|
جاكوبي، الإيمان ضد العقل
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8168 - 2024 / 11 / 21 - 15:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
٢٦٤ - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية ١٢ - جاكوبي الفيلسوف المشاغب
لقد أراد كلوتز أن يخرج الدين والله من من حلبة الصراع والتكوين السياسي للدولة منذ بداية الثورة الفرنسية سنة ١٧٨٩، وذلك بإعلان ما سماه بالجمهورية العدمية، ولم تتحقق هذه الجمهورية العلمانية، إلا بعد حوالي ١١٥ سنة، أي في عام ١٩٠٥ بواسطة إئتلاف حكومي يساري. وقد فشلت محاولة كميونة باريس القصيرة العمر والتي انتهت بمجزرة راح ضحيتها الثوار، والذين نجوا من المذبحة تم نفيهم إلى المستعمرات الفرنسية البعيدة، كما فشلت قبل ذلك الثورة الفرنسية، التي ظلت في نهاية الأمر ثورة برجوازية محافظة، ولم تستطع تجاوز تناقضاتها الداخلية لتتجاوز تحالفها مع الكنيسة، وخسرت بذلك المعركة الإيديولوجية والفكرية. وفي نفس هذه الفترة التاريخية، وفي نفس المنطقة الجغرافية - ألمانيا، كان هناك فيلسوف مناوش آخر، هو فريدريك جاكوبي Friedrich Heinrich Jacobi- 1743- 1819، والذي قاد بدوره معركة ضارية، في الإتجاه المعاكس لمعركة جاكوبي، أي ضد فلسفة التنوير وضد فلسفة العقل وضد المنطق، أو على الأقل هذه هي الصورة التي كونها عنه معاصروه من المثقفين والفلاسفة. كان فريدريش هاينريش جاكوبي (ولد عام 1743 وتوفي عام 1819) منتقداً للفلسفة الحديثة ونتاجها (العقلانية في أواخر عصر التنوير الألماني)، وللمثالية المتعالية التي تبناها كانط Kant، وللفلسفة المنهجية التي تبناها فيشته Fichte، وفي نهاية المطاف للمثالية التي تبناها شيلينج Schelling. لم يكن جاكوبي في البداية معتبرا كفيلسوف من الدرجة الأولى، مقارنة بكبار الفلاسفة المذكورين سابقا، ربما لأنه كان لا ينتمي للنخبة الأكاديمية، ولم يبني نظاما فلسفيا مميزا، ولكنه كان يتمتع بالموهبة الطبيعية في طرح الأسئلة الصحيحة كما يقول عنه دي جوفاني George di Giovanni المتخصص في المثالية الألمانية وفينومينولوجيا هوسرل وميرلوبونتي، التساؤل عن الفرق بين شروط التصور وشروط الوجود existence، ويرى أن الفلسفة نسيت أن التفسيرات لابد وأن تبدأ بما لا يمكن تفسيره، ونسيت أن التفكير thinking والكينونة being مختلفان تماما. كان جاكوبي ينوي تصحيح هذا النسيان؛ ومن ثم وجه جهوده نحو التعريف الفلسفي للوجود. ومن خلال التركيز على الوجود، في هيئة الفاعل أو العامل الفردي، رسمت فلسفته مساراً منعزلاً يقود إلى عالم الأحياء، الذي تسكنه كائنات متفردة، وإله شخصي، ونظام إلهي للقيم. ربما يمكن إعتبار جاكوبي أول من صاغ المعنى الفلسفي لمفهوم "العدمية"، وأبعد هذا المفهوم عن دلالاته الدينية. حيث العدمية، في نظره، هي النتيجة الضرورية لكل فلسفة بعد أرسطو. ورغم أنه لم يعتبر نفسه أبدًا غير عقلاني an irrationalist، فقد اتُهم بمهاجمة العقل وإعادة إدخال القيم المثالية المحافظة. والحقيقة أنه انتقد الاستخدام الأداتي للعقل والشكل الخطابي للمنطق، وروّج لمجموعة مختلفة من المفاهيم التي من شأنها أن تكشف في النهاية عن إمكانية تصور الواقع من منظور جديد. ويعتبر أول من قام بتعميم العدمية، المصطلح الذي صاغه أوبرايت في عام 1787، وترويجهذا المفهوم بإعتباره الخطيئة الرئيسية للفكر التنويري، ولا سيما في النظام الفلسفي الذي بناه سبينوزا وكانط وفيشتة وشيلينغ. دعا جاكوبي إلى فكرة غريبة سماها الـ "الغلوب Glaube " والتي تترجم عادة بمفهوم مختلف الإيمان أو «المُعتقد») والوحي بدلًا من منطق التفكير العقلي. ولذلك يمكن النظر إلى جاكوبي على أنه السابق للكتّاب والفلاسفة اللاحقين أعداء العقلانية والمنتقدين للفلسفة العلمانية بكونها نسبية وخطيرة على الإيمان الديني. ولد في دوسلدورف سنة ١٧٤٣ من عائلة غنية كونت ثروتها في مجال التجارة، وفي السادسة عشرة من عمره أرسله والده ليشتغل في الغرفة التجارية في فرانكفورت بدلا من إرساله إلى الجامعة لمواصلة الدراسة، وذلك نظرا لنتائجه السيئة في المدرسة. فعائلته لم تعده لحياة أدبية أو ثقافية، كما كان الحال مع أخيه الأكبر جوهان جاكوبي Johann Georg والذي أصبح شاعرا. اكتشف جاكوبي لوحده عندما كان في جينيف‘ أفكار العديد من الفلاسفة الذين أثروا في صياغة توجهه الفلسفي بطريقة أو بأخرى، مثل فولتير وباسكال، وكذلك روسو وديدرو والإنسكلوبيديين. هؤلاء هم الذين شاركوا في صياغة الأفكار الجديدة التي تكونت وتطورت من عقلانية القرن الثامن عشر التي كانت مهد النقد العلماني. ووجد لذة كبيرة في القراءة وإكتشاف ميكانيكية الفكر وهي تتبلور أمام عينيه، فيلتهم عشرات الكتب ساعدته في بداية تكوين عقلية فكرية مستقلة، وبدأ فكره يتبلور ووالرؤيا تتضح، هل هناك تناقض محتمل بين الحقائق الفلسفية وحقائق الدين المسيحي ؟ هذا السؤال الذي يبدو بسيطا ومدرسيا، قاده في الحقيقة إلى تساؤلات وتحليلات جديدة، وتكوين فرضيات ونظريات عن كيفية خضوع العقلانية الفلسفية وإعتمادها إعتمادا لا عقليا على الحقائق الدينية. وفي عام 1762 عاد جاكوبي إلى دوسلدورف، وتزوج، وتولى إدارة أعمال والده التجارية لمدة عشر سنوات، حتى عام 1772 مواصلا في نفس الوقت نشاطه الفلسفي والفكري. واستقر في بيت كبير خارج المدينة، والذي سرعان ما تحول إلى بؤرة مشعة للثقافة الألمانية في هذ، الفتره، وصالون فلسفي يرتاده نخبة الفلاسفة والأدباء والعلماء والمنطقيين من بينهم جوته والأخوين همبولت وغيرهم. وخلال هذه الفترة، لفتت انتباهه مقالات مندلسون Mendelssohn وكانط، التي قُدِّمَت إلى مسابقة استضافتها أكاديمية برلين، كما أكد لاحقاً في "حوار ديفيد هيوم"، فقد كان لها تأثير طويل الأمد على تفسيره للمنطق العلمي والميتافيزيقيا. ثم بدأ جاكوبي ما أصبح لاحقاً مراسلات واسعة النطاق مع مفكري عصره. وإذا كان الصالون الذي كان يديره مع زوجته، في بيتهم الفسيح علامة خارجية على طموحاته الأدبية، فإن عدد وشهرة الأشخاص الذين راسلهم، من فيشته Fichte إلى كلوبستوك Klopstock ومن إيمانويل كانط إلى شلايرماخر Schleiermacher، أكد مدى براعته الفكرية وقدرته على طرح الإشكاليات الفلسفية وحدة نظرته النقدية، مستعملا منهجا سقراطيا لإظهار الإشكاليات والتناقضات من خلال الحوار. كان لقاءه مع جوته في عام 1774 قد حفز جهود جاكوبي التالية وشجعه على كتابة رواياته، "أوراق إدوارد أولويلز" Allwills Papiere - 1775، و"فولديمار. Woldemar" 1777. وقد نالت روايته الأولى نجاحا نسبيا، حيث تمكن جاكوبي من طرح العديد من القضايا الفلسفية التي كانت مجال إهتمامه، حيث ركز في هذا العمل على وصف "الحياة" وإعتبارها قوة جارفة بلا حدود، وأيضا بدون أساس أو ضرورة، ولذلك فهي تستعصي على كل تنظير فكري أو عقلي. وربما هي المرة الأولى التي يلجأ فيها فيلسوف إلى طرح رؤيته الفلسفية للعالم في صيغة روائية في شكل مجموعة من الرسائل. ويبدو أن السبب في إختيار هذا الشكل للسرد الروائي، يرجع إلى رغبته في أن يحقق ويثبت قصور الفلسفة، أو العقل عن الوصول إلى الحقائق الإنسانية الأولية والمباشرة، وربما كسبب ثان أنه أراد أن يثبت ويحقق عمليا القطيعة وتجاوز فلسفة التنوير بالذات، مع الإستمرار في ممارسة البحث الفلسفي بطرق جديدة وغير أكاديمية. . أصبحت هذه الأعمال أمثلة نموذجية لروايات جاكوبي الفلسفية، وشكلت رد فعل على الأسلوب الكلاسيكي السائد. ومع ذلك، لم تدم صداقة جاكوبي الجديدة والملهمة مع جوته طويلا، إذ كان رد فعل جوته على "فولديمار" بمثابة نقد مرير وشديد القساوة لجاكوبي. وفي عام 1779، غادر جاكوبي إلى ميونيخ لقبول تعيين في منصب حكومي، ولكنه استقال في نفس العام بسبب ضغوط الخلافات التي أثارتها مقترحاته الإصلاحية الليبرالية، نتيجة لدعمه لمبادئ آدم سميث، كما هو موضح في منشوراته اللاحقة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية
-
الفكر المتحرر
-
كميونة باريس
-
الثورة الفرنسية والكنيسة
-
الجمهورية العدمية
-
روبسبيير .. النبي السفاح
-
الغسق
-
كلوتز، العدو الشخصي للمسيح
-
في غياب الله .. كل شيء مباح
-
التيارات العدمية
-
بوادر العدمية
-
أصول العدمية
-
العدم الوجودي
-
لماذا الكون ؟
-
حدوث أم أزلية الكون
-
دموع البحر
-
مسرحية ماكرون ونتنياهو
-
نظرية كل شيء
-
الشعب الذي يرفض أن يموت
-
لماذا لا نزحف على إسرائيل ؟
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|