|
صراع المرآة، وسرديات التنورة.
محمد عمرو الجمال
الحوار المتمدن-العدد: 8178 - 2024 / 12 / 1 - 20:26
المحور:
الادب والفن
---
سيرة "الزكية والعمدة": رحلة في عوالم المحبة والإنسانية
لابد من إمعان النظر عند التعامل مع تجربة أدبية شديدة الخصوصية تستلهم عناصر جمالها من منبع يعتبره الناس مألوفًا وشائعًا. هذه التجارب كثيرًا ما تخدع القارئ، حيث توهمه بأنه يعرف مسبقًا موضوع الكتاب أو خطة الكاتب. لكن الحقيقة أن مثل هذه الأعمال، عندما تُقرأ بعناية، تكشف عن مفاجآت تُعيد تشكيل القناعات وتُثير التأمل.
في كتاب "سيرة الزكية والعمدة" للكاتب الموهوب محمد فرحات، يضع القارئ أمام سردية عميقة تمتزج فيها الشاعرية بالسرد التاريخي، مما يجعل النص يُعيد تعريف علاقتنا مع القيم الإنسانية الأساسية. منذ اللحظة التي تتسلم فيها النسخة بين يديك، قد يخيل إليك أن الكاتب سيُعيد إنتاج الشاعرية الصوفية التي أصبحت منهلًا للعديد من الأدباء. لكن ما يتضح تباعًا هو أننا أمام عمل متفرد يعيد نسج القناعات في إطار سرد ممتع ومتميز.
---
1. الحكاية: دودة شريطية تربط البدايات بالنهايات
يقول "أ. م. فورستر" إن الحكاية هي "الدودة الشريطية التي تصل أول القصة بآخرها". وقد أفلح محمد فرحات في استدراجنا إلى حكاية ممتعة محمولة على قارب من السرد البليغ الرصين. الحكاية تدور حول محبة غريبة وغير مبررة عقلانيًا بين شخصيتين رئيسيتين: العمدة وأمه الزكية.
العمدة والزكية: علاقة تتجاوز النسب
المحبة التي جمعت بين العمدة والزكية لم تكن نابعة من وشيجة القربى أو نسب اللحم والدم، بل كانت نتاج علاقة فكرية وروحية استثنائية. الزكية، وهي عقيلة شريفة من آل البيت، تبنت العمدة فكريًا وإنسانيًا ومنحته اسمًا جديدًا وحياة ترنو إلى الكمال. وما إن تلقف العمدة هذه المحبة، حتى صار رجلًا جديدًا وابنًا للزكية الشريفة بكل معاني الكلمة.
---
2. السرد: محبة تُنسج عبر الزمن
ما يُميز السرد في هذا العمل هو قدرته على تقديم طبقات متلاصقة من المحبة، بدءًا من محبة الكاتب نفسه لسيرة "العمدة إبراهيم العشماوي"، وصولًا إلى تلمس الكاتب للأثر كما تلمس العمدة طريق الزكية من قبله.
تداخل الأزمنة والأحداث
اللغة التي استخدمها محمد فرحات عامرة بالوجد، متنقلة بين الأزمنة ببراعة تُظهر التوازي بين الحاضر وزمن مأساة الحسين عليه السلام وأهل بيت النبي. يعكس هذا التداخل كيف أن التاريخ يعيد نفسه، وكيف أن القيم الإنسانية تُختبر مرارًا في كل عصر. السرد هنا ليس ملحميًا بقدر ما هو مطمئن بلغة دمثة تُعبر عن الدماء المراقة بشجن وانتماء، مما يجعل النص قريبًا من روح القارئ.
---
3. الصراع: صفحة مرآة للذات
التقنية التشيكوفية في تحريك الصراع
ما يجعل هذا العمل عصيًا على التصنيف بين الرواية والقصة الطويلة هو التقنية التي تبناها الكاتب لتحريك الصراع. إذ يبدو أن الكاتب قد استلهم طريقة تشيكوف في "بستان الكرز"، حيث تبدو الشخصيات شديدة الإصرار على ما تفعل، حتى يبدو وكأنها لا تتغير أبدًا.
لكن هذا الإصرار أشبه بقطرات ماء تتواتر على عرق الماس حتى تثقبه. في نص "سيرة الزكية والعمدة"، الإصرار على المحبة دون غيرها يُغني عن اختراع حبكة إغريقية ترهق شخوص العمل وتلهي عن الغرض الأصيل من النص. كأن الكاتب من خلال سرد التاريخ يقول: ألا يكفيكم كل هذه الصراعات؟!
صراع داخلي لدى القارئ
الصراع الذي يقدمه الكاتب ليس بين شخوص النص فقط، بل هو صراع داخلي يعيشه القارئ. عبر الحكاية، يجد القارئ نفسه أمام مرآة تعكس تساؤلاته عن أهمية المحبة، وعن قدرته على الإيمان بالقيم الإنسانية وسط صراعات الواقع.
---
4. اللغة: قوة ودفء في آنٍ واحد
لغة واسعة بلمسة صوفية
صوت الراوي في النص مخبوء بعناية، وكأنه يترك للتاريخ والضمير الإنساني مجالًا للتحاور في عزلة محببة. هذا الحوار يحتاج إلى لغة واسعة ومتماسكة، تذكرنا برصانة نجيب محفوظ وعبد الحكيم قاسم، ولكن مع بصمة خاصة لمحمد فرحات. اللغة هنا مذوبة في فناء صوفي، مما يجعلها تعبر عن عمق التجربة بشكل مميز.
قدرة الكاتب على المزج بين البساطة والعمق
ما يميز أسلوب محمد فرحات هو قدرته على تحقيق توازن بين بساطة السرد وعمق الفكر. كل جملة تحمل في طياتها معاني متعددة، مما يجعل النص مفتوحًا على قراءات مختلفة تعكس تفاعل القارئ مع العمل.
---
5. الكاتب: حضور يتأسس على التراكم
محمد فرحات كاتب يسير بخطوات ثابتة نحو ترسيخ مكانته في المشهد الأدبي. في "سيرة الزكية والعمدة"، نرى كاتبًا يشق طريقه بتؤدة، مؤسسًا لحضور قوي عبر التراكم والتنوع. ينجح فرحات في خلق عالمه الخاص الذي يُميز أعماله عن غيرها، مؤكدًا على أصالة صوته الأدبي وقدرته على تقديم رؤية مغايرة للعالم.
---
ختامًا: سؤال الغيبيات والمحبة
في نهاية النص، يتركنا الكاتب أمام سؤال قديم متجدد عن الغيبيات والميتافيزيقا: هل نصدق كل ذلك أصلًا؟ الحكاية هنا ليست مجرد سرد تقليدي، بل هي دعوة للتأمل في جوهر الوجود الإنساني، وفي أهمية المحبة كقيمة جوهرية تضمن بقاءنا إنسانيين.
"سيرة الزكية والعمدة" ليست فقط رواية، بل هي رحلة روحية وفكرية تمس القارئ في أعماقه، وتجعلنا نتوق لأعمال قادمة من قلم محمد فرحات، الذي أثبت أنه أحد أبرز الكتاب الواعدين في الساحة الأدبية.
---
#محمد_عمرو_الجمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زاخاروفا تصف عفو بايدن عن نجله بـ -كاريكاتير الديمقراطية-
-
الشمبانزي يمتلك -ثقافة متراكمة- مثل البشر
-
العشائر الفلسطينية: منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد ل
...
-
إعلامية كويتية شهيرة تهاجم نوال الكويتية بعد سحب جنسيتها
-
(خلجات) المعرض الشخصي للفنان الفوتوغرافي أنور درويش
-
بحضور شقيقتها.. افتتاح نصب الشاعرة نازك الملائكة في بغداد
-
مسرحية عراقية تفوز بـ-الفضية- في مهرجان قرطاج
-
فيلم تونسي يحرز 5 جوائز في مهرجان تورينو السينمائي بإيطاليا
...
-
المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكرم النجم الأميركي شون بين
-
في الذكرى العاشرة لرحيل رضوى عاشور.. -الطنطورية- تنتظر العود
...
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|