|
أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة الخفية في عصر الاستهلاك اللامتناهي 2/2
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8163 - 2024 / 11 / 16 - 07:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تأثير مابعد الحداثة على الرأسمالية والاستهلاك
تأثير ما بعد الحداثة على الرأسمالية والاستهلاك يُعدّ موضوعاً مركزياً في الفكر الفلسفي المعاصر، خاصة من منظور فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل جان بودريار وفريدريك جيمسون. وقد قدّم هؤلاء المفكرون تحليلات معمّقة حول كيفية تطور الرأسمالية في عصر ما بعد الحداثة بحيث لم تقتصر على الإنتاج الاقتصادي فقط، بل امتدت لتسيطر على الثقافة، والهويات، وحتى المعاني.
1. الرأسمالية في عصر ما بعد الحداثة: تحول من الإنتاج إلى الاستهلاك
الرأسمالية الاستهلاكية: يرى بودريار أن الرأسمالية في عصر ما بعد الحداثة لا تعتمد فقط على إنتاج السلع، بل على خلق حاجات استهلاكية جديدة وإشاعة ثقافة استهلاكية تعتمد على الرغبة والمتعة. التحول من الإنتاج إلى الاستهلاك كقيمة: ففي هذا السياق، لم يعد العامل الاقتصادي مجرد عملية إنتاج وتبادل للسلع بقدر ما هو عملية بناء للصور والقيم المرتبطة بهذه السلع. إن السلع لم تعد مجرد أدوات عملية أو وسيلة لتحقيق غايات معينة، بل أصبحت جزءاً من هوية الفرد وشخصيته.
2. أيديولوجيا الاستهلاك وثقافة الصور
خلق المعاني من خلال الصور: الرأسمالية المعاصرة تستغل الرموز والصور بشكل واسع لإضفاء معاني وقيم على المنتجات. يرى بودريار أن السلع باتت تُستهلك بناءً على المعاني التي تخلقها الإعلانات، بحيث تصبح السلعة أكثر من مجرد منتج؛ إنها "رمز" يعكس مكانة اجتماعية أو هوية فردية. العلامة التجارية كجزء من الذات: تطورت الرأسمالية إلى مرحلة تصبح فيها العلامة التجارية جزءاً من تعريف الفرد لنفسه، فالأشخاص يُعرِّفون أنفسهم من خلال المنتجات التي يستهلكونها، ما يُحوِّل الاستهلاك إلى عملية تأسيس للذات والهويات.
3. إنتاج الهويات وتفكيكها
الهوية من خلال الاستهلاك: يشير فريدريك جيمسون إلى أن الرأسمالية ما بعد الحداثة تخلق هويات متعددة للفرد، حيث يعتمد تعريف الإنسان لنفسه على ما يستهلكه من منتجات أو خدمات. وبالتالي، يصبح الاستهلاك وسيلة لبناء الهوية وتحقيق الانتماء إلى جماعة ما. التجزئة والتفكيك: يرى فلاسفة ما بعد الحداثة أن الرأسمالية الاستهلاكية تؤدي إلى تفكيك الهويات التقليدية، حيث لم يعد هناك نموذج واحد ثابت للهوية، بل تشكل الهوية عبر "مشاريع استهلاكية"، مما يؤدي إلى ظهور هويات مرنة ومتغيرة باستمرار تتبدل بتبدل الموضة والمنتجات.
4. المحاكاة والواقع الفائق في الاستهلاك
خلق الواقع الفائق في السوق: بودريار يربط بين الاستهلاك وما يسميه "الواقع الفائق"؛ حيث يتم خلق واقع موازٍ يتجاوز الواقع الفعلي ويستبدله بنسخة "محاكاة" مبنية على الوهم والإيحاء. فالإعلانات والأفلام تنقل صوراً مثالية للحياة اليومية، بحيث يُقنع الأفراد بأن هذه الصور هي "الحياة الحقيقية" ويستهلكون لتحقيق هذه الصورة المثالية. الاستلاب والتغريب: الفرد في هذه الحالة يصبح "مستلباً"، حيث يختفي وعيه بين الصورة الاستهلاكية والواقع، ويعيش في عالم من "المحاكاة" الذي يبعده عن إدراك واقعه الحقيقي. وهذه المحاكاة تحوله إلى "مستهلك" دائم للصور والرموز.
5. السعي وراء المتعة والاستهلاك الفارغ
الرغبة بدلاً من الحاجة: في ظل الرأسمالية ما بعد الحداثية، لا يعود الاستهلاك متعلقاً بتلبية الحاجات الأساسية، بل يتحول إلى عملية مدفوعة بالرغبة غير المحدودة. فالمنتجات الحديثة تثير الرغبات أكثر من تلبيتها لاحتياجات فعلية، ما يعزز مفهوم "الاستهلاك الفارغ" الذي يركز على الرغبة في التملك بحد ذاته. اللامعيارية في الاستهلاك: يتسم عصر ما بعد الحداثة بغياب المعايير الثابتة للاستهلاك؛ حيث تتغير الموضة والمنتجات بسرعة هائلة، ما يدفع الأفراد للسعي المستمر وراء الجديد ويدخلهم في دوامة من الاستهلاك الدائم.
6. الوقت والزمن في الرأسمالية ما بعد الحداثة
اللحظية والابتذال: الرأسمالية الاستهلاكية تتعامل مع الزمن كفترة آنية تركز على "اللحظة الحالية" وإشباعها، ما يجعل من الاستهلاك مسعى مستمراً وغير منتهي. لم يعد هناك بعد زمني طويل المدى، بل أصبح الأفراد محاصرين في لحظة استهلاك مستمرة تجدد نفسها باستمرار. التسارع وفقدان الأصالة: الرأسمالية ما بعد الحداثية تخلق عالماً من "التسارع"، حيث لا يبقى هناك مجال لتقدير الأصالة أو الجمال الحقيقي للمنتجات، بل يتم تداول الصور بشكل سريع ومكثف يخلق قيمة زائفة وسطحية للمنتج.
7. النقد الفلسفي: استعباد الذات وغياب المعنى
الاستلاب الاستهلاكي: ينتقد جيمسون وبودريار الرأسمالية ما بعد الحداثية لكونها "تستلب الذات"، حيث يفقد الفرد هويته الأصلية ويعيش في عالم من العلامات والرموز التي تُملَى عليه من خلال ثقافة الاستهلاك. يصبح الفرد محاصراً بسلعة تلو الأخرى، دون أن يجد معنى حقيقياً أو هدفاً واضحاً لحياته. التشظي وفقدان القيم التقليدية: يؤدي التركيز على الاستهلاك إلى تآكل القيم التقليدية مثل التضامن المجتمعي، والأصالة، والمسؤولية، ليحل محلها هوس تلبية الرغبات الشخصية والسطحية.
8. المستقبل واستشراف مآلات الرأسمالية الاستهلاكية
الفراغ الاستهلاكي: يعتقد الكثير من الفلاسفة أن استمرارية الرأسمالية في خلق حاجات وهمية واستهلاكات زائفة ستؤدي إلى فراغ ثقافي وقيمي. يتخوفون من أن هذا النمط سيقود الإنسان إلى حالة من الانفصال عن هويته، وفقدان القدرة على تمييز ما هو حقيقي وما هو زائف. البحث عن بدائل: بالرغم من سيطرة الرأسمالية ما بعد الحداثية على الثقافة المعاصرة، إلا أن هناك تيارات فلسفية تدعو لإيجاد طرق بديلة تعيد للفرد وعيه الحقيقي بذاته، وتسعى نحو استعادة معنى حقيقي للحياة يتجاوز سطحية الاستهلاك، مثل تيارات ما بعد ما بعد الحداثة التي تحاول إعادة بناء القيم الإنسانية بعيداً عن منطق السوق.
وفي المجمل، يمثل تأثير ما بعد الحداثة على الرأسمالية والاستهلاك تحليلاً عميقاً حول كيفية انصهار الإنسان في ثقافة الاستهلاك لدرجة أنه أصبح "مستهلَكاً" أكثر من كونه "مستهلكاً". يتجاوز الأمر استهلاك المنتجات ليصبح عملية تكوين لهوية مزيّفة مبنية على رغبات زائفة وواقع خيالي، ما يقود إلى أزمة وجودية وانفصال عن المعاني الأصيلة. يطرح هذا تحدياً للفكر المعاصر للبحث عن سبل تُمكّن الأفراد من التحرر من استلاب الرأسمالية ما بعد الحداثية وإعادة الاتصال بالذات الحقيقية.
شكل السلطة والنظام ضمن سياق ما بعد الحداثة
تعدّ السلطة والنظام في سياق ما بعد الحداثة مفاهيم أساسية، حيث يتغير دور السلطة وآلياتها في المجتمع ما بعد الحداثي بشكل جذري. في هذا السياق، يتناول فلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو، جان بودريار، وجيل دولوز دور السلطة في تشكيل الفرد والمجتمع، وتحوّل السلطة من أشكالها التقليدية إلى أنماط أكثر مرونة وانتشاراً. يركز هؤلاء الفلاسفة على كيفية تغير مفهوم النظام والسلطة في ظل انتشار التكنولوجيا، الإعلام، والعولمة، وكيف يؤدي هذا التحول إلى خلق نظم جديدة للسيطرة تختلف عن النماذج الحداثية.
1. تغير مفهوم السلطة: من السلطة المركزية إلى السلطة الموزعة
في الفكر الحداثي، كانت السلطة غالباً تتخذ طابعاً مركزياً، ويتم تنظيمها ضمن هياكل واضحة مثل الحكومة، الجيش، والدين، حيث تمارس هذه المؤسسات سلطتها بشكل مباشر وواضح. في عصر ما بعد الحداثة، تتخذ السلطة طابعاً أكثر تعقيداً؛ إذ لم تعد تتمركز في جهة واحدة، بل أصبحت منتشرة وموزعة بين العديد من القوى. يصف فوكو هذا النوع من السلطة بأنها سلطة "لا مركزية" تمارس سيطرتها عبر شبكات متعددة (مثل الإعلام، الأنظمة القانونية، الرعاية الصحية، التعليم)، مما يجعلها أكثر فاعلية لأنها أقل وضوحاً وأكثر تعقيداً.
2. السلطة كشبكة: ميشيل فوكو ونظرية "السلطة الحيوية"
ينظر فوكو إلى السلطة في عصر ما بعد الحداثة على أنها تعمل من خلال شبكة شاملة تُغطي كل أبعاد الحياة. وقدم مفهوم "السلطة الحيوية" (Biopower)، الذي يشير إلى أن السلطة الحديثة لم تعد تتدخل فقط في سلوك الأفراد بل أيضاً في حياتهم البيولوجية والصحية، وتعيد تشكيلها لتحقيق أهدافها. وفقاً لفوكو، لا تعمل السلطة فقط عبر القوانين أو العقوبات، بل من خلال التطبيع، حيث يتم تشكيل سلوكيات الأفراد بشكل غير مباشر عبر أنماط التعليم، الإعلام، والعادات الاجتماعية. هذا النظام يولّد أفراداً يراقبون أنفسهم بأنفسهم، مما يجعل السيطرة أكثر ديمومة وانتشاراً. 3. التحكم عبر التكنولوجيا: جيل دولوز ونظرية "مجتمع السيطرة" يرى جيل دولوز أن السلطة في عصر ما بعد الحداثة تتجاوز الحدود المؤسسية التقليدية، وتتحول إلى مجتمع السيطرة. في هذا المجتمع، يتم استخدام التكنولوجيا كأداة للسيطرة على الأفراد. مجتمع السيطرة، بحسب دولوز، يعتمد على أدوات غير مرئية تجعل الفرد مراقباً ومتحكماً فيه على مدار الوقت، حيث تعمل التكنولوجيا الحديثة كوسيلة لاستمرار هذه الرقابة (مثل كاميرات المراقبة، البيانات الشخصية على الإنترنت، أنظمة التقييم الاجتماعي). يوضح دولوز أن التكنولوجيا تقوم بتفكيك الحدود بين الأماكن الخاصة والعامة، حيث يمكن مراقبة الأفراد في أي مكان وفي أي وقت، مما يعزز من قوة السلطة وتأثيرها في حياة الأفراد.
4. أثر الإعلام وصناعة الواقع: جان بودريار والسلطة من خلال المحاكاة
جان بودريار يُعدّ أحد أبرز الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم السلطة من زاوية تأثير الإعلام. يرى بودريار أن الإعلام لا يعكس الواقع بل يُعيد إنتاجه وفقاً لصور ونماذج معينة. يطلق على هذه الحالة اسم "المحاكاة"، حيث تصبح الوسائل الإعلامية وسيلة لخلق واقع زائف (واقع فائق) يُصدق الأفراد أنه الواقع الحقيقي. السلطة من خلال المحاكاة تعني أن الفرد يصبح خاضعاً لنظام من الرموز والصور التي تسيطر عليه بطرق غير مباشرة، إذ يتم التحكم بتصوراته وسلوكياته عبر ما يُعرض عليه من صور، ويصبح الإعلام بذلك أداة قوية للتحكم وتوجيه الرأي العام بعيداً عن الحقائق الملموسة.
5. النظام ما بعد الحداثي: تداخل السلطة والمجتمع والاقتصاد
في سياق ما بعد الحداثة، يصبح النظام الاجتماعي أكثر تعقيداً، حيث تتداخل أبعاد السلطة مع أبعاد أخرى مثل السوق والاقتصاد. ويشير الفلاسفة إلى أن الرأسمالية الاستهلاكية أصبحت جزءاً من النظام الذي يوجه حياة الأفراد، إذ تسيطر على عقولهم عبر الحاجات والرغبات الاستهلاكية. دور الاقتصاد الاستهلاكي: يُلاحظ أن الأنظمة الحديثة تعتمد على خلق حاجات استهلاكية للأفراد، حيث تصبح السلطة متجذرة في الثقافة الاستهلاكية. لم تعد السلطة هنا تتعلق بالتحكم الجسدي أو القوانين، بل تمتد إلى أنماط الحياة والرغبات، مما يخلق نموذجاً لنظام اجتماعي استهلاكي يعمل كنظام ضخم للسيطرة غير المباشرة.
6. تفكيك المعايير في المجتمع ما بعد الحداثي: انحسار المعايير المطلقة
فلاسفة ما بعد الحداثة يشيرون إلى أن السلطة ما بعد الحداثية تعمل على تفكيك المعايير، حيث لم يعد هناك قواعد أخلاقية أو قيم ثابتة تحكم المجتمع. إن تراجع هذه المعايير يؤدي إلى ظهور ثقافة "النسبية" التي تجعل السلطة تُمارس بشكل أقل وضوحاً من خلال خلق بيئات غير مستقرة ومشوشة. اللامعيارية كأداة للسيطرة: تفكك القيم المطلقة يؤدي إلى تعزيز النظام القائم، لأن الأفراد يصبحون أكثر ميلاً لتبني توجهات متناقضة وسلوكيات مرنة، مما يجعل من السهل التأثير عليهم من خلال صور وأفكار سريعة الزوال ومتغيرة. 7. نقد ما بعد الحداثة للسلطة والنظام: السلطة كـ"سطوة ناعمة" يشير فلاسفة ما بعد الحداثة إلى أن النظام الجديد يمارس ما يمكن تسميته بـ "السلطة الناعمة"، حيث يتم توجيه الأفراد والتحكم بهم دون استخدام القوة الصريحة. هذه السلطة تعتمد على إقناع الأفراد وتوجيه رغباتهم وطموحاتهم بشكل مستمر، بحيث يصبح الأفراد تابعين للنظام بدون إدراك أنهم تحت سيطرته. التطبيع والقبول الطوعي: يوضح فوكو كيف أن الأفراد يتقبلون هذه السلطة الناعمة بشكل طوعي، حيث تصبح التوجيهات والقيم الاجتماعية مؤطرة كاختيارات شخصية أو سلوكيات طبيعية، مما يزيد من تأثير السلطة في تشكيل هويتهم دون مقاومة. 8. المقاومة وإعادة التفكير في السلطة: رؤية ما بعد الحداثة للتحرر بالرغم من أن النظام في مجتمع ما بعد الحداثة يُمارس سيطرته بشكل واسع وعميق، إلا أن فلاسفة ما بعد الحداثة يؤمنون بإمكانية المقاومة من خلال وعي الفرد بآليات السلطة التي تُمارس عليه. إعادة التفكير في مفهوم السلطة: تقترح فلسفة ما بعد الحداثة أن التحرر من السيطرة لا يتم من خلال إسقاط السلطة بحد ذاتها، بل عبر تفكيك الأساليب التي تستخدمها السلطة للسيطرة على العقول والنفوس، والتشكيك في المعايير الاجتماعية والقيم الإعلامية المتداولة.
وبشكل عام، تشير فلسفة ما بعد الحداثة إلى أن السلطة والنظام في العصر الحديث يعتمدان على آليات معقدة ومتنوعة تشمل التكنولوجيا، الإعلام، والثقافة الاستهلاكية. هذه السلطة لم تعد مركزية كما كانت، بل أصبحت غير مرئية وموزعة، مما يزيد من قوتها ويجعل السيطرة أكثر تعقيداً وصعوبة في المقاومة. يمثل النظام ما بعد الحداثي نموذجاً جديداً من السلطة "الناعمة" التي تتحكم في الأفراد بطرق غير مباشرة عبر التأثير على رغباتهم وقيمهم وهوياتهم.
ختاماً، يمكن القول إن أزمة ما بعد الحداثة لم تترك جانباً من جوانب الحياة الإنسانية إلا وغيّرته، بل وأعادت صياغته من جديد. لقد تجاوزت هذه الأزمة مجرد إعادة النظر في أفكار الحداثة الكبرى، لتفرض نظاماً فكرياً واجتماعياً معقداً يشكّل اليوم بُعداً آخر من الوجود الإنساني، يصعب تجاوزه أو تجاهله. إنَّ مفهوم الواقع الفائق الذي قدّمه جان بودريار يكشف عن حالة من الانفصال شبه الكامل بين الحقيقة والتمثيل، حيث يعيش الإنسان في ظلال صور وأوهام تغذيها قوى اقتصادية وإعلامية هائلة. هذا الواقع المُصنع أصبح نموذجاً جديداً للتلاعب في وعي الأفراد وتوجيه طموحاتهم، مما يجعلهم حبيسي أنماط استهلاكية تعيد إنتاج الأوهام وتثبّت سيطرة الرأسمالية على عقولهم وأرواحهم.
إنَّ هذه الأزمة تتجلى أيضاً في التحول الذي شهده النظام الرأسمالي، حيث لم تعد السيطرة على الأفراد عبر وسائل السلطة التقليدية فحسب، بل أصبحت السلطة تعمل عبر شبكات ناعمة وشاملة، تتسلل إلى أعماق الذات الفردية دون مقاومة، وتجعل الإنسان يلهث وراء هويته المستهلكة وأحلامه المصطنعة. لم يعد الاستهلاك مجرد شراء للسلع، بل أصبح أداة لخلق المعنى والهوية، حيث تُقدَّم للفرد خيارات لا تنتهي تُغرقه في لذة مؤقتة وسطحية، تُغذّيها ثقافة تُقدّس الرغبة وتُشجّع على الانغماس في عالم المتعة السريعة. هذه الثقافة تترك الفرد في حالة من عدم الاكتفاء، وتُعزز نظاماً اقتصادياً يُعيد إنتاج ذاته ويستمر في السيطرة على المجتمعات.
في هذا السياق، تأتي السلطة كظاهرة موزعة ومُعقدة، لم تعد تُمارس القهر بطرق مباشرة، بل تُوظف الوسائط الإعلامية والتكنولوجيا الحديثة في عملية مراقبة ذاتية وطوعية، تجعل الفرد تحت تأثير قوة خفية. يرى ميشيل فوكو أن هذه السلطة لا تعتمد على القوانين وحدها، بل على "التطبيع" وتوجيه السلوك، مما يجعل الأفراد أكثر امتثالاً لأنظمة لم يختاروها في الأصل، وإنما تُشكّلهم منذ ولادتهم وتفرض عليهم سلوكياتهم ومعاييرهم. هذه السلطة الناعمة لا تقل قوةً عن سلطة العصور القديمة، بل تفوقها تأثيراً بسبب انتشارها العميق واللامرئي.
أزمة ما بعد الحداثة تضعنا أمام سؤال جوهري: هل نحن أحرار حقاً في عصر غارق في الاستهلاك والمعلومات المتداخلة؟ وهل نملك القدرة على استعادة إرادتنا الفردية في مواجهة نظام يستخدم كل وسائله للسيطرة علينا؟ إن هذا التساؤل يجعل من أزمة ما بعد الحداثة قضية وجودية تستدعي إعادة التفكير في مفهوم الحقيقة والهوية والحرية في عالم باتت فيه الحدود بين الحقيقي والزائف، بين الواقع والوهم، متلاطمة وغير واضحة.
لعلَّ جوهر الأزمة يكمن في استعادة وعي الإنسان تجاه العالم المحيط به، واستعادة القدرة على التمييز بين الحقيقة والتزييف. إنها دعوة للتحرر من قيود استهلاكية ومرئية، تتحدانا لنخوض تجربة فكرية نحو وعي عميق ومعرفة أصيلة، تتجاوز الرموز والصور، وترسم لنا مساراً نحو فهم أعمق وأصالة أكبر. في عصر ما بعد الحداثة، قد تكون أعمق مقاومة هي أن ندرك ذاتنا خارج أُطر السلطة والنظام، وأن نواجه بفكر ناقد واقعاً فائقاً يسعى لأن يُخضعنا لصوره، ويجعلنا نعيش ضمن عالمٍ مَصنوع لا نملك فيه إلا الحيرة والتساؤل المستمر.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال
...
-
الأمن القومي العربي: تحديات العصر وفرص التحول الاستراتيجي
-
اليسار في العالم العربي: قراءة نقدية لتراجع المشروع الاشتراك
...
-
دور الفلسفة في تفسير التاريخ: من بن خلدون إلى هيجل وماركس
-
موت الإله: جدلية الفراغ والمعنى في الفكر الأوروبي والإسلامي
-
إشكالية الصلب والفداء: مقاربة فلسفية للعلاقة بين المسؤولية ا
...
-
فلسفة التاريخ: أسئلة حول الزمن ومعنى الوجود الإنساني
-
الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة وا
...
-
الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث
...
-
فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق
...
-
الليبرالية عبر العصور: فلسفة الحرية وتحديات التطبيق
-
صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في ال
...
-
الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل
-
نحو حكم رشيد: تحديات الديمقراطية في العالم العربي
-
الخضوع الطوعي للسلطة: دراسة فلسفية في العبودية الذاتية
-
الاستشراق الجديد: قراءة نقدية في خطاب الهيمنة الثقافية
-
إحياء الذات والأمة: فلسفة محمد إقبال في التحدي والتجديد
-
السياسة بين الدين والفلسفة: قراءة معمقة في النظريات السياسية
...
-
أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم و
...
-
الصمت كوسيلة للاعتراض: دراسة في عمق السياسة العربية
المزيد.....
-
وسط عدم اليقين مما ستجلبه إدارة ترامب القادمة.. ما الذي تحاو
...
-
غارات جديدة على الضاحية وحزب الله يستهدف قاعدتين إسرائيليتين
...
-
-فايننشال تايمز-: ترامب سيضغط على إيران لإجبارها على إبرام ا
...
-
عالم يكشف عن المخلوق الذي -سيحكم الأرض- في حال انقراض البشري
...
-
أسلوب شائع في المراسلة قد يجعلك أقل مصداقية
-
الأطعمة الضارة بالكلى
-
روسيا تحتج على الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها الرئاسة الدن
...
-
الشرطة التركية تضبط عيادة متنقلة يديرها -خبير تجميل مزيف-
-
مع ثلة من كوادر الحركة.. -الجهاد الإسلامي- تنعى قياديين بارز
...
-
روسيا تكشف عن كاميرا مميزة تعمل بالأشعة ما تحت الحمراء
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|