|
عن سورية والتطورات الأخيرة
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 8181 - 2024 / 12 / 4 - 13:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
القاسم المشترك لكل السوريين اليوم حيال ما جرى في شمال غرب سورية، هو الحيرة. حتى الفرحين بما يجري يخالط فرحهم قلق من أن يكون وراء هذه السهولة في السيطرة على مناطق واسعة، خديعة ما. هناك من تخوّف أن تكون عواقب عملية "ردع العدوان" نسخة سورية من عملية "طوفان الأقصى". ففي غضون أيام قليلة، تمكّنت "جبهة تحرير الشام" بالتحالف مع فصائل سورية أخرى من ضمنها تلك التي تسمي نفسها "الجيش الوطني السوري"، من السيطرة الكاملة على محافظة إدلب وعلى معظم محافظة حلب دون خوض أي معركة حقيقية، وبوتيرة تقدم لافتة (السيطرة على حوالي 800 كم مربع في غضون ثلاثة أيام)، الأمر الذي شبهه البعض بعملية استلام وتسليم. يبدو أن قوات النظام السوري انهارت بطريقة فاجأت المهاجمين، ويشيع القول إن هذه القوات انسحبت بناء على أوامر عسكرية. ربما كانت هذه الإشاعات صحيحة، في هذه الحال فإنها تنبئ عن توافق تركي روسي باتجاه معاكس لما جرى في نهاية العام 2016 حين انهارت قوات المعارضة تحت ضربات الطيران الروسي وتقدم قوات نظام الأسد وداعميه للسيطرة على حلب. إذا صح ذلك، تتجه سورية على الأغلب نحو شكل من التقسيم، يكون فيه ما يجمع الأقسام شبيه بما يجمع بغداد وإربيل في العراق. وربما كان الغرض من هذه الإشاعات التغطية على الانهيار وتصوير تفكك قوات النظام وإخلائها مواقعها على أنه تكتيك وانضباط عسكريين، في محاولة لطمأنه جمهور النظام، وإخماد التمردات التي يمكن أن تحرضها مشاهد انهيار قوات النظام. التطورات المفاجئة الأخيرة اثارت مشاعر متعاكسة لدى السوريين، بين ترحيب وفرح من قبل قسم من السوريين، وخوف وإحباط من قبل قسم آخر. في الحالتين لا يتعلق الأمر بخيارات سياسية يختلف حولها السوريون، أي لا تتعلق هذه المشاعر المتناقضة بانتصار أو هزيمة توجهات سياسية عامة ومجموعة قيم عامة يفضل السوريون أو يكرهون أن تكون المعيار المعتمد لحكم بلدهم، ذلك أن مبدأ الغلبة والقوة بات المعيار الوحيد الذي يحكم هذا الصراع السوري منذ أن اتخذ نظام الأسد قرار "إبادة" الثورة معتمداً على القوة بوصفها الحل الوحيد، دون احترام أي قيمة سياسية أو إنسانية مهما تكن، ودون التورع عن توليد العصبيات الطائفية والعرقية والقومية والاستثمار فيها واستجرار الطاقة منها لتغذية تصلبه ضد أي عدالة ممكنة. فكان أن نجح في أبادة الثورة لصالح توليد صراع قوى تسلطية عار من القيم السياسية والوطنية، وتستند إلى قوى خارجية، وتكن العداء ليس للقوى الأخرى فقط بل ولمحيطها الاجتماعي أيضاً، المحيط المحدد على أساس طائفي أو قومي. خطوط تمييز عديدة يمكن تلمسها بين السوريين حيال التطورات الأخيرة، الخط الأول من طبيعة جغرافية، هناك سوريون تمسهم هذه التطورات مباشرة بحكم مكان تواجدهم، مثل سكان المناطق نفسها الخاضعة لتبدل السيطرة، سواء منهم المقيم داخل هذه المناطق أو النازح عنها إلى مخيمات اللجوء أو أبناء هذه المناطق الذين لجئوا إلى خارج سورية. يتحكم بموقف هؤلاء التأثير المادي المباشر على حياتهم، وهذا يتأثر بموقف القوى المتصارعة منهم. فمقابل عودة أهالي إلى مناطقهم وأحيائهم التي جرت إعادة السيطرة عليها من قبل الفصائل المدعومة من تركيا، سوف ينزح آخرون خوفاً من الانتقام أو من فرض نمط حياة معين ... الخ. ومقابل فتح أبواب السجون وخروج مظلومين (وهو مما يفرح القلب) سوف تغلق هذه الأبواب على مظلومين جدد (وهو مما لا يفرح القلب)، ذلك لأن ما تأسس في سورية إلى اليوم هو أن القوة تتحكم بالسياسة وليس العكس، أو بالأصح القوة هي السياسة نفسها دون نقص، لا يختلف في ذلك طرف عن آخر. الخط الثاني للتمييز هو الخط الطائفي. بعد فترة تحولات ليست طويلة، استقر حال القوات التي تواجه نظام الأسد على أنها من تنويعات الإسلام السياسي. ليس لأن جسدها بالكامل هو من المسلمين السنة (وهذه حقيقة)، بل لأنها تعي نفسها وغيرها من هذا الموقع الإسلامي السني، بدرجات متفاوتة من التمييز السلبي ضد غير السنة، تتراوح بين التكفير والتسامح. في كلا الحالين، كل من هو غير مسلم سني، يقع، في منظور هذه القوى، في دائرة خارجية وإن كان في بلده، أي يُنظر إليه على أنه غريب، وأن سقف ما يطمح إليه هو التسامح. ليست جديدة، على الإسلام السياسي، هذه المفارقة التي يكون فيها المسلم السني غير السوري، أحق في سوريا من غير المسلم السوري. على هذا، فإن الأغلبية الغالبة من غير المسلمين السنة، ومن العلويين بوجه خاص، لن يكونوا فرحين بالتقدم العسكري الذي تحققه فصائل المعارضة السورية اليوم، على العكس، إنهم يستقبلون هذه الأخبار بكثير من الخوف والقلق. الخط الثالث للتمييز من طبيعة قومية وعرقية، وهو يخص السوريون الكرد أساساً. الإسلام السياسي بطبيعته يتجاوز المسألة القومية، وهو لذلك جهة غير مرغوبة في نظر من يناضلون لنيل حقوقهم القومية. على هذا، فإن الانتماء الإسلامي السني لغالبية الكرد السوريين لا يصلح أن يكون رابطاً لهم مع تيارات الإسلام السياسي السني. وقد شهد الكرد تجاهلاً لمطالبهم القومية في أولى مؤسسات المعارضة السورية التي كانت تحت هيمنة إسلامية. هذا فضلاً عما تولد خلال تضاعيف الصراع في سورية من حساسيات وعداوات واتهامات بين تيارات مهمة من الكرد وبين جماعات الإسلام السياسي. على هذا، لم تكن الجماعات الكردية المسيطرة على بعض أحياء حلب متعاطفة مع المهاجمين، وربما كانت أقرب على قوات نظام الأسد. الخط الرابع للتمييز هو خط سياسي، وهو الخط الأكثر هشاشة وضعفاً في الحقيقة. لأن أصحاب هذا الخط ممن يتجاوزون الانتماءات القسرية لصالح قيم وطنية وسياسية عامة، يبقون بلا قوة عسكرية تفرض نفسها على الأرض، ويبقون الضحايا الثابتون وطعام السجون الدائم مهما اختلفت قوى السيطرة. على أن هؤلاء هم الضمانة الأساسية لبقاء سورية موحدة ومعافاة، مهما تباعدت واختلفت تصوراتهم السياسية. إن أهم ضمانة لسلامة الحياة السياسية في بلد هي إعلاء القيم السياسية والأخلاقية العامة فوق الانتماءات القسرية لأبناء البلد، وجعل هذه القيم مرجعية ثابتة في الوعي العام، دون ذلك تكون حتى المؤسسات الديموقراطية قليلة الفائدة. هذا ما يوضح إلى أي حد تمزق قوى الأمر الواقع النسيج الوحيد الذي يمكن أن يحمل سورية معافاة. وهذا ما يوضح مدى أهمية حماية الوعي العام من التلوث بعصبيات هذه القوى ومن استسهال قبول الدوس على قيم عامة مثل حماية حياة الناس وكرامتهم مهما تكن الأسباب. لكي يكون من شأن التطورات الأخيرة أن تفتح الباب لتطورات سياسية مفيدة للسوريين، ينبغي تغليب احترام القيم الإنسانية والوطنية على أي هوى سياسي مهما يكن ودون أي مساومة. فقط وجود تيار سوري واسع يحترم هذه القيم، يمكن أن يلجم العصبويين من كل اتجاه، ويحد من تمزيقهم للبلاد.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نزوع الضحية إلى السيطرة
-
انتصارات إسرائيل الخاسرة
-
عن اللوثة الطائفية في سوريا
-
التكيّف مع الاحتلال
-
تحول حزب الله من المقاومة إلى الردع
-
نحن والاحتجاجات في إسرائيل
-
عن انقسام عقيم يلازم السوريين
-
أفكار في النقاش السوري العام
-
سأبقى أذكر ذلك المساء المختلف في السجن
-
غزة، التنافر بين الحق وتمثيله
-
دروس قاسية تنتظر الفرنسيين
-
القضاء الدولي، مقايضة شعوب بأفراد
-
لا تقاطع مخبراً في السجن
-
عن التوثيق ومنصة الذاكرة السورية
-
الحرب على غزة تتحول حرباً على الديموقراطية
-
جديد وثيقة المناطق الثلاث في سوريا
-
الأبواب الحديدية
-
الثقافة بوصفها خديعة
-
في معنى استمرار الثورة السورية
-
حين تصبح الهوية عبئاً (المثال السوري)
المزيد.....
-
مصر.. رئيس غرفة الدواء لـ CNN: الشركات حصلت على جزء من مستحق
...
-
ناشطة أوكرانية: الوضع في الجبهة أسوأ من أي وقت مضى
-
حادثة هزت الشارع الموريتاني في سابقة غير مألوفة أغتصاب جماعي
...
-
سكان الضاحية الجنوبية في بيروت يعيدون بناء منازلهم بعد الهجم
...
-
سكان كيبوتس -عين هاشولشا- يعيدون بناء المنازل التي تم تدمير
...
-
شولتس يرفض التكهنات بشأن وجود قوات ألمانية في أوكرانيا
-
من حرّض ترمب للتهديد بـ-جحيم- في الشرق الأوسط؟.. إعلام عبري
...
-
بيتر نافارو يعود للبيت الأبيض
-
المرشح الرئاسي الأوفر حظا في رومانيا يتعهد بوقف المساعدات ال
...
-
فوائد مدهشة لشرب القهوة يوميا!
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|