|
العلمانية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8163 - 2024 / 11 / 16 - 13:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
263 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 11 - العلمانية
وقد أقر مجلس النواب الفرنسي في 3 يوليو 1905 قانونا بشأن فصل الدين عن الدولة، سمي بقانون فصل الكنائس عن الدولة Loi du 9 décembre 1905 concernant la séparation des Églises et de l État، وهو المعروف اليوم بقانون العلمانية والذي صدر خلال الجمهورية الثالثة، ويمكن إعتباره من الآثار القليلة المتبقية من الحركة الثورية لكميونة باريس، وكانت فرنسا آنذاك تحكمها كتلة الائتلاف اليساري، من الإشتراكيين والراديكاليين والديموقراطيين بقيادة إميل كومبس Émile Combes. واستند القانون إلى ثلاثة مبادئ : حياد الدولة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، والسلطات العامة المتعلقة بالكنيسة. ويُنظر إلى هذا القانون على أنه العمود الفقري لمبدأ العلمانية الفرنسي laïcité، على الرغم من أن هذا المصطلح لم يذكر صراحة، إلا أن قانون الفصل بين الكنائس والدولة المعتمد عام 1905 يعتبر النص التأسيسي للعلمانية في فرنسا، ويعبر عن الهوية الفكرية لهذه الدولة، وعلي الإيديولوجية التي أعتنقها غالبية سكان فرنسا، يمينا ويسارا، بل أن حتى اليمين الفاشي المتطرف أنتهى بقبول هذا الفصل بين الدين والأمور العامة. ومن بين المدافعين بقوة عن هذه الديانة الجديدة، كل التيارات اليسارية والراديكالية والتيارات الأناركية بكل تفرعاتها، وتيار ما يسمى بالفكر الحر la libre pensée الذي ذكرناه سابقا. حيث الفيدرالية الوطنية للفكر الحر La Fédération nationale de la libre pensée، وهي جمعية بموجب قانون 1901 تتألف من جمعيات محلية تنتمي لتيار حرية الفكر عموما والتي ترجع تاريخيا إلى الاتحاد الفرنسي للفكر الحر الذي تأسس عام 1890، وهي إحدى المنظمات التاريخية للحركة العمالية والأناركية (الفوضوية) والحركات السلمية والمناهضة للكنيسة وللسلطة الدينية عموما في فرنسا. وإذ نذكر هذا التيار الفكري الصغير الحجم، حيث لا يتجاوز المنتمين إليه رسميا الخمس آلاف عضوا، لأن العديد من المفكرين الأحرار كانوا من بين أهم الفاعلين في المناقشات البرلمانية حول قانون 1905، دون أن يكون هناك أي وحدة مسبقة في مواقفهم، فرئيس اللجنة البرلمانية المسؤولة عن إعداد القانون، فرديناند بويسون Ferdinand Buisson، هو في الوقت نفسه رئيس الرابطة الوطنية للمفكرين الأحرار، وكذلك المقرر والمحرر الرئيسي للقانون، أريستيد بريان Aristide Briand، هو أيضًا مفكر حر، كما هو الحال مع موريس ألارد Maurice Allard، أحد "الاستئصاليين" الرئيسيين الذين يؤيدون اتخاذ موقف أكثر صرامة وراديكالية تجاه سلطة الكنيسة. ومنذ ذلك الوقت، احتل الدفاع عن قانون 1905 مكانة خاصة في حياة تيار الفكر الحر والفكر اليساري عموما، الذي يفسر عادة على أنه قانون يضمن الممارسة الحرة للتفكر ولحرية الضمير، وينظم هذا التيار بانتظام مظاهرات ضد السلطة المركزية وضد التيارات الدينية المناهضة لحرية النساء وللمثليين والمثليات ويساندون حرية الزواج المدني بين الأشخاص مهما كانت هويتهم الجنسية، والدفاع عن كل الإنجازات العمالية المهددة بالإصلاحات السلطوية المتعاقبة التي تنوي إلغاؤها تدريجيا. وتتمثل مهمة السلطات العامة للدولة في ضمان عدم تعارض الممارسات الدينية مع النظام العام وحرية ممارسة الأديان وعدم تبني الدولة لأي منها. وتعتبر اللائكية أو العلمانية الفرنسية من أوضح نماذج ارتباط العلمانية بالمجتمع، وارتباطها بمؤسسات الدولة وتحييدها القانوني عن تأثير المؤسسة الدينية. فاللائكية تعني الفصل القانوني بين المؤسسة الدينية والدولة، لكن هذا الفصل لا يعني إلغاء الدين أو منع ممارسة الطقوس الدينية مهما كان نوعها، بل عدم تدخل الدولة في هذا المجال وإعتباره مجالا فرديا خاصا. فأغلب سكان فرنسا كاثولويك وجزء قليل منهم متدينون يرتادون الكنائس ويتزوجون أمام القسيس في الكنيسة، لكن أغلبهم لائكيون لم يدخلوا أية كنيسة في حياتهم ويتزوجون بطريقة مدنية في بلدية الحي أو القرية. فاللائكية لا تلغي الدين أو التدين، وتعد خصوصية فرنسية، لأن هذا مرتبط في الحقيقة بخصوصية التاريخ الفرنسي وعلاقته بالحياة الروحية، فقد لعبت الكنيسة الكاثوليكية دورا بارزا ومؤثرا في المجتمع الفرنسي كما وضحنا سابقا، ففرنسا كانت تسمى في العصور الوسطى بالابنة الكبرى للكنيسة، كما أن ملوك فرنسا كانوا دائما في صدارة المدافعين عن المؤسسة البابوية وذلك منذ عهد شارلماني في القرن الثامن. وقد تطورت اللائكية الفرنسية تدريجيا، فهي اليوم ليست مجرد آلية لمعالجة قضية الانقسام الديني أو الطائفي أو لتنظيم علاقة الدولة بالكنيسة، بل هي أشبه ما تكون بالعقيدة الشمولية والصارمة التي تراهن على الحلول محل الأديان والعقائد بعد امتصاص الكثير من مظاهرها وتعبيراتها في قالب علماني. فأصبحت بذلك دينا جديدا يضطهد كل من لا يعتنقه، كما يحدث اليوم بخصوص الطائفة الإسلامية في فرنسا والتي يرفض بعض أعضائها المتطرفين مبدأ العلمانية كما تراه المؤسسات الفرنسية. تعمل اللائكية الفرنسية عبر جهازين متكاملين ومتعاضدين، عبر آلية الرقابة والضبط العقابي للدولة والتي تعتمد على ترسانة ضخمة من القوانين والتشريعات والمباديء، أي ما يسمى الجمهورية اللائكية التي تقوم على حراسة قيم الدولة والمجتمع وضبط المباح والممنوع من منظورها. وثانيا؛ عبر أدوات التوجيه الثقافي والأيديولوجي التي تتم بمقتضاها صياغة الشخصية الفردية، وزرع القيم العلمانية في الفضاء العام، وعلى رأسها المؤسسات التعليمية والمناهج التربوية والدراسية، وأجهزة الإعلام والفن والثقافة ... فاللائكية الفرنسية لا تكتفي بتحرير "السياسي والإجتماعي والتشريعي" من سيطرة الكنيسة، وإنما تراهن على مقارعة الدين عامة وطرده من الفضاء العام لتحل محله القيم اللائكية، ولتحل مؤسسات الدولة المختلفة بدورها محل الكنيسة في إعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي. غير أن كل ذلك لا يمنع اليمين واليمين المتطرف من الدعوة لتبجيل القيم الكاثوليكية ومحاولة جعلها المرجع التاريخي للحضارة الفرنسية والأوروبية عموما، والدفاع عن العنصرية والتفرقة الدينية ضد العرب والمسلمين بحجة الإختلاف الثقافي والدفاع عن اللائيسية ومباديء الجمهورية العلمانية بإعتبارها الدرع الواقي لفرنسا وأوروبا ضد الإجتياح الإسلامي والسد الذي سيمنع عملية الإستبدال الكبير Grand remplacement للشعوب الأوروبية بجحافل "الهمج - les barbares" الذين يزحفون على أوروبا من آسيا وأفريقيا لإحتلالها. ومع ذلك ورغم كل المساويء الناتجة عن المبالغة في تطبيق مباديء اللائيسية، فإنها ستبقى سدا رادعا ودرعا واقيا من كل أنواع التطرف الديني وإستغلال رغبة الإنسان في التوجه للسماء لمساعدته على تحمل الحياة على الأرض. فهنا لا سلطة تعلو على سلطة القانون نظريا، ذلك أن تطبيق هذا القانون عمليا يعتمد غالبا على الوضع الإجتماعي والإقتصادي لكل مواطن. فالعلمانية لا تنفي الإستغلال الرأسمالي لطبقة الأغنياء للعمال والفلاحين الفقراء، وليس هناك تناقض جوهري بين العلمانية والرأسمالية، إنما هي تطور طبيعي فرضته الظروف الإقتصادية والتاريخية والثقافية للمجتمع الفرنسي تماما مثل القضايا المعاصرة كالدفاع عن البيئة والدفاع عن حقوق النساء والمثليين والمثليات .. إلخ، هذه القضايا الملحة ولكنها لا تغني عن القضية الأساسية وهي الدفاع عن العدالة الإجتماعية الحقيقية والمتمثلة في القضاء على الرأسمالية بكل أشكالها وألوانها، وإيجاد نظام آخر مبني العلاقات الأفقية بين المواطنين وغياب أي سلطة تعسفية أو أفقية وعلى القيم الإنسانية البسيطة من العدالة والحرية. يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفكر المتحرر
-
كميونة باريس
-
الثورة الفرنسية والكنيسة
-
الجمهورية العدمية
-
روبسبيير .. النبي السفاح
-
الغسق
-
كلوتز، العدو الشخصي للمسيح
-
في غياب الله .. كل شيء مباح
-
التيارات العدمية
-
بوادر العدمية
-
أصول العدمية
-
العدم الوجودي
-
لماذا الكون ؟
-
حدوث أم أزلية الكون
-
دموع البحر
-
مسرحية ماكرون ونتنياهو
-
نظرية كل شيء
-
الشعب الذي يرفض أن يموت
-
لماذا لا نزحف على إسرائيل ؟
-
المادة العجيبة
المزيد.....
-
مسؤول أمريكي: بايدن سمح لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية بعي
...
-
مصر: البرلمان يقر مبدئيًا قانون لجوء الأجانب.. ما هي أبرز بن
...
-
الحوثيون يعلنون استهداف عدد من المواقع العسكرية والحيوية الإ
...
-
-نيويورك تايمز-: بايدن يمنح كييف الإذن بضرب العمق الروسي بال
...
-
وسائل إعلام: ترامب يشكل إدارته بوتائر قياسية
-
لافروف يصل البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين
-
إعلام غربي: أوكرانيا تستعد لشن ضربات على العمق الروسي خلال ا
...
-
هل يجر نتنياهو ترامب لحرب ضد إيران؟
-
الجيش اللبناني ينعى جنديين قتلا في قصف إسرائيلي استهدف مركزا
...
-
غزة.. نساء يعملن على إعادة تدوير الأقمشة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|