدميراً للإرثِ الماديِّ والحضاريِّ والإنسانيِّ والدينيِّ والروحيِّ لمجتمعاتِ الشرقِ الأوسطِ عامةً، وسوريةَ بشكلٍ خاصٍّ. 2. التكلفةُ البشريةُ ستكونُ باهظةً جداً، لأنَّ الإنسانَ أغلى وأثمنُ مخلوقٍ وكائنٍ. ولا يفوتُنا ما ستخلفُهُ منْ حالاتٍ نفسيةٍ وأمراضٍ عقليةٍ وأخلاقيةٍ، لا يمكنُ أنْ يشفيَها الزمنُ إلا الموتُ. كما أنّ التكلفةَ الماديةَ التي نتوقعُ أنْ تفوقَ 3 تريليوناتِ دولارٍ بالنسبةِ لسوريةَ. سوريةُ ليستْ التي كانتْ بعدَ الاستقلالِ من الفرنسيينَ، بل سوريةُ المُجزّأةُ واقعاً، وستؤدي هذهِ الفوضى والحربُ ليسَ إلى إنعاشِ الاقتصادِ العالميِّ كما هو مُخططٌ لهُ ومتوقعٌ ـ نلحظُ هذا معَ الجوانبِ السياسيةِ والأمنيةِ لإسرائيلَ ـ بل إلى تدميرِ الاقتصادياتِ التي كانتْ تحبو قبلَ هذا الربيعِ. ولأنَّ المخططاتِ فاشلةٌ والخوفَ منَ المجهولِ أعظمُ، نجدُ الغربَ يُماطلُ في اتخاذِ القراراتِ المُتهورةِ في سوريةَ، وخاصةً أمريكا التي بدأتْ تتحسبُ لعواقبِ مغامرةٍ عرجاءَ في إيرانَ وسوريةَ. إنَّ الدوافعَ الاقتصاديةَ والانتخاباتِ تُشكّلُ أفشلَ طريقةٍ في رسمِ سياسةِ أكبرِ دولِ العالمِ. كما شكّلتِ التجربةُ المصريةُ استيقاظاً عندَ الغربِ وإسرائيلَ، وتمنّوا لوْ بقيَ مباركُ. لهذا، لم تُقدّمْ أمريكا والغربُ على مغامرةٍ عسكريةٍ في سوريةَ حتى الآنَ كما في ليبيا. ونعتقدُ بأنَّ نتائجَ تكلفةِ الحربِ الأهليةِ في سوريةَ ستكونُ مدمّرةً على البشريةِ عامةً، وستؤثرُ في الاقتصادِ العالميِّ والمفاهيمِ السياسيةِ والأمنيةِ، وحتى المؤسساتِ الكبرى كالأممِ المتحدةِ ومجلسِ الأمنِ. 2. نرى أنّ تقسيمَ الشرقِ الأوسطِ، وإعادةَ رسمِ خرائطَ جديدةٍ تتناسبُ معَ الوجودِ القوميِّ والعرقيِّ والدينيِّ والمذهبيِّ لجميعِ المكوّناتِ، منَ الضروراتِ الإنسانيةِ والحقوقيةِ والشرعيةِ. لكنَّ في جوانبِه السياسيةِ، ستكونُ هناكَ كوارثُ حمقاءُ، لأنّها ستكونُ على حسابِ أصحابِ الأرضِ الحقيقيينَ، الذينَ نتوقعُ أنّهم سيبقونَ أشباهَ أقليةٍ لا تُذكَرُ. 3. إذا كانَ الهدفُ والغايةُ هو تقسيمُ الدولةِ القطريةِ إلى دويلاتٍ ليخدمَ الوجودَ الإسرائيليَّ في فلسطينَ، فنحنُ نجزمُ بأنّ التقسيمَ سيؤدي إلى مزيدٍ منَ البؤرِ المتوترةِ، التي ستسودُها حالةٌ راديكاليةٌ شرسةٌ إقصائيةٌ دمويةٌ. ستفرضُ مفاهيمَها المذهبيةَ على الجميعِ، وتقضي على كلِّ منْ يُخالفُها بالرأيِّ. وخاصةً المذهبيِّ والدينيِّ. وهذا نقولهُ بحسبِ الواقعِ الآنَ، لكنْ يمكنُ أنْ تُغيّرَ تلكَ المنظماتُ الإرهابيةُ منْ مناهجِها بحسبِ قراءتِها للسياسةِ العالميةِ ولمصالحِها. ومعَ هذا ستستعملُ شتّى أنواعِ الممارساتِ لتحقيقِ غاياتِها. وهذا ما سيجعلُ الصراعَ الإسلاميَّ ـ الإسرائيليَّ في حالةٍ متوترةٍ، ويُبقي استنزافَ القدراتِ الغربيةِ لصالحِ سياساتها الخارجيةِ، خاصةً المتعلقةِ بأمنِ إسرائيلَ ووجودِها. إسرائيلُ، لقوتِها الصناعيةِ التكنولوجيةِ والعسكريةِ وحتى الأمنيةِ، نراها تجتاحُ المنطقةَ بعلاقاتٍ سريةٍ وعلنيةٍ، مما يُمكنّها منْ رسمِ معالمَ جديدةٍ في الشرقِ الأوسطِ. ويُساعدُها في ذلكَ ليسَ الوجودَ الأمريكيَّ فقط، والدعمَ الماديَّ منْ أمريكا واليهودِ الأمريكيينَ، بل حتى منَ الوجودِ الفعليِّ على الساحةِ للروسِ والصينيينَ. نعتقدُ بأنَّ المتغيراتِ السياسيةَ والاقتصاديةَ السريعةَ والهائلةَ حاصلةٌ، والتغييرَ سيكونُ في صالحِ العملاقِ الصينيِّ.
كما أنّ استخداماً للطاقةِ الشمسيةِ والكهربائيةِ في وسائلِ النقلِ الخاصةِ سيُسرّعُ في تخلي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ عن اعتبارِ الخليجِ ودولِه من أولوياتِ الاهتماماتِ الأمريكيةِ ومصالحِها في المنطقةِ. نقولُ هذا لأنّ أهميةَ الخليجِ بالنسبةِ لأمريكا ستتغيّرُ حينَ تكونُ هناكَ ضحالةٌ في كميةِ البترولِ المستخرجِ وغلاءُ أثمانِه ووجودُ بدائلَ أقلَّ كلفةً وأكثرَ فائدةً، ونعني بهذا تلكَ المتعلقةَ بالبيئةِ وحمايتِها. إننا نرى تغييراً في السياسةِ العالميةِ قد بدأ يظهرُ من خلالِ مجموعةِ إرهاصاتٍ وعلاقاتٍ مع مكوّناتٍ لم تكنْ حتى قبلَ عشرةِ أعوامٍ موجودةً بشكلِها السياسيِّ. إلا أنّنا نجدُ علاقاتِ الغربِ معَ تلكَ المكوّناتِ القوميةِ الجديدةِ تتطورُ باطرادٍ على حسابِ العديدِ من الملفاتِ التاريخيةِ والحقوقيةِ والدينيةِ للمكوناتِ القوميةِ والدينيةِ. ونعتقدُ هنا بوجودِ ملفٍّ يسعى الغربُ جاهداً لتفكيكِ مكونّاتِه حتى لا تقومَ لهُ قيامةٌ، ونعني بذلكَ القوميةَ العربيةَ، حيثُ نجدُ الحراكَ على قدمٍ وساقٍ لتفجيرِها داخلياً، وتحطيمِها، واستبدالِها بمكوناتٍ أخرى في المنطقةِ. وهذا سيساعدُ في تحقيقِ التدميرِ الذاتيِّ للشخصيةِ العربيةِ في المنطقةِ. ولا نشكُّ يوماً بأنَّ العالمَ كلَّهُ والوجودَ قائمٌ على المصالحِ، وخاصةً الاقتصاديةِ، لأنها المحركُ والمنتجُ لاستمرارِ الحياةِ. 4ـ أثناءَ وبعدَ الحربِ الأهليةِ الحاصلةِ في سوريةَ، سنشهدُ كتابةَ تاريخٍ جديدٍ للمنطقةِ على ضوءِ المكوّناتِ القوميةِ التي ستحكمُ تلكَ الدويلاتِ. ومنْ هنا سيكونُ منَ الضرورةِ بمكانٍ إعادةُ إنتاجِ أهدافٍ تربويةٍ جديدةٍ تتناسبُ معَ مجموعِ التنوعِ العرقيِّ واللغويِّ، الذي سيكونُ حاضراً بقوةٍ في الواقعِ الجديدِ. 5ـ أما بشأنِ المكوّناتِ الدينيةِ والمذهبيةِ في سوريةَ المستقبلِ، ولأنَّ الغالبيةَ الدينيةَ دوماً هي الباقيةُ ولها الاستمرارُ ـ وهذا لا جدالَ فيه ـ فإنَّ المكوّنَ الأضعفَ هو الذي سيضمحلُّ ويبقى وجودُهُ نادراً. ونعني هنا المكوّنَ المسيحيَّ على اختلافِ قومياتِهم. ومنْ سيستمرُّ منهم سيتطلبُ منهُ إعادةَ تموضعِهِ، وأفضلُ درسٍ يمكنُ أنْ يستفيدَ منهُ المسيحيُّ الشرقيُّ بشكلٍ عامٍّ، والسوريُّ بشكلٍ خاصٍّ، هو أنَّ وجودَهُ حتى في المدنِ الكبرى مهدّدٌ. ولا يمكنُ أنْ يبقى لهُ باقيةٌ خلالَ ثلاثينَ عاماً على أبعدِ تقديرٍ، إلا إذا اجتمعتْ الآراءُ المخلصةُ بقراراتٍ شجاعةٍ تجاهَ هذا المكوّنِ منَ الشركاءِ الموضوعيينَ والحكماءِ، وقرّروا منحهُ حقاً فدرالياً على بعضٍ منَ الأرضِ السوريةِ، أرضِ أجدادِهِ التاريخيةِ. فلا يمكنُ أنْ يستمرَّ في تلكَ الديارِ لأسبابٍ ذكرناها في أكثرَ منْ مكانٍ، وأهمُّها التكاثرُ السكانيُّ للشركاءِ. ولأنّنا نجزمُ بأنّ تلكَ المجتمعاتِ تمضي قُدُماً في تحقيقِ أحلامِها، وذلكَ بالعودةِ إلى التراثِ وتطبيقاتِهِ منْ خلالِ الإسلامِ السياسيِّ الذي ترى فيهِ الحلَّ الوحيدَ في إقامةِ الشريعةِ وتجلياتِها، حتى في الدولةِ المدنيةِ. ومنْ خلالِ شعاراتِ الديمقراطيةِ والحريةِ، ستمارسُ الأغلبيةُ المتعطشةُ للعديدِ منَ الأساليبِ تهجيرَ الأقلياتِ الدينيةِ. والأقلياتُ الدينيةُ ليستْ المسيحيةَ وحدَها، وإنما هناكَ الإيزيديونَ، والمندائيونَ، والشبكُ، والأرمنُ الموجودونَ في غيرِ أرمينيا، واليهودُ. وستتصاعدُ وتيرةُ تلكَ الهجرةِ والتهجيرِ كلمّا اقتربنا منْ تحقيقِ أهدافِ الجماعاتِ التي أقصتْها الحكوماتُ والأنظمةُ السابقةُ في دولِ الشرقِ عنْ مسرحِها السياسيِّ. وتلكَ الجماعاتُ هي التي ستُغيّرُ الخريطةَ المورفولوجيةَ في المنطقةِ. 6ـ إنَّ التطورَ الحاصلَ في جانبِ التواصلِ الاجتماعيِّ والتقدمِ التقنيِّ والسرعةِ يجعلُ منَ الأساليبِ البوليسيةِ المخابراتيةِ للدولِ غيرَ قادرةٍ على ضبطِ الأوضاعِ والتحكمِ بجميعِ أفعالِ المواطنينَ على اختلافِ مذاهبِهم السياسيةِ والروحيةِ والدينيةِ. وهذا ما جعلَ الوضعَ يتعقدُ ويزدادُ خطورةً على الأمنِ القوميِّ للدولِ والمواطنينَ أيضاً. ويُعدُّ هذا التقدمُ، وعدمُ قدرةِ الدولةِ على السيطرةِ على تحركاتِ مواطنيها، من أهمِّ الأسبابِ التي أدّتْ لتدميرِ الدولِ، وخاصةً الدولَ البوليسيةَ ذاتَ الأنظمةِ الدكتاتوريةِ. 7ـ نعتقدُ بأنَّ رسمَ خرائطَ جديدةٍ في المنطقةِ، معَ كلِّ إيجابياتِه، سيسرّعُ في تفجيرِ الحربِ المائيةِ. وسيزدادُ الفقرُ والجوعُ والبطالةُ وقلةُ المواردِ الطبيعيةِ والغذائيةِ والصحيةِ، معَ غيابِ برامجٍ واضحةِ المعالمِ في موضوعِ تحديدِ النسلِ، وتنظيمِ الزواجِ، وتوفيرِ المستلزماتِ الخاصةِ بعدمِ انتشارِ الأمراضِ الجنسيةِ. وهناكَ جوانبُ مذهبيةٌ وتبشيريةٌ نجدُ آثارَها وتجلياتِها في مجتمعاتِنا، وهذا ما سيؤدّي إلى حربٍ مذهبيةٍ ستتفجرُ عاجلاً أمْ آجلاً. إنَّ ما يحدثُ في سوريةَ ليسَ إلا تلكَ الحربَ التي نخشَى أنْ تُشعلَ المنطقةَ برُمّتِها. فإنَّ موقعةَ الجملِ، وموضوعَ الحسنِ والحسينِ، وغيرها من حوادثَ تختزنُها الذاكرةُ الجمعيةُ لأكبرِ مذهبينِ متواجدينِ في منطقتِنا، يجعلُنا دوماً في حالةِ استنفارٍ، ولا ندري متى يكونُ ذاكَ الصراعُ على أشدّهِ. إنَّ إعادةَ سوريةَ والمنطقةِ للوراءِ قبلَ عشرةِ أعوامٍ لا يمكنُ أنْ يكونَ. وأنَّ استقراراً وأمناً كما كانَ قبلَ عامينِ هو ضربٌ منَ المستحيلاتِ. ولهذا، لابدَّ من القولِ إنَّ الأجيالَ التي ستتعايشُ في تلكَ المنطقةِ يلزمُها الكثيرُ منَ الحكمةِ والقوانينِ الناظمةِ، والاستعدادُ لرسمِ خريطةٍ سياسيةٍ وجغرافيةٍ جديدةٍ لمنطقتِنا بشكلٍ عامٍّ، ولسوريةَ بشكلٍ خاصٍّ. أما العيشُ المشتركُ المنشودُ، فإنَّه لو كانَ الحديدُ يتحولُ إلى خبزٍ، وتنتقلُ القارةُ الآسيويةُ مكانَ الأمريكيتينِ، لسلمنا وقلنا سيكونُ. وعلينا أنْ نُقدّرَ التحولاتِ التي حدثتْ في الأجيالِ وسيبقى تأثيرُها، وإلا فنحنُ نُنفي التغيرَ الوجدانيَّ والخلقيَّ والقيميَّ الناتجَ من خلالِ التغيراتِ العسكريةِ والتطوراتِ في جميعِ نواحي الحياةِ. إنَّ المنقذَ الوحيدَ للشرقِ، إنْ أرادَ الجميعُ أنْ يُنقذَ ــ وهذا ما نراهُ بعيدَ المنالِ ــ هو قيامُ دولةٍ مدنيةٍ علمانيةٍ تحكمُ كلَّ الشرقِ. ولكنْ باعتقادي، لا يمكنُ أنْ يتحققَ هذا الأمرُ بالسهولةِ التي نتوقعُها، إلا إذا تمتْ عمليةٌ ممنهجةٌ عبرَ مناهجَ تربويةٍ تُؤدّي بالنتيجةِ إلى إعدادِ عقولٍ حضاريةٍ تؤمنُ بحقِّ الجميعِ دونَ استثناءٍ في العيشِ، وبعيداً عنِ الرؤيةِ والمنطقِ الدينيِّ والقوميِّ. عندها يمكنُ الحلمُ بدولةٍ مدنيةٍ. وأخيراً، التغييرُ لا يمكنُ أنْ يحدثَ في فترةٍ ما، بل هو عمليةٌ مستمرةٌ، وهذهِ سُنّةُ الحياةِ ومسيرةُ المجتمعاتِ. إلا أنَّ نوعيةَ التغييرِ ربما لا تكونُ دوماً حالةً إيجابيةً. لهذا، لا يُصلحُ الشرقَ إلا قيامُ أنظمةٍ فكريةٍ متقدمةٍ ومتطورةٍ، ومؤمنةٍ بأنَّ الجميعَ لهم الحقُّ في الدولةِ وخيراتِها. لهمُ الحقُّ وعليهمُ الواجباتُ نفسُها. وحتى يتحققَ الحلمُ، سنبقى نُرددُ: الإنسانُ أعظمُ المخلوقاتِ، يكفي قتلَهُ وتعذيبَهُ. كما أنَّ ثقافةَ العيشِ المشتركِ يجبُ أنْ تسودَ، كما يجبُ تغييرُ المناهجِ التربويةِ لتسليحِ الناشئةِ على متطلباتِ المستقبلِ، الذي يقومُ أساسُهُ على نتائجِ الواقعِ الراهنِ والمعاشِ. كما أنَّ وضعَ دستورٍ مدنيٍّ وحضاريٍّ هو منَ الضرورةِ بمكانٍ. ولكنْ مهما أوردْنا من مقترحاتِ حلولٍ، لا يمكنُ أنْ يتغيرَ شيءٌ إذا لم تُؤمنِ المجتمعاتُ الموجودةُ بضرورةِ تغييرِ واقعِها نحوَ الأفضلِ، والمدنيةِ، والحريةِ، والعدالةِ الاجتماعيةِ، والإقرارِ بحقوقِ الجميعِ على اختلافِ قومياتِهم ودياناتِهم ومذاهبِهم. إنَّ ترسيخَ مبدأ القانونِ المدنيِّ والحكوماتِ الديمقراطيةِ، وإقرارَ حقوقِ الأقلياتِ القوميةِ والدينيةِ، من مستلزماتِ المرحلةِ القادمةِ للشرقِ قاطبةً. وللحديثِ بقيةٌ. إسحقُ قومي. شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوريٌّ. مستشارُ المنتدى الدائمِ لأقلياتِ الشرقِ الأوسطِ ـ المركزُ الأوروبيُّ. ألمانيا، في 15/2/2020م. 4o 1. باحث تحليلي ونقدي: • يتميز البحث الذي قدمه إسحق قومي بقدرته على تقديم تحليل عميق للأوضاع في الشرق الأوسط، مع تسليط الضوء على الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية. • يظهر قومي كناقدٍ فكريٍّ للأوضاع السياسية والاجتماعية، خاصة في نقده لأنظمة الحكم الدكتاتورية، والصراعات الطائفية التي تعصف بالمنطقة. 2. مفكر فلسفي: • تناول البحث الأبعاد الفلسفية للتغيرات في الشرق الأوسط، مثل جدلية التغيير والاستقرار، ودور الدولة المدنية كحل فلسفي لأزمات المنطقة. • يعكس فكره عمقاً في رؤية العلاقة بين الإنسان والمجتمع، ودور القيم الإنسانية في بناء مستقبل أفضل. 3. مصلح تربوي: • يظهر قومي كداعم قوي لإصلاح المناهج التربوية كوسيلة أساسية لتغيير بنية المجتمع. • يدعو إلى إدخال مفاهيم حقوق الإنسان، والمواطنة، والتعددية الثقافية في التعليم لتأسيس جيل واعٍ بقيم العيش المشترك. 4. مدافع عن حقوق الأقليات: • يُبرز البحث التزامه بالدفاع عن حقوق الأقليات القومية والدينية، مسلطاً الضوء على معاناتهم وتهميشهم في الأنظمة السياسية والاجتماعية الراهنة. • يقترح حلولاً فكرية وتربوية وسياسية للحفاظ على هذه الأقليات ضمن مجتمعاتها، بعيداً عن التهجير والاضطهاد. 5. مفكر استراتيجي: • يتناول قضايا معقدة مثل إعادة رسم الخرائط السياسية، وتأثير التطورات التقنية والاجتماعية على الأمن القومي، مما يعكس رؤية استراتيجية طويلة المدى. • يبرز فهمه العميق للدور الذي تلعبه القوى الإقليمية والعالمية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. 6. ناقد للتغيير السلبي: • يميز قومي بين التغيير الإيجابي والتغيير السلبي، مؤكداً أن التغيرات غير المدروسة قد تؤدي إلى كوارث إنسانية واجتماعية. • ينتقد الفوضى الناتجة عن "الربيع العربي" التي أفضت إلى انهيارات مجتمعية وتهجير جماعي للأقليات. 7. داعية للدولة المدنية: • يُقدّم الباحث نموذج الدولة المدنية العلمانية كحل شامل لكل أزمات المنطقة، مؤكداً أن نجاحها يتطلب منهجية طويلة الأمد تبدأ من إصلاح التعليم وتعزيز القيم الإنسانية.
الخلاصة: من خلال هذا البحث، يُصنف إسحق قومي كمفكر شامل يجمع بين التحليل النقدي والفلسفي، والدعوة إلى الإصلاح التربوي والاجتماعي. هو صوت قوي يُنادي بإعادة صياغة مستقبل الشرق الأوسط على أسس العدالة، الحرية، وحقوق الإنسان، مع التركيز على دور التربية والفكر في تحقيق هذه الأهداف. 4o
#اسحق_قومي (هاشتاغ)
Ishak_Alkomi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عشْتَارُ الفُصُول: 11565 الصِّرَاعُ الدَّمَوِيُّ فِي الشَّرْ
...
-
عشتار الفصول:11555صراعِ الهويةِ والتأقلمِ بين الماضي والحاضر
...
-
قصيدة بعنوان:مئة عام مرت على بناء مدينة الحسكة
-
صِفاتُ المُبْدِعِ الوَطَنِيِّ، الإِنْسانِيِّ، الواقِعِيِّ، و
...
-
عشتار الفصول:11545 لَنْ أُوقِفَ التَّاريخَ، ولا أُعاقِبُه.
-
عشْتَار الفُصُول: 11513 . لُبْنَانُ لَمْ يَعُدْ يَتَحَمَّلُ
...
-
عشتار الفصول:11510 للتنوير إعادة تأهيل الديانات كافة وليس لإ
...
-
عشْتَار الفُصُول: 11490 دَعْوَةٌ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ تَأْسِيسِ
...
-
عشتار الفصول:11478 أسئلة حول نظرية كانط في نقد العقل الخالص
-
الأَكرَادُ وَالعَشَائِرُ الكُردِيَّةُ فِي الجَزِيرَةِ السُّو
...
-
عشْتَارُ الفُصُولِ: 11473 النَّفْسُ مَا بَيْنَ أَفْلَاطُونَ
...
-
عشتار الفصول:11472 النَّفْسُ الإِنسَانِيَّةُ فِي قِرَاءَاتٍ
...
-
عشْتَارِ الفُصُولِ: 11588 رَأْيٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ الْمُنْجَزُ
...
-
عشتار الفصول:11468 العقلُ البشريُّ أكبرُ الشموسِ والساحرُ ال
...
-
عشْتَارِ الفُصُولِ: 14164 القَرْنُ الحَالِيُّ هُوَ خَلْطُ ال
...
-
عشتار الفصول:14161 رأيٌّ غير مُلزم, عَبَثِيّةُ النَّقدِ البَ
...
-
عَشْتَارُ الفُصُولِ: 14159 القَوانِينُ الأَلْمَانِيَّةُ لَمْ
...
-
قصيدة بعنوان: سهوتُ عن مُضِيِّ العمر
-
قصيدة بعنوان:أناشيد لزمنٍ سيأتي
-
عَشْتَارِ الفُصُول:14158 أَعِزَّاءَنا القُرَّاءَ، الأَصْدِقَ
...
المزيد.....
-
بيستوريوس: لا يجوز أن نكون في موقف المتفرج تجاه ما يحدث في س
...
-
أردوغان يعلن -مصالحة تاريخية- بين الصومال وإثيوبيا
-
الرئيس التركي أردوغان: اتخذنا الخطوة الأولى لبداية جديدة بين
...
-
قوات -قسد- تسقط طائرة أمريكية مسيرة
-
-CBS NEWS-: ترامب يوجه دعوة إلى شي جين بينغ لحضور حفل تنصيبه
...
-
مجلس النواب الأمريكي يصادق على الميزانية الدفاعية بحجم 884 م
...
-
العراق.. استهداف -مفرزة إرهابية- في كركوك (فيديو)
-
موسكو تقوم بتحديث وسائل النقل العام
-
قوات كردية تسقط بالخطأ طائرة أميركية بدون طيار في سوريا
-
رئيس الإمارات وملك الأردن يبحثان التطورات الإقليمية
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|