أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فرحات - -اسمي نجيب سرور--٤















المزيد.....

-اسمي نجيب سرور--٤


محمد فرحات

الحوار المتمدن-العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 22:43
المحور: الادب والفن
    


اسمي نجيب سرور
رواية مقترحة.
(4)
يتحلق الصبية حولي وأنا أحكي بفخر لم يتوفر لي من قبل، وانتشاء لذيذ كمن فرغ لتوه من ارتشاف روح العنب المعتق في زجاجات قديمة قدم الكون.
أبي قد أتاه الخفير داعيًا إيّاه للقاء الإله، بالضبط كما دعا موسى الكليمَ الإلهُ، أبي فارع الطول الجميل، أيذهب حقًا للقاء الباشا في قصره، ماذا تراه يفعل أيتنازل ويقبل دعوته، أم تراه لن يتنازل عن عظمته فلن يغدو إليه، أبي هذا العملاق الحبيب عاتي القوة والبطش، يستطيع يا عيال أن يمد كفه للسماء ويأتي ببدر منير، فعلها كثيرًا أمام عيني، بل يستطيع أن يخلع النخلة من جذورها كم فعل بنخلة على رأس حقلنا، وأذاقني شهد رطبها الشهي، فعل ذلك من يومين لا غير، وحينما جاء ذلك الديب لقريتنا يأكل الصبية من الصغار وهم يتعلقون ببزاز أمهاتهن، ثم يجور على ذربية الدار فيأكل ما فيها، وقد عجز رجال القرية، وحينما جاء أبي من القرية البعيدة، خرج وحده يبحث عن الديب وحينما يجده يصرعه بكف واحدة، ويأتي للقرية يجر الديب من ذيله الرمادية، وسط زغاريد نساء قريتنا، فاكرين يا عيال؟ ولكن أبي طيب جدًا وسوف يتنازل ويذهب لقصر الباشا، فالباشا يا عيال يريد مقابلته ليكافأه بغذاء شهي كله لحوم بط ووز وحمام، ولكن أبي لن يمد يده نحو المائدة إلا إذا رجاه الباشا أن يتنازل فيأكل معه..
وكنت أسترق السمع حينما جاء الخفير لدارنا يدعو محمد أفندي للقاء الباشا، وأذعت الخبر بين عيال قريتنا، ودعوتهم لنتبع أبي في رحلته نحو قصر الباشا الجاثم على أنفاس القرية منذ دهور طويلة، كنت مزهوًا فخورًا بأبي، فلم يتنازل الباشا للقاء أبي أحد من أترابي من قبل، لم يدع الباشا غير أبي، ربما أراد أن يستشيره في أمر أعجزه، أو ربما أراد دعوته لمائدة عامرة، فأبي معلم يستطيع أن يحل مسائل القسمة المطولة ويحفظ جدول الضرب كله صغيره وكبيره، يستطيع أبي أن يفعل كل شئ أعجز الجميع بما فيهم الباشا.
أمشي متلصصًا خلف أبي وهو في ذهوله البادي لا يراني، ولكني كنت قد ذهلت عن ذهوله، حتى لو وقعت عينه عليّ فلن يراني من فرط تردد قدميه بين الذهاب نحو القصر أو الفرار من القرية كلها، أمشي على مهل خلف أبي ويتبعني الصبية، نمني أنفسنا بفاكهة القصر، ولحم طيره، وما لم يرد على بال أو خاطر من صنوف النعيم.
يدخل أبي والجًا حديقة القصر، فيلقي السلام على الخفراء فلا يردون، فأصل نحو عتبة الباب فيهشني الخفير وأترابي بعيدًا بخرزانته الطويلة، فأقف بعيدًا، لأرى الباشا وأرى أبي، ولا أستطيع السماع على تلك المسافة، ولكني أرى ..أرى..أبي وقد تبخر طوله ليصير قصيرًا، أرى عملاقًا يختال في خطواته، يكلم أبي، ويشوح بذراعه الطويلة كمن قد أخذته نوبة غضب لسبب غير مفهوم، وما يكاد الباشا ينهي كلامه حتى يخلع حذاءه وينهال على أبي ضربًا بالحذاء، أهذا أبي؟!
يخرج أبي ذاهلًا من قصر الباشا، وقعت عينه عليّ، وقد هرب العيال من حولي خوفًا من الخفير، ولكني وقفت وحيدًا، ينظر أبي إليّ، ولا ينطق بكلمة واحدة، رأيت في عين أبي ما لم أره ولم أتخيل يومًا أن أراه رأيت انكسارًا مبللًا، لم يكلمني أبي، حتى لم يأمرني بالعودة إلى الدار، أشاح بوجهه، وسار وحيدًا بعيدًا عني، لماذا أبي؟
أمشي وحيدا، يأكلني ما رأيته ويتلمظ عظامي عظمة عظمة، يعاد المشهد بكل تفاصيله كسياط من كرباج مهول لا يكف عن اغتيالي، لماذا أبي؟ أهذا أبي؟
عرفت الكثير والكثير وطفت البلاد والبلاد والشوارع والأزقة، نمت على أسرة الفنادق الباذخة، وعلى تراب الأرصفة وكتبت القصائد وألفت المسرحيات وأخرجتها وشخصتها، ودبجت المقالات وعاينت الغنى وقرصني الجوع، وقُتلت في ريعان شبابي، ولكني كنت قد قتلت قبل ذلك بأزمان، قتلت يومها، يوم الحذاء.
أدخل الدار بالمساء فإذا الدار مأتمٌ كبير، يدخل الفلاحون أفواجًا ويخرجون أفواجًا، يواسون أبي ويحاولون التسرية عنه، وهو ساكت ذاهل وقد ثبت عينه بجدار الدار الطيني، لا يلتفت ولا يبدي حراكًا.
وجدي المتهدم يجلس قبالة أبي، وأمي تبكي من بعيد بلا صوت، أعدو نحو أبي، فلا يكلمني أحاول أن أتشيطن أمامه حتى يصرخ فيّ، فلا يصرخ.
أهمس لجدي متسائلًا، فيربت على ظهري، ويقول بحكمة هامسة، "لا تقلق على أبيك يا نجيب، كل البشوات في كل القرى يفعلون كذلك بكل الرجال في كل القرى والمدن.".
تلك الليلة، كانت أول درس لي في الظلم، وأول لقاء حقيقي مع القهر الذي لم أكن أعيه آنذاك، لكني شعرت به في قلبي الطفل، كجرح غائر لا يندمل. نظرات أبي الشاردة، والصمت القاتل الذي أحاط بالدار، وبكاء أمي الذي كان أشبه بموسيقى جنائزية، كل ذلك علمني أن هناك أشياء أكبر من قوتنا، وأقسى من أحلامنا الصغيرة.

لكن ما علق في ذهني لم يكن فقط انكسار أبي، بل تلك الكلمات الباردة التي قالها جدي، "كل البشوات في كل القرى يفعلون كذلك بكل الرجال في كل القرى والمدن."، جملة تحمل حقيقة جارحة، حقيقة تُشبه الوصمة التي تُلاحقنا جيلاً بعد جيل، وكأننا وُلدنا لنُذل، وكأن كرامتنا مجرد عبء ثقيل علينا التخلص منه.

في تلك الليلة، لم أستطع النوم. كنت أستعيد المشهد مرارًا وتكرارًا: أبي العملاق، الذي لطالما رفع النخلة من جذورها، وأطعمنا من رطبها، كيف أمكن للباشا أن يحوله إلى مجرد رجل صامت يطأطئ رأسه تحت وطأة الحذاء؟ كيف أمكن للظلم أن يكون بهذه القسوة، وللإنسان أن يكون بهذا الصمت؟

منذ تلك اللحظة، انقسم عالمي إلى قسمين: عالم من الحكايات التي كنت أنسجها عن أبي، بطلًا خارقًا لا يهزم، وعالم آخر واقعي، مليء بالخوف والانكسار. لكنني، كطفل، لم أكن أعرف كيف أوازن بينهما. كنت أميل إلى الحلم، إلى الرواية التي أرويها لأترابي، والتي فيها أبي يهزم الباشا ويعود منتصرًا، ومع ذلك، كان هناك شيء في داخلي يعرف الحقيقة، حقيقة أن أبي، رغم قوته وجبروته، كان مثلنا جميعًا، مجرد رجل تحت رحمة الحذاء.

مرت الأيام، وكان أبي يتجنب النظر في عيني، وأنا أتجنبه بدوري. لم أعد أتشيطن أمامه، ولم أعد أحكي لأترابي قصصًا عن بطولاته. كان هناك شيء مكسورًا بيننا، شيء لم أستطع إصلاحه أبدًا. لكن ما لم أفهمه في صغري هو أن أبي لم ينكسر أمامي فقط، بل أمام نفسه أيضًا. كان الحذاء الذي ضربه أكثر من مجرد أداة للمهانة، كان رمزًا لكل ما يثقل كاهله: الفقر، القهر، وعجزه عن حماية نفسه وأسرته من عالم لا يرحم.

وبينما كنت أحاول استيعاب ذلك، بدأت أحلم بطريقة ما للرد على ذلك العالم. لم أكن أعرف كيف، لكنني شعرت أن عليّ أن أفعل شيئًا. كنت صغيرًا جدًا على الثورة، وضعيفًا جدًا على المواجهة، لكن في داخلي بدأت بذور الغضب تنمو، تلك البذور التي ستتحول فيما بعد إلى كلمات وقصائد، إلى صراخ مكتوم على الورق، وإلى مسرحيات تصرخ بوجوه الظالمين.

لقد كان يوم الحذاء يومي الأول في مدرسة الحياة القاسية. علمني أن العالم لا يعترف بالضعفاء، وأن الحكايات الجميلة التي نرويها لأنفسنا عن أبطالنا قد تكون مجرد أوهام نتعلق بها لنستطيع المضي قدمًا. ولكن علمني أيضًا شيئًا آخر: أن الظلم، مهما كان قاسيًا، لا يمكنه أن ينتزع منا قدرتنا على الحلم، حتى لو كانت أحلامنا مجرد خيوط نسجناها في
خيالنا، فقط لنجد فيها عزاءً وسط قسوة الواقع.



#محمد_فرحات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اسمي نجيب سرور -1-
- -نعي الأحلام المجهضة-
- -أولاد حارتنا- المبادرة والانتظار .
- عبد القاهر الجرجاني يُنظِرُ لقصيدة النثر.-سأعيد طروادة ثم أح ...
- -بالضبط يشبه الصورة- ومُحدِدات الجنس الكتابي
- نون نسوة مناضلة -بيضاء عاجية، سوداء أبنوسية.-.
- ماتريوشكا
- أحاديث الجنِ والسُطَلِ، المجدُ للحكايات.
- نجيب محفوظ -نبيًّا-.
- تحدي قصيدة النثر ؛ديوان-ابن الوقت- نموذجًا.
- حائزة -عبد الفتاح صبري- في نسختها الأولى.
- أخيرا العثور على المسرحية المفقودة لنجيب سرور-البيرق الأبيض- ...
- الروائي شادي لويس وصفعة لوجه الرأسمالية القبيح.
- مخطوطات نجيب سرور
- القصة الشاعرة. - قراءة لفصل من كتاب ألعاب اللغة للدكتور محمد ...
- د. محمد فكري الجزار شمولية النص القرآني وسيميوطيقا النهايات.
- ألعاب اللغة-5-، ما بين الشعري والتدوالي.
- ألعاب اللغة-4- نقد جاكبسون.
- احتواء المؤسسة وتمرد المبدع
- قطار الليل نحو لشبونه


المزيد.....




- القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة ...
- صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
- إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م ...
- مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
- خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع ...
- كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فرحات - -اسمي نجيب سرور--٤