إن درجةَ انفتاح الشعر الكردي نحو آفاق الرؤى الشعرية العالمية، أي أسئلة الكينونة الكردية، يعود بالتأكيد إلى نضوج التكوين الجسدي الكردي، كحامل لهذه اللغة التي يجسد نفسه فيها، وهذا مايتجلى في أبهى صوره، أي في لغة الشعر؛ إذاً فإن اللغة الشعرية الكردية، هي مرآة لأبعاد هذا الجسد الذي يتغلغل في عمق اللغة، ونحو انفتاح ماهيتها المهلكة تحت ثقل الانحسار، والمسح.
والسؤال الذي يُشغل الجمع الكردي، كجسد واحد وإلى اليوم، هو: هل تمَّ تحرير هذا الجسد من نير السلطات المضطهِدة؟. إن هذا السؤال، يحدد بالتأكيد كيفية انفتاح هذه اللغة على الحوارات المختلفة، أو تعددية الألوان. والشعر الكردي، وعبر مختلف الأزمنة، أُجبر على أن يتحملَ كل الأسئلة الحياتية والجمالية الكردية بآن واحد؛ وهو مثل الجسد الكردي الذي تحمّل على كاهله القفز نحو قوقعة صوته الحزين الفريد، حتى يرنّ صدى هذا الجسد داخل فنائه، وينتشر صوته الصامت نحو الخارج المغلق.
هذه الحالة أثقلتْ جسدَ الشعر الكردي، بحيث أصبح هذا الشعر يتقبّل الصور السياسية، أكثر من أن يكونَ صوراً جمالية ورؤيويةً، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الحركات الشعرية والتي أثّرتْ على الشعر الكردي، كانتْ من خلال الشعرية العربية والفارسية، وخاصة العربية، فكان لها تأثير كبير على مستوى نضوج الشعر الكردي، وهي في الأصل تعود إلى مصادر غربية في الشعرية والحداثة، ثم تم نقل هذه التجارب الشعرية إلى اللغة العربية بشكل ركيك، وبالتالي إلى الكردية من العربية، إن نقل هذه التجارب من خلال لغة ثانية، يستهلك جوهر هذه التجارب، ويفقد حيويتها. ومن هذا المنطلق، تعقدتْ تهيئة اللغة الكردية في استقبالها للحوارات الجمالية الشعرية ـ بالطبع ثمت استثناءات على الساحة الشعرية العربيةـ كذلك الحصار السياسي المفروض على الجمع الكردي من قبل السلطات الحاكمة، لايعطي مجالاً مفتوحاً للشعر الكردي لمحاورة جماليات الكينونة الكردية، وذاتيتها في انفتاح الروح الكردية على العالم.
لقد أنتجت اللغة الكردية نصوصاً شعرية بارزة، وشعراء بارزين من أمثال: "نالي 1797ـ1855"، "مه حوى 1830ـ1904"، "حاجى قادر كوى 1815ـ1892"، "مولوى 1806ـ1886"، "كوردى 1809ـ1849".. الخ، وذلك قبل أكثر من مائة سنة، وقد طرح هؤلاء الشعراء ليس فقط الأسئلة الشعرية المحلية، بل العالمية، ولم يكونوا شعراء فحسب، بل كانوا مفكرين في شفافيتهم الصوفية أيضاً. ومن ذلك الحين استمر الشعر الكردي يجسد سؤاله الخاص، مستمراً إلى المراحل التالية. وقد طرح أحد هؤلاء الشعراء، "مه حوى"، شطحات لها مذاق التصوف الفكري، والذي يذكّرنا بالشك السقراطي:
"أنا في حوار دائم، لكن، أقول لاأفهم،
وأنا السائر في طريق أبدي، لكن، لاأصل إلى أية نهاية،
زرعتُ عينيّ، لكن، لم أرَ أية زاوية للأمل،
أصبح قلبي بحراً من العلوم، لكن، لاأفهم الألف والباء."
من خلال هذا المقطع القصير، يشرح "مه حوى" لنا بأن معرفة الإنسان عن الكون والعالم مهما كانت متسعة، فإنه يظلّ مشكوكاً من حجم معرفته عن الوجود.. الخ
لقد ظهر في الشعر الكردي الحديث، في كردستان العراق، صدى أولئك الشعراء الكلاسيكيين، وبأشكال مختلفة، لكن القضية السياسية، وبحكم تهديد الكيان الكردي بكل الأشكال الحداثوية من قبل الأعداء، منعت هذا الصدى الشعري في الوصول إلى النضج الجمالي. ثم ظهرت في الستينات بوادر شعرية جديدة، لكنها ورطت نفسها في السياسة، وكما سيحدث في السبعينات كذلك. إن هذه الحالة السياسية، فتحتْ مجالاً خصباً للشعراء السلفيين، لاستغلال هذه النقطة الضعيفة/الجانب السياسي الشعبي، فتحولوا إلى بومَةٍ ومهرجين في الساحة الشعرية الكردية.
لقد اضطرت حركة الحداثة الشعرية الكردية أن تخاطب باسم الجمع الكردي، هذا الخطاب الجمعي، قلّص الشعر الكردي إلى المعارك السياسية، وأخيراً مواجهة الأعداء، فبقي هذا الشعر إلى الثمانينات، يخاطب نفسه باسم الجمع، وليس الفرد، وفي النتيجة تحول إلى الظاهر، وليس الباطن؛ وتجسدتْ هويته عبر منظار الآخر، وليس الذات.
ومنذ الثمانينات، دخل الشعر الكردي مرحلة جديدة، نستطيع أن نسميه بـ "كلام الذات"، أي محاورة الداخل، ووراء هذه المرحلة الشعرية أيضاً الأسباب السياسية، بالإضافة إلى الأسباب الذاتية: ففي الثمانينات وجد الكردي نفسه أمام أبشع حرب إبادة يتعرض لها في كل تاريخه، فقد مارس النظام العفلقي، سياسة التهديم للكردي، واستخدم في ذلك أكثر الأسلحة المتطورة تكنولوجياً، وأقساها، وفي نفس الوقت مارس سياسة التعريب، والسياسة النفسية المرعبة عبر وسائل الإعلام، وهذه السياسة التدميرية من قبل صدام حسين الفاشي، حاصرت الحركة الكردية المسلحة في جبال كردستان، بحيث أصبحت الحركة الكردية أمام إمتحان صعب، وفي النتيجة بدأت بالتراجع، مما دفعت بالإنسان الكردي إلى التشتت الكامل: المطاردات، السجون، التهجير، التعريب، والفرار من الجيش، كل هذا كسر جسد الكردي، وفتتَ تماسكه، مما أدى في النتيجة إلى أن ينعزلَ الكردي داخل نفسه، ويتعمق داخل كهوف الذاكرة، ودهاليزها.
إن الدخول إلى الذاكرة المحصورة بالدمار، شجع الشاعر الكردي في كردستان العراق، إلى الدخول في الذات، والسفر طويلاً نحو الجذور والرموز التاريخية، فبحث عن المعرفة الجمالية، والفكرية العميقة، فتميزت التجربة الشعرية في هذه الفترة بطرح الأسئلة الفردية من منطلق المعرفة الثقافية والجمالية، ومن خلال هذه الأسئلة، بدأ الحوار مع الذات الشاعرة. وكان الهدف من وراء هذا الحوار، هو بناء الهوية الذاتية، ومن ثم الدفاع عن كينونة الجسد الكردي. وقد حاولت الأصوات الشعرية في هذه الفترة أن توجّه نقداً إلى النقاط الضعيفة في الحركة الشعرية السابقة عليها، ثم قرأت الإشارات والرموز الكردية بشكل جديد، ومن خلال هذه القراءة، أعطتْ صورة أكثر حيوية، وحضوراً أكثر جدة للحياة الكردية، والتجربة الحاضرة؛ بتعبير آخر، إن الشعر الكردي في الثمانينات، حاول إيلاء الأهمية الكاملة لجمالية اللغة الكردية، وبتعبير "هايدغري" حاولت اللغة الكردية أن تكونَ بيتاً/ مسكناً للوجود الكردي، كما حملت هذه التجربة إيقاعاً وحركة غامضة ومتشابكة، كخيوط العنكبوت، مثل الوجود الكردي نفسه. ورسمت مشاهدها بصورٍ وإيقاعاتٍ ذات نسيج ثري، وملآى بمناظرَ وأنفاس شبيهة بهمسات الممرات الجبلية في كردستان.
لقد تحولتِ اللغةُ الشعريةُ في شعر الثمانينات، من "نحن" إلى "أنا"، ومن "الخارج" إلى "الداخل"، من الشعارات والثوريات، إلى جمالية الكلمة، وشفافية السياق والمعرفة، وقد شكّل هذا المناخُ الشعري الجديد انقطاعاً بنيوياً مع السلطة الشعرية الحاكمة في مساحة المطبوعات الكردية، هذه السلطة التي تعود بداية سطوتها إلى الستينات، واستمرت إلى اليوم، وهي تتكون من أصوات الستينات والسبعينات، والتي شحنت الشعر الكردي بالشعارات والمعاني المعلّبة، وتعود مرجعيتها إلى الأجواء الستالينية، وليست الماركسية، وقد اصطبغت صورها بالرغبات القومية مغلفةً بنَفَسٍ "تقدمي"، كما كانت هذه الشعارات سائدة آنذاك في كل الشارع العراقي، ثم تعدت إلى الشارع الكردي؛ وهنا يمكن تشبيه سطوة هذه السلطة الشعرية بهيمنة السلطات العسكرية والملكية على المنطقة، وكان شكل هذه التجربة أشبه بالتقدمية الساذجة، أكثر من القومية الحاضرة، أبوية، أكثر مما في الحرية. بالمقابل كان ثمت أصوات شعرية أخرى في نفس الفترة، تكتب بهدوء، وترسم الواقع الكردي وذات الشاعر في آن واحد، وبألوان مختلفة. هذه الأصوات تجسدت نصوصها بالزخارف اللغوية والشكلية، وعبرها تحركت نحو أفقها الخاص، أي شمولية الحالة: الذات الشاعرة مع الجمع الكردي، وقد سمعنا رنينَ هذا الشعر منذ بدايات الثمانينات. لقد جاء هذا الإنفتاح الشعري بأجواء هادئة، فنسمع لأول مرة في الشعر الكردي صوت الجسد الأنثوي، فتحول الأفقُ الشعري الكردي من الخشونة الذكورية، إلى الأفق الملون مثل قوس قزح، لقد أصبح هذا الأفق الشعري المفتوح حواراً تعددياً، وجوقة متناسقة مثل نسيم الجبل.
لقد تكونت هذه التجربة من مجموعة من الأصوات الشعرية، ولكل واحد من هؤلاء، له خصوصيته، لكن مايجمعهم هو خطاب "الأنا" وليس الـ "نحن"، وقد تبلورت هذه التجربة، وتجسدت أكثر في التسعينات، ولازالت مستمرة في سفرها نحو كشوفات شعرية جديدة، وتحرير الشعر الكردي من الأجوبة السطحية، إلى طرح الأسئلة. لقد حفلتْ جغرافية الشعر الكردي في كردستان العراق بنصوص نثرية أكثر من أي وقت آخر، وكما سنرى في التسعينات، أن هذه النثرية أصبحت مشهداً سائداً على كل الساحة الشعرية الكردية، المهم هنا أن نقولَ مع "أكثافيوباث"، تأويلاً، لانقلاً: "إن مهمة القصيدة العظيمة، هي في اكتشاف أرض جديدة، وعندما تضع القصيدة قدمها على الأرض، فانها تتحول إلى الرماد، حتى تكتشف أرضاً جديدة."
ويبقى عائق وجود الجيل السابق السلفي، الذي يركض لاهثاً وراء السلطة، ويحاول أن يفرض نفسه من خلال تبعيته السلطوية، ويلعب دوراً مانعاً في ارتفاع هذه الأصوات الأصيلة في الشعر الكردي الحديث.
ستوكهولم 15/1/2001
ينشر بالاتفاق مع مجلة حجلنامه، من ملف الشعر الكردي المعاصر في كردستان العراق