أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - حلم لبناني قصير















المزيد.....

حلم لبناني قصير


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 8176 - 2024 / 11 / 29 - 02:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


نحن الجليليّون، نشأنا على حب لبنان، فهو بالنسبة لنا حلم وأمنية. كبرنا على عنّات مواويله وطربنا كلما غانج عود "جارة الوادي" وترغل "زغلول" وصدح. تعلّمنا عن "سبعين" ميخائيل نعيمة فسكنا بسكنتاه وركضنا نفتش عن أقمار أعمارنا في شخروبها. عشقنا "مطران" بعلبك "وطلالها" اللذين علمانا كيف تصير التناهيد أكوام فل ونرجس. أحببنا "بعلبكه" وصلّينا كي نقف على أدراج "باخوسها" كما وقفت عليها "فيروزة الكون"، ربة السعادة وأيقونة العزة والشرف. حملنا لبنان صغارا في صدورنا "كالهدايا في العلب" ورسمنا على حيطان ليالينا وجه "زحلته"، وغنينا، كلما أنهكنا الشوق، "سعيدها "، شيطان اللغة وصاحب قدموس ورندلى، وطرنا مع "شاله" نحو ذياك القمر . كبرنا وصار لبناننا وطن الاقحوان المشتهى ووعودا لعاصفة الدرويش وتوأم روحه فزحفنا معه خفافا، على طنات عوده وشجى.
فرحنا عندما سمعنا خبر الاعلان عن وقف النار بين إسرائيل ولبنان. كان فرحنا مقرونا بترقب وبقلق مما سنواجهه، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، في المستقبل القريب؛ فالحرب على لبنان قد تنتهي، لكن الحكومة الاسرائيلية التي أشعلتها ما زالت ماضية في معاركها على معظم الجبهات الأخرى وبضمنها على الجبهتين الداخليتين: بقايا ثغور النظام الاسرائيلي السابق، وبقايا حريات أساسية كانت متوفرة لنا.
لقد حافظ المواطنون العرب، طيلة الفترة الماضية، على نمط من السلوك المتّزن وتصرفوا بقدر كبير من ضبط النفس والحذر الواجب اتّباعه، متجنّبين أن يتحوّلوا إلى "قطعة اللحم" بين سندان مواطنتهم في دولة مارقة ومطارق مؤسساتها المتأهبة للانقضاض عليهم بنهم.
بيد أن الحرب تبقى هي الحرب، حاصدة الأعمار وموئدة الآمال؛ وإن تواجد الشخص في مرمى نيرانها فحتما ستصله. وهذا فعلا ما حصل عند اشتداد وتائر القصف الاسرائيلي على المواقع اللبنانية وردود عناصر حزب الله عليها برشقات صاروخية أصاب بعضها، أو بعض صواريخ اسرائيل الاعتراضية، القرى والمدن العربية، فعاش أهلها حالة لم يعهدوها من قبل وقد تسيّدها، بالمختصر ، القلق وخوفهم حتى الهلع.
أسكن وعائلتي في قرية كفرياسيف القريبة نسبيا من الحدود اللبنانية. عاشت كفرياسيف مثل سائر أخواتها حالة من الفزع الدائم، طيلة الاشهر الماضية، ونالت نصيبها من هذه الحرب عندما سقط على أحد بيوتها صاروخ لم ينفجر بشكل كامل؛ ولو انفجر لسقطت كل بيوت الحارة التي نسكنها على رؤوس سكانها، كما أخبرنا خبراء المتفجرات الذين حضروا الى الموقع.
فرحنا لوقف الحرب؛ لا بسبب ما حصل في كفرياسيف وسائر القرى العربية وحسب، فهذه تعتبر حوادث طفيفة بالمقارنة بمن أحرقتهم نيران القنابل وأطنان المتفجرات، أو من سقطت على رؤسهم عماراتهم وبقوا مدفونين تحت ركامها أو من هجّروا من بيوتهم وتاهوا. فرحنا لأن ما كان يحدث كان عبثيا ولا يستوعبه آدمي عاقل؛ فرحنا لأننا نحب لبنان الساكن دومًا في أحلامنا وفي صلواتنا.
ليلتها، عندما توقفت الحرب، ذهبت الى النوم وفي قلبي فرح عظيم وبقايا تعب وحسرة وغضب كبير؛ فالجنود والناس، هكذا تقول الأساطير ويجزم الشاعر، يموتون ولا يعرفون من كان مهزومًا ومن انتصر.
نمت وحلمت.
وصلنا مطار بيروت برحلة جوية اقلعت من مطار عمّان. نظرت فوقي فقرأت يافطة مكتوبة بالعربية وعليها "بيروت ترحب بكم". كاد قلبي ينفطر ولم أصدق أنني أطأ أرض أحلامي، فنظرت الى رفقائي وأحسست أنهم مثلي يحلمون.
تخطينا نقطة فحص الجوازات وسارت أمورنا بسرعة، فالموظفة استقبلتني ببسمة بيروتية وختمت جواز سفري وتمنت لنا اجازة سعيدة. اعتلينا الحافلة، وبدأنا نطير نحو عتبات ماضينا بحدقات تفتحت على رعد وديع الصافي وعلى عبقريات الرحابنة وابحاراتهم في تعاريج السهول الممتنعة، ورصّعوا سماء الكون بالسعادة وبالفرح.
وصلنا فندقنا بعد منتصف الليل. لم نشعر بأي تعب أو رغبة في النوم، ففي بيروت لا ينام البحارة والعشاق والشعراء.
رأيت نفسي في الحلم أجلس مع المرشد المسؤول عن زيارتنا، أناقشه حول البرنامج المعد لنا "كحُجاج" من المفروض أن يزوروا عددا من الأديرة والكنائس والمواقع السياحية المرتبطة بحكايا تلك الأساطير القديمة. كان المرشد لطيفا وأصغى لكل كلمة قلتها. في النهاية اقتنع بأننا مجموعة عشاق جئنا الى لبنان الذي تربينا على أكتافه وحملناه على أهدابنا كالندى ووضعناه في صدورنا تمائم نستلها كلما ضاع منا أفق أو غابت عنه حبيبة. قلت: لا بأس أن نزور الأديرة ذات المكانة التاريخية والأهمية الحضارية، فلبنان يزخر بها؛ لكننا لن نترك لبنان قبل أن نزور ما جئنا من أجله مهما كانت النتائج أو الثمن. ضحك وطلب أن أعطيه قائمة أمنياتنا. اعطيته فكتب. سجّل وطوى الورقة ودسّها في صدره وتركنا مع طلائع أول فجر بيروتي تدغدغ أعيننا.
كنا في صالة الافطار عندما وصل في الصباح مبتسما. توجه نحوي وأخبرني بدون مقدمات، أنهم وافقوا على تعديل برنامج الزيارة وسيسمحون لنا بزيارة جميع الأمكنة باستثناء زيارة بعلبك والمختارة. حاول أن يشرح لي أن الأسباب لمعارضتهم تتعلق بالأوضاع الأمنية السائدة في تلك المناطق، وأفهمنا أن للبنان قواعده الخاصة وليس كل ما يتمنى عشاقه يُنل. ناقشته بلهفة وباصرار حتى اقتنع وفهم أننا على قدر كاف من المسؤولية والنضج لضمان سلامة الزيارة وسلامتنا، فوافق.
كان حلمي قصيرًا ومليئا بالتفاصيل والحكايا وبالحنين.
في اليوم الأول بدأنا بزيارة مبنى مهجور، شغله مرة مصنع للحرير في مخيم "الدامور" ، ثم انتقلنا الى مدينة صيدا فوقفنا على حجارة مينائها وتجولنا في أسواقها وتوقفنا عند مبنى على جداره علقت يافطة كتب عليها "مدرسة عكا". صعدنا نحو "دير المخلص" وتنشقنا زهور منطقة جون.
تتالت الأيام، فزرنا مدينة ضهور الشوير التي ما زالت ساحتها المركزية تردد زفرات شاعرها، خليل حاوي. لقد استفزه مشهد اغتصاب دبابات جيش الاحتلال الاسرائيلي حضن عروسه/بيروته، فقرر بعزة جنونية أن يرحل مجسّدا، على طريقة أبطال الملاحم، معنى آخر للحرية وأطلق روحه نحو العدم. مررنا على دير القمر فشربنا القهوة تحت ظل تمثال للرئيس كميل شمعون، وزرنا فيها متحف المعلم كمال جنبلاط، ثم انتشينا في ساحة قصر فخر الدين وخبِرنا كيف كان لبنان مرّة صنوّا للفخار وللشهامة.
في زحلة زرنا قبر الشاعر سعيد عقل الذي أوصى أن يكتب على بلاطة قبره " أقول: الحياة العزم حتى اذا أنا انتهيت تولى القبر عزمي من بعدي" ، ثم توجهنا الى مقهى "عرابي" الذي تعانق طاولاته مياه نهر "البردوني" فحدثنا النهر أين وكيف نحت الأمير أحمد شوقي رائعته في زحله وقال فيها مناجيا التاريخ : " إن تُكرِمي يا زحلُ شِعريَ إنني ، أنكرتُ كلَّ قصيدةٍ إلّاك/ أنتِ الخيالُ: بديعُه ، وغريبُه، ألله صاغكِ، والزمانُ رواكِ". هناك في حضرة العز أكرمتنا "جارة الوادي" وكان "محمدها" حاضرا بكل وقاره وهيبته.
كنا نسابق الزمن، كأطفال يخشون أن تسرق الأصباح منهم أحلامهم. تنقلنا كالفراشات تتراكض في بساتين الشوق واللهفة. كان فرحي معجونًا بغصة، فلبنان الذي جئناه وجدناه دولا ومحظيات. لم تصادفنا حدود، كتلك التي بين الدول؛ لكننا مررنا بحواجز كانت تشغلها عناصر جيش لبنان. كانوا، او هكذا شعرت، ليس أكثر من تذكارات هشة لسيادة منسية في دولة لم تعرف معنى السيادة إلا وهي "منهوشة" بتوافق خبيث بين طوائفها وميليشياتها. بعد كل حاجز شعرت اننا ننتقل من مقاطعة/دويلة الى أخرى. عرفت ذلك من تغيير الاعلام وصور الزعامات المنصوبة على جنبات الشوارع الرئيسية وعند مداخل المدن وفي ساحاتها. شارات وشعارات ورايات تدلّك أين انت وأي سيادة ترعاك .
كان حلمي قصيرا وموجعًا. زرت فيه بعلبك ووقفت أكفكف دموعي على أدراجها وقبضت على ذرى التاريخ بين أعمدة هياكلها، وزرت بشرّي جبران، ومختارة جنبلاط ونيحا وديع الصافي حاضنة قبره، ودير القديسة رفقة ومار انطونيوس وجبيل ببهائها التليد، وشوارع عمشيت التي مشيتها وأنفاس "مرسيلها" تدفىء نهاري. وكانت بيروت المدينة التي ينام فيها الخوف والشعر والقمر.
نمت فرحا لتوقف الحرب على لبنان وصحوت وفي قلبي غصتان وخوف؛ غصة على لبنان الجريح الذي لم يهتد بعد الى طريق خلاصه، وغصة على فلسطين الذبيحة.



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل كانت فلسطين السبب بالإطاحة برئيس الأساقفة
- اسرائيليات،إطلالة على فكر المؤسسة الصهيونية من خلال وثائقها
- الانتظار حكمة المتعقلين أو خيار العاجزين
- ماذا بعد الاعتداء على مروان البرغوثي ورفاقه
- حتى يفتح باب الاجتهاد،الدم يصرخ: أوقفوا هذه الحرب اللعينة
- يا ساكني الزنازين اتحدوا
- المدارس العربية في اسرائيل وذكرى السابع من أكتوبر
- اسرائيل وحروبها على أربع جبهات
- مشاهد: حين كنا طيبين وسذجا
- حين تنتظر القدس الحريق
- هل سيصبح رئيس أساقفة كنتربري حليف الحق الفلسطيني؟
- في ذكرى وفاة ليبوفيتش،من النشوة الى القومية الوحشية البهيمية
- ما يشبه الرسالة للرئيس يتسحاك هرتسوغ
- عندما يسير التاريخ إلى الخلف
- اليوم العالمي لنصرة أسرى فلسطين
- بين تيهين: هجرة أم تهجير
- تسعة شهور مضت والغدُ بظهر الغيب
- توفيق زياد قائد ومثقف مختلف
- جامعة حيفا كمسرح متخيّل لمشهد اليوم التالي
- وقفة تفكر على عتبات محاكم الاحتلال العسكرية


المزيد.....




- الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لهجوم جوي أوكراني في روستوف
- -حزب الله- ينشر مشاهد يظهر فيها رسائل تركها مقاتلوه في المنا ...
- المخابرات العراقية تطيح بشبكة مخدرات دولية
- بوريس جونسون يعترف بأن الغرب يشن حربا بالوكالة ضد روسيا
- تونس.. رئيس البرلمان يستقبل رئيس لجنة الأمن القومي بمجلس الش ...
- خريطة وقف إطلاق النار في لبنان تثير جدلا واسعا وميقاتي يعلق ...
- عالم زلازل تركي يحذر: الدورة الزلزالية اكتملت
- لأول مرة.. ماكرون يصف قتل الجيش الفرنسي جنودا متمردين غرب إف ...
- تشاد تلغي اتفاقيات التعاون أمني ودفاعي مع فرنسا وسط تراجع عل ...
- اندلاع حريق بمنشأة طبية في كييف وبوتين يلوّح بقصف -مراكز صُن ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - حلم لبناني قصير