|
محراب البهجة: راية الحبّ البيضاء - رواية تؤسس أدبا كنعانيا (1)
حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)
الحوار المتمدن-العدد: 8172 - 2024 / 11 / 25 - 16:47
المحور:
الادب والفن
لا تزال النافذة مغلقة منذ أول عهدي بهذا الزقاق. مررت من هنا، قبل ما يقارب عقدين من الزمان؛ مروري في هذا الزقاق، متعمد، لكن، ما هو الدافع؟ لا أعرف! اعتقد، أنّ هذه النافذة، ظلت مغلقة، منذ مررت بها، أول مرة! هل تمتلك برهانا يؤيد اعتقادك المزعوم؟! سألتْ رفيقتي بنبرة فيها سخرية ساحرة؟! أثار سؤال رفيقتي مشاعر مختلطة في نفسي: هل تقوم معتقداتنا، الصغير منها والكبير، على البراهين؟! عليكِ أن تسلمي بصحة ما أعتقد بشأن النافذة؛ ردتْ بتعال: ذَكَرٌ مثل بالون يُنفخ بهواء فاسد وفوق طاقته! قلت بوجه متجهم: ليس من الحكمة أن نختلف، ومنذ أول المشوار أيتها الرفيقة! لا تَنْسِ، أن صروحنا الإنسانية الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية، قائمة كلها على مسلمات نفسية لا صلة لها بالبراهين الجامعة المانعة كما يقول أهل المنطق! لم تقتنع رفيقتي بما قلتُه؛ أنا أعرفها؛ إنها مشاكسة، لكنني أحب مشاكساتها! مِن نعمة تربيتنا علينا، أنها علمتنا أن نوجِّه التهم، لكل من يختلف معنا! قلتُ بحدّة الآمر: أمامك خياران، أنْ نفترق منذ الآن؛ أوْ تنصاعي لي وتقبلي كل ما أقوله وأفعله؛ لا تنسِ، أنا قوّام عليكِ، تحلِّ بالعقل! لكن، منذ متى تمتلك النساء عقلا أيها المغرور الواهم؟! قالت بسخرية؛ أجبتُ بغطرسة: هذا مرهون برغبتي! حياتنا، نحن الآدميين، غرور معتوه تحشوه الأوهام، هل يضيرك أيتها الرعناء، أن تضيفي وهْما جديدا إلى أوهامنا العريقة، فيزيد غرورنا؟! أدارت لي ظهرها، لوت عنقها، رمقتني بنظرات فيها صرامة رقيقة، وقالت بثقة وأنوثة عارمة ناضجة: نختلف ولكننا لا نفترق! بدا منذ اللحظة الأولى لاشتباكنا العيني، بأن هناك حصانة لدينا ضد الافتراق! قلنا في وقت واحد: حسنا، نختلف ولكننا لا نفترق! وابتسم قلبانا... نافذة بهيجة مؤصدة، وبحديد ثخين صدئ، منذ البدء! الطبيعة وحدها، تكفلت بإحداث شقوق ضيقة ومتعرجة، أكلت صفيح النافذة، تسمح بتبادل الهواء بين داخل وخارج الحجرة، ذات القاع الغاطس في الأرض، المسقوفة بقِرميد كالح هرِم ومتآكل! نافذة بهيجة وحجرتها، ليستا استثناءا من حال عموم مساكن معسكرات المُهجَّرين الكنعانيين ، التي أنشأتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التي أنشأتها منظمة الأمم المتحدة بعد قسر أهالي أرض كنعان الشرعيين، على الهجرة من مدنهم وقراهم وبواديهم، التي ولدوا فيها من آباء وأجداد يمتد تاريخ وجودهم في وطنهم إلى خمسة آلاف عام، أو يزيد! تسمح هبة الطبيعة، للمار قرب نافذة بهيجة، بمشاهدة باب صفيح مهترئ، يغلق الحجرة؛ كلما مررت من هنا، يدفعني فضولي للتوقف، لكنني كنت سرعان ما أواصل سيري؛ غيري كان يتلصص من شقوق النافذة، لكنه لم يكن يظفر بشيء؛ فصاحبة الحجرة كانت خرساء باختيارها، والظلام ستار كثيف يحجبها عن عيون المتطفلين الذين لا يقوون على احتمال رائحة تتسلل من شقوق النافذة الضيقة، إلى الممر الضيق الرطب، فيلوكوا ألسنتهم ويرتدّوا بائسين تخنقهم حشرجات تئن بهلوسات مبهمة لكنها تفضح معاناة قاسية وعميقة الجذور؛ كان لدى جميع أهالي المعسكر، باستثنائي، الحاح يدفعهم إلى استجلاء ما يقع على الجانب الآخر، من جدران بهيجة المصمتة؛ أنا كنت أهوى المرور من جوارها، مرتين يوميا، وأنا في طريقي، إلى خلوتي، صباحا، وأنا عائد إلى بيتي، مساءا... كنت أخترق الصمت المعتاد والمهيب، الذي يلفّ الحجرة، بسكينة تحرص على أن لا تعكر صفاء نفْس بهيجة وهدوء قلبها... وكانت الروائح المنبعثة من الداخل، تنبئ بأن هناك حياة مفعمة بالحياة العميقة! اليوم، لم أمرّ من زقاق النافذة المغلقة وحيدا، كان الليل يدنو من الفجر، فلم يزل الزقاق الضيق، يتدثر بالعتمة الملبدة بغيوم قاتمة، وبموت تام للحركة الآدمية... ويتطوع الهواء، بحمل الهمسات الرهيفة من بين الشقوق النحيفة... كانت الهمسات مكتومة وصاخبة... كانت رفيقتي بصحبتي؛ أصاخِت السمع! ألصقتْ أذنها بالصفيح، ورغم أن الوقت كان شتاءا قارس البرد، إلا أن صفيح نافذة بهيجة كان حارا؛ كانت رفيقتي، تحتمي من البرد بمعطف صوفي ثقيل وطويل ومبطن بالفرو، حازت عليه من هبة قدمتها وكالة غوث اللاجئين؛ لم تطقه؛ خلعتْه! ارتعشت؛ همستُ في أذنها الأخرى: ارتدي معطفك! تمتمت: لا أرتعش بسبب البرد! فهمت؛ انتصبت رفيقتي وأسدلت جفنيها واهتّز جسمها وكتمت صيحة نشوانة، وحضنتني والتصقت بي وضغطت جسمي بين ذراعيها بعنف وارتجّت ورجّتني معها ثم ارتخت ذراعاها وألقت رأسها على كتفي الأيسر... ارتفع آذان صلاة الفجر؛ فررنا ولا تزال نارنا مضطرمة! أنا ولدتُ عام 1879م، وأكاد أنهي عامي التسعين، ورفيقتي تدنو من بلوغ عامها العشرين؛ ولدتْ عام 1949م؛ نحن الآن في عام 1969م. مرّ عامان على احتلال الكيان الإسرائيلي، لباقي الأراضي الكنعانية، خلال الحرب التي عُرفت بحرب الأيام الستة، التي هُزمت فيها جيوش مصر وسوريا والأردن، ما اسفر عن سيطرة إسرائيل على أراض تتبع هذه الدول! كان المهاجرون اليهود إلى أرض كنعان، قد أعلنوا قيام دولتهم في أرض كنعان، عام 1948م، بعد انسحاب قوات الاحتلال البريطاني منها... على عتبة دار خلوتي، انتبهت رفيقتي إلى أنها تركت معطفها الثمين، تحت نافذة بهيجة. هرولت إلى هناك؛ الحمد لله، لم يمر أحد من الزقاق، سكان الزقاق، لم يذهبوا للمسجد، لأداء صلاة الفجر، اليوم الجمعة، والماء قارس، ومواقد كاز اللاجئين فاضحة، خجل النساء يمنعهن من تشغيلها، في الليل الصامت، ولا يجرؤ أحد على الاغتسال بماء شديد البرودة؛ وإمام المسجد القريب، يمنح نفسه إجازة أسبوعية، تزامن صلاة فجر كل يوم جمعة! في دار الخلوة، سألتني رفيقتي عن اسمي؛ أجبت: ممدوح المسيلمي؛ وأنت؟ تجاهلتْ سؤالي؛ قالت بسخريتها الساحرة: أنتَ من سلالة مسيلمة الكذاب! كلّا؛ أنا من سلالة لم تحمل لقبا، وكان أجدادي المباشرون مسلمين ورعين؛ أما أجدادي القدماء، فكانوا خليطا من كل الأديان والمذاهب! لكن جميع أجدادي كانوا متسامحين، ولم ينشأ بينهم اية اختلافات بسبب تعدد معتقداتهم، والواقع، لم يشهد تاريخي السلالي اية اختلافات؛ وكان أجدادي يقومون بالإصلاح بين المتنازعين، المتباينين في المشارب والأهواء والأطماع! سالتها: ما اسمكِ؟ مال رأسها وضاقت عيناها وتبسمت وتمتمت بغنج أنثوي ناعم: سمِّني أنت! أمسكت كفيها بحنانٍ معّتق شبق: بهية الزعرة! ضحكنا بصخب، وقالت: حسنا؛ لكني أريدك أن تعرف، أنني لستُ من خارج سلالتك القديمة، غير أني من أجداد ينتمون إلى ملّة أخرى! "الزعرة" لفظ عاميَ أصله "الزعراء"، وفي لغتنا العربية، كلمة زعراء تعني: سيئة الخلُق! أنا لمْ أقصد من تسميتها بـ"الزعرة"، أنها سيئة الخلق! ما ألمسه منها، أنا وجميع من يعرفها، يؤيد أنها على خلق رفيع؛ وسميتها "الزعرة"، على سبيل التحبب، كما يوحي بذلك، استخدام العامة له، وكان هناك دافع آخر لي، نبت من تجسسنا على نافذة بهيجة؛ فالأخيرة معروفة لدى الناس هنا، بلقب "الزعرة"! داعبت أناملي خصلات شعر بهية الشقراء الناعسة حول وجهها الوضّاء، وجذبت راسها، وطبعت قبلة على شفتيها المكتنزتين، وخاطبت عيناي المشعتان ببهجة عارمة، عينيها الخضراوين: لا أنوي الاستخفاف بشأنك، بتسميتك زعرة! حضنت رأسي الأشيب، وطبعت قبلة مشتاقة على فمي، وداعبت وجنتيّ بلسانها وشفتيها معا، وقالت بدلال وغنج: أنا وأنت أزعران! اهتز صدرانا بالضحك الصاخب؛ ثم نهضتْ، وتراجعتْ خطوتين إلى الوراء، وحركت يديها، في إشارة تمثيلية، وقالت بصوت صاخب مرح: ها قد فُتحتْ الستارة؛ ثم عادت للخلف، بسرعة البرق، ثم تقدمت للأمام، بخفة ورشاقة وبابتسامة عريضة وعينين مزمومتين، ووجنتين متوردتين، وفتحت راحتيها البضّتين، ومدّت ساعديها في الهواء، وانحنت، كما يفعل الممثلون، عندما يندفعون من باب المسرح الخلفي، إلى حافة خشبته القريبة من جمهور المشاهدين... وانتصبتُ أنا واقفا وصفقتُ بحماس وصحت: حبيبة الجماهير أنت يا زعرة! طبعتْ قبلات على أصابع كفيها المضمومة، ورمتني بها؛ وقالت: أيها الجمهور الواسع، نحن اليوم مع مسرحية قصيرة ومن فصل واحد، وبطلتها واحدة! وفجأة، اكفهرَّ وجه بهية الزعرة، وانكمش جسمها، وطأطأت راسها، وجلست القرفصاء جانبي جامدة العينين والساعدين والساقين! أصابني الذهول واضطربتُ، وسألتها بقلق حنون: ما بك؟! لاذت بصمت فاقم خوفي عليها؛ صِحتُ بفزع: ما بك يا بهية؟! حملقتْ في الفراغ، وتمتمت في شرود: هل ينبغي لي أن أتجسس على امرأة أكبر من جدتي، تؤدي صلاة الحياة، وأنا مختبئة مثل جربوع في عباءة الظلام؟! وأجهشت بنحيب، انتقلت عدواه لي؛ وبحركة لا إرادية، جذبتها من ذراعها، وأجلستها في حضني، وضممتها بعنف شاب فائر النار! داعبت أناملي المرتعشة خصلات شعرها، المنسدلة على صدرها الناهد، فلامستُ حلمتيها، وتحسستُ قلادة كانت تتدلى من عنقها المرمري الطويل الممشوق، وتستقر وادعة آمنة، تحت ثيابها الداخلية؛ فبادرتْ بإظهارها: نجمة داوود، بلون السماء الصافية، وفي وسطها، صورة بألوان طبيعية، للعذراء تحمل طفلَها، ومن تحتها شريط أبيض داخل إطار يجمع سبعة ألوان، وفي وسطه هلال أخضر يحضن نجمة خماسية ذهبية! أنا ابتسمتُ وضممتها إلى صدري بنشوة وشهوة! تبدد قلق كان يساورها، وتمتمت بشفتين ترسمان ابتسامة عميقة، ولكنها وجلة: ورثتها عن أمّي اليهودية! بهية ابنة كنعاني مشهود له بالورع وكرمِ الأخلاق ونقاء الصحيفة الوطنية، يسكن المعسكر، لم يتزوج بعد وفاة زوجته أمّ بهية! كانت أمّ بهية، تحظى بحب وتقدير واحترام جميع معارفها، في بلدة زوجها الأصلية، قرية عراق المنشية؛ تقول موسوعة ويكيبيديا: عراق المنشية هي قرية كنعانية مهجَّرة كانت تابعة لقضاء المجدل-عسقلان "حسب الوثائق الانتدابية الإنجليزية"، وتبعد عن مدينة غزة حوالي 32 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي. وتضاريس عراق المنشية هي عبارة عن مجموعة من التلال المتموجة، بالإضافة إلى اختراق هذه التلال عدداً من الوديان ومن أشهرها وادي فتالة وهو أحد الروافد الرئيسية لوادي المحور القادم من الفالوجة. تميل الأراضي في عراق المنشية إلى الارتفاع كلما أتجهنا نحو الشرق باتجاه أراضي قضاء الخليل وتميل إلى الانخفاض والاستواء كلما اتجهنا نحو الغرب وتصبح ساحلية بمعنى الكلمة لأنها تكون على الأطراف الشرقية للسهل الساحلي الكنعاني، وترتفع 125 م عن سطح البحر، بلغت مساحة أراضيها 17,901 كم مربع، ويحيط بها من الشمال قرية زيتا قضاء الخليل ومن الغرب قرية الفالوجة ومن الجنوب فطاطة وأراضي عشيرة الوحيدات الجبارات في قضاء بئر السبع ومن الشرق بيت جبرين قضاء الخليل. وتعد قرية عراق المنشية من أواخر القرى التي سقطت بيد العصابات الصهيونية بعد عام كامل من عام النكبة وظلت صامدة حتى شهر آذار/مارس من عام 1949 تحت القصف والدمار بفضل المتطوعين من القرية والجيش المصري والمتطوعين السودانيين، حيث قامت العصابات الصهيونية المسلحة بعد اتفاقية رودس بهدم القرية وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 1949 حوالي 2332 نسمة، وعلى أنقاضها أقام الصهاينة مستعمرة كريات جات التي تعد اضخم مدن الاحتلال الصناعية في هذه الايام. عراق المنشية من الأعلى باتجاه عقرب الساعة: صورة منظر عام لبيوت قرية عراق المنشية وسكانها (نادرة)، والبقية صور ملتقطة عام 1949 لترحيل اهالي القرية بعد استيلاء العصابات الصهيونية عليها وطرد سكانها المحليين. ***** ماتت أمّ بهية، في قرية عراق المنشية، برصاص عصابات الصهاينة المسلحة، بطلق ناري فجّر جمجمتها، فيما كانت تُرضع طفلتها، المولودة قبل ذلك، بستة أيام! حمل الفارون من الموت الزؤام، جثمان المرحومة، ودفنوها في مقبرة قرية جباليا، الواقعة شمال غزة؛ بكاها زوجها ونساء ورجال وأطفال القرية جميعا؛ وفي ساحة تحاذي مقبرة جباليا، كانوا قد حطوا عندها الرحال، بعد هروبهم إلى قطاع غزة؛ تقبَّل زوجها وأهل قريتها، ، العزاء بوفاتها، من جميع أهالي جباليا، والقرى المجاورة لها. ظلت الطفلة بهية، طوال رحلة الفرار، تتلوى من الجوع، وتبكي حتى تفقد قدرتها على البكاء. كان جميع الأطفال الرضّع المحمولين على أكتاف وصدور أمهاتهم المذعورات، يبكون ويتلوون أيضا من الجوع؛ الخوف الرهيب من الموت المرتقب كل لحظة، جفف كل الأثداء! وعندما وصلت قافلة الناجين من نيران الهلاك، إلى قرية بيت حانون، أقصى شمال قطاع غزة، تكفلت سيدة، كانت أمّ طفل حديث الولادة، بإرضاع الطفلة بهية، وحضنتها حتى بلغت الرابعة، وانتقلت إلى ابيها، الذي أخلص لذكرى زوجته، ولم يتزوج امرأة أخرى، ونذر حياته لتربية ابنته الوحيدة! تابعت بهية، تحكي لي عن نفسها، وهي لا تزال منكمشة فوق حجري: اسمي ماريا؛ كان اسم أمي ماريا أيضا... أخبرني أبي، أن أمي كانت من أسرة مختلطة الأديان والملل! وكان كل فرد فيها، يستمتع بحرية اختيار العقيدة التي تروق له؛ ولم يثبت فرد فيها، على اعتقاد واحد... أطرقتُ، وحدثت نفسي بهمس: ماريا بنت ماريا! ماريا وزعرة؟! كلا؛ لا يستقيم! ماريا أمّ عيسى المسيح... ماريا المجدلية بعثت عيسى من موته؛ كانت هناك قصة حب فريدة بين عيسى المسيح وماريا المجدلية؛ هذه القصة الفريدة، هي الأرض الذي اثمرت الديانة المسيحية؛ ماريا المجدلية أنهضت عيسى من موته، بعد صلبه! ماريا... ماريا النبي محمد القبطية؛ أمّ ولده إبراهيم، أهمل النبي كل نسائه من أجل ماريا... سمّى ابنَه منها، على اسم جدّ الأديان إبراهيم...! قالت: لِم نسيتَ ماريا التي ردّت أخاها موسى إلى صدر أمّه، بعد أن أبى صدور المرضعات سواه؛ فأنقذته من موته جوعا؛ فأسس دينا نبت منه النبيان عيسى ومحمد؟! قلت: كلّا، لمْ أنْسَ؛ لكني تركتُ لكِ أن تكمِّليني! أنتِ منذ الآن تكمّليني وأنا أكمّلِك؛ أنتِ منذ الآن الحبيبة ماريا ممدوح بنت ماريا! وأرجوكِ؛ منذ الآن، لا تخفي قلادتك! نحن في وطن التسامح؛ وطن ماريا الحب... نحن الكنعانيين، استقبلنا المهاجرين اليهود في بيوتنا؛ اليهودية نمت هنا، هناك من يقول أنها نبتت هنا... المسيحية نبتت هنا... والمسلمون جاؤوا إلى هنا أيضا... والبهائيون هنا... هنا وطن للإنسان من كل لون وملّة... وطنُ حبنا، أنا وأنتِ ينبت هنا... هل تحبينني يا ماريا؟! ردتْ عيناها، ورددت شفتاها: أجل؛ أحبّك أقوى مما أحبت ماريا المجدلية عيسى الكنعاني، وأقوى من حب محمد لماريا أمّ إبراهيم؛ أحبك حبا أنقى وأصدق وأخلص وأوفى من حب ماريا بنت عمران لأخيها موسى! وذاب الاثنان في واحد اسمه الحب! وابتهجا... وفوقهما، وحولهما وتحتهما، ورقص الهزيم والسماوات والأرض وتنزّل المطر... ها قد اغتسل الكون بحبنا المبتهج يا ماريا؛ وها سفينة نوح تدعونا أن اركبا... فهيّا يا ماريا هيّا... وهيّا نهتف: المجد للسلام؛ المجد للإنسان! منذ الآن لن نفترق! قالت: أجل، لن نفترق أيها الحب المعتّق المبتهج! تمددنا على ظهرينا عاريين فوق الثرى الرملي الذهبي المبتل، ثم استدرنا والتصقنا وعلونا وهبطنا وزاد بلل الأرض تحتنا! وبين نشوة ونشوة، قبّلتها وقبّلتني وسألتها وسألتني: ما دينك؟! قلنا من حنجرة واحدة: الحب صلاتنا وخمرنا وشريعتنا؛ وصدحنا بلسان واحد، نردد صلاة رابعة العدوية: أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ وحُبْــاً لأنَكَ أهْـل ٌ لـِذَاك فأما الذي هُوَ حُبُ الهَوىٰ فَشُغْلِي بذِكْرِكَ عَمَنْ سـِواكْ وامّـا الذي أنْتَ أهلٌ لَهُ فَلَسْتُ أرىٰ الكَوْنِ حَتىٰ أراكْ انبلجت الغيوم الشتوية عن شعاع شمس شتوية، خرجنا متشابكيّ الأيدي والعيون والقلوب، تسلقنا بمرح طفولي سفح كثيب عال، تعانقنا فوق قمته، وزقزقت عصافير الشتاء حولنا... جلستُ وتكومتْ ماريا في حجري، ارخت ذراعيها على كتفيّ، وألصقتُ صدري بصدرها، وقبّلتني وألقيتها على ظهرها وقبّلتها وسكِرنا وعلونا وهبطنا وتضاغطنا وسقينا حقل الحياة والثرى! وبعد شهر، همست ببهجة طفولية في أذني: أثمر حبنا واتّسعَ إلى ثالثنا! ثمّ سألتْ: ماذا نسميه أو نسميها؟ - ماس! - اسم مبتكر ورائع؛ لكن، كيف خطر لك هذا الاسم؟ - جمعتُ حرفَي اسمك الأولَين مع حرف السين من لقبي؛ أليس الثالث هو ثمرة جمع اثنين منك وواحد مني؟! - للأنثى مثل حظ الذكرين! - للأنثى مثل حظ الذكرين! - حسنا... ولكن من السهل أن أشرح لها أو له، تاريخ اسمي؛ فماذا سأقول بشأن لقبك؟! يبدو أن لقب مسيلمي منسوب إلى مسيلمة المشهور بالكذاب؟! - وصلَتنا عنه لائحة الاتهام؛ لم يصلنا ردّ الدفاع! - تكرّم بالتوضيح! - يقول التاريخ الإسلامي إن النبي محمد التقى، في مرحلة الدعوة المكيّة، مع مسيلمة بن حبيب الحنفي، الذي عُرف في وقت لاحق بالكذاب! - ثمّ... - كان الحنفي يؤمن بالله الواحد ويدعوه الرحمان، وكان له أتباع بين العرب المعاصرين للدعوة المحمدية؛ وكان النبي محمد حريصا على وحدة جبهة محاربة الوثنية؛ فوصف القرآن الكريم، اللهَ بالرحمن الرحيم! - أنا لستُ فقيهة باللغة العربية، لكن، يبدو لي أن هناك تكرارا لا مسوغ له! - ليس تكرارا، ولكنها عبقرية محمدية توحيدية؛ كان توحيد العرب تحت راية لا إله إلا الله هدفا أساسيا ونبيلا للدعوة المحمدية! - هل أفهم أن دعوة محمد، عربية قومية؟! - كانت عربية قومية وتطورت إلى دينية إبراهيمية ثم عالمية! - هكذا دعوة مسيح ماريا؛ لقد بدأت يهودية، وبعد موت عيسى، حمل الحواريون دعوة معلمهم وبشروا بها الأمم! - لكن اليهود أغلقوا دعوة موسى؛ ودفعنا نحن عشّاق الثرى الكنعاني، حياتنا، ثمنا لإغلاق نبوة إنسانية بدأت مفتوحة على الله! - دعنا نعود إلى ماس، جامعنا؛ هل سيحمل لقب مسيلميّ أيضا؟! - هو مسيلميّ بدون أن يحمل لقبي؛ كلنا نلد مسيلميّين! مسيمليّ تصغير مسلميّ! - تعني أننا كلنا نلد مسلمين؟! - أجل؛ الكائنات الجامدة والحيّة جميعها مسلمة بحكم طبيعتها الكونية! - مسلمة لِمن؟! - لطبيعتها الكونية! - زدني نورا يا نور الروح! - كوّننا ربنا... - كوّنتنا ربتنا... - ربّة أو رب! نحن ممن كوّننا، طبيعتنا من طبيعته! - ما هي طبيعته؟ - نور وحرية وحب وبهجة! - وعلاء ووئام وسلام ومجد! - ربِّيّتي نور وحرية وحب وبهجة وعلاء ووئام وسلام ومجد! قفزت ماريا وتعرّت، وصاحت بمرح طفولي: ها أنا أعلن إسلامي لطبيعتي الكونية الربِّيّة؛ أيها النبض القديم المتجدد: أنا اتّبعتكَ فاتبعني! أيتها النبض القديم المتجدد: أنا اتّبعتكِ فاتبعيني! هذه آية كتاب الخلود الأولى، أوحت بها طبيعة الحرية المبتهجة بنور الحب؛ تنزلتْ على قلبي من قلبك العريان الوضاء يا ماريا! لبيك يا ماريا؛ أيتها السلام الأبدي: أنا أول تابعيك! وقفت ماريا عارية شامخة تدفع صدرها للأمام، ووقفتُ أنا عاريا شامخا وراءها، ألصقتُ صدري بظهرها، توحَّد النبض في قلبينا... رفعتْ ذراعيها ورفعتُ أنا ذراعيّ وحضنت كفّاي كفّيها، توحدت ذراعانا ومددناهما نحو شمس الضحى الساطع، وهتفنا معا وبصوت جهوري قوي محب مبتهج: المجد للحرية! الحرية يا ماريا هنا حيّة منيرة مبتهجة ناهضة نابضة؛ لا تمثالا حجريا صامتا جامدا ميتا ينتصب هناك في البلاد النائية ! * اطلبها كاملة من المؤلف: واتساب 00972592588528
#حسن_ميّ_النوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المبادرة الكنعانية: بيان الإطلاق - مفتوح للحوار قابل للتعديل
...
-
أَنا هُداكُنَّ أُخَيَّاتيْ فَاتَّبِعْنَنِيْ
-
قرآن القرآن | تفسير (المغضوب عليهم) و(الضالين) في سورة الفات
...
-
كنعان وطن واحد مفتوح لعاشقيه من الناس أجمعين
-
طِبّ الرَّبَّة البَهْجة
-
يعترينا حياء من الفعل الجنسي.. لماذا؟
-
حكاية ابنِ المصلوبةِ أُمِّه
-
رواية هدى والتينة (22)
-
رواية: هدى والتينة (21)
-
رواية: هدى والتينة (20)
-
رواية: هدى والتينة (19)
-
رواية: هدى والتينة (18)
-
رواية: هدى والتينة (17)
-
هدى والتينة (16)
-
رواية: هدى والتينة (15)
-
رواية: هدى والتينة (14)
-
رواية: هدى والتينة (13)
-
رواية: هدى والتينة (12)
-
رواية: هدى والتينة (11)
-
رواية: هدى والتينة (10)
المزيد.....
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|