|
اليسار في العالم العربي: قراءة نقدية لتراجع المشروع الاشتراكي
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8162 - 2024 / 11 / 15 - 08:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شهدت الساحة السياسية العربية على مدى عقودٍ متعاقبة تحولاتٍ جذرية، انعكست بشكل كبير على الأيديولوجيات والتيارات الفكرية المختلفة، ومن بينها الماركسية التي مثّلت في أوجها شعلة أملٍ ونضال من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. تألقت الحركات الشيوعية والاشتراكية العربية في القرن العشرين كقوة معارضة قوية، ملتحمة مع قضايا التحرر الوطني والنضال ضد الاستعمار، متسلحة بأيديولوجية حملت وعدًا بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، وقادرة على إلهام الطبقات الكادحة والشعوب المظلومة. غير أن الواقع المعاصر يبرز صورة مغايرة تمامًا، إذ تراجعت هذه الحركات بشكل لافت، مما يدفعنا إلى البحث في الأسباب العميقة والتحديات الجسيمة التي أسهمت في أفول نجم الفكر الشيوعي والاشتراكي في العالم العربي.
لقد مثّلت الماركسية، بأبعادها الفلسفية والاقتصادية والسياسية، إطارًا لفهم الصراع الطبقي والتغيرات الاجتماعية، وعُدت مصدر إلهامٍ لكثيرٍ من الحركات التحررية في المنطقة. غير أن معطيات العصر الحديث والتغيرات العالمية والمحلية تركت بصمتها على مسار اليسار العربي، بدءًا من انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي أضعف السند الأممي للحركات الشيوعية، وصولًا إلى تصاعد التيارات الدينية وسيطرة الفكر النيوليبرالي والعولمة الاقتصادية، التي أعادت صياغة الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في معظم الدول العربية. إضافة إلى ذلك، تعرّضت هذه الحركات لقمع سياسي شديد من الأنظمة العربية، وواجهت تحدياتٍ من داخلها تمثلت في ضعف التنظيم، والانقسامات الفكرية، وفقدان القدرة على تقديم بدائل واقعية ومقبولة للجماهير.
لقد أدت هذه التحولات إلى انحسار المدّ الاشتراكي والشيوعي وتراجع تأثير اليسار العربي في الشارع، حيث بات يعاني من تآكل الحضور السياسي والشعبي، وأصبح دوره محدودًا في المعادلة السياسية والاجتماعية. إلا أن هذا التراجع لا يعني بالضرورة نهاية الفكر الماركسي في العالم العربي، بل قد يمثل نقطة انطلاق نحو التجديد والتحديث، وإعادة النظر في السبل التي يمكن بها للمشروع الاشتراكي أن يتجاوب مع متطلبات العصر، ويكون أكثر التصاقًا بقضايا الناس وهمومهم اليومية.
إذن، ما الذي أدى إلى تراجع الشيوعية والاشتراكية في الواقع العربي؟ وما هي التحديات الداخلية والخارجية التي حالت دون استمرار هذا الفكر كقوة تغيير حقيقية؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه اليسار العربي في المرحلة القادمة، إذا نجح في تجاوز أزماته وإعادة صياغة خطابه ليتناسب مع طموحات وآمال الشعوب؟ هذه التساؤلات وغيرها تضعنا أمام مشهد معقد يتطلب منا دراسة عميقة وشاملة، لتحليل أبعاد الواقع الماركسي العربي، وتقديم قراءة نقدية تجمع بين الاعتراف بأوجه القصور، والتطلع إلى فرص المستقبل. مصادر الماركسية الأساسية
الماركسية تعتمد على مجموعة من المصادر الأساسية التي شكّلت أسسها الفلسفية والاقتصادية والسياسية، وقد وُضعت بشكل رئيسي من قبل كارل ماركس وفريدريك إنجلز. وأبرز هذه المصادر:
كتابات كارل ماركس وفريدريك إنجلز:
"البيان الشيوعي" (The Communist Manifesto) (1848): كتبه ماركس وإنجلز كمقدمة للفكر الشيوعي. يقدم تحليلاً للصراع الطبقي في المجتمع والدعوة للإطاحة بالنظام الرأسمالي من خلال الثورة.
"رأس المال" (Das Kapital) (1867): يُعد هذا الكتاب العمل الاقتصادي الأهم لماركس. يحتوي على تحليلات نقدية للرأسمالية وآلياتها، ويُعتبر الأساس لتحليل العلاقات الاقتصادية واستغلال العمال من قبل النظام الرأسمالي. يوضح الكتاب كيف أن النظام الرأسمالي يؤدي إلى تركّز الثروة واستغلال البروليتاريا.
"أصول العائلة والملكية الخاصة والدولة " (The Origin of the Family, Private Property, and the State) (1884): ألّفه فريدريك إنجلز ويشرح فيه تطور الأسرة والملكية والدولة من منظور مادي تاريخي.
"الأيديولوجية الألمانية" (The German Ideology) (1846): كتاب مشترك بين ماركس وإنجلز يقدم نقداً لآراء الفلاسفة المثاليين في عصرهم، ويؤكد على أهمية المادية التاريخية.
المادية الجدلية والمادية التاريخية:
المادية الجدلية والمادية التاريخية هما مفهومان مركزيان في الفلسفة الماركسية، ويشكّلان أساساً لفهمها للتاريخ والمجتمع.
1. المادية الجدلية (الديالكتيكية):
المادية الجدلية هي منهج فلسفي يركز على فهم التغيير والتطور في الطبيعة والمجتمع من خلال التناقضات والصراع بين القوى المتعارضة. تنطلق من فكرة أن العالم المادي هو الأساس الذي ينبثق عنه الفكر، وأن التغيير يحدث نتيجة الصراع الداخلي في الظواهر الطبيعية والاجتماعية. تطورت هذه الفكرة من الجدلية (الديالكتيك) الهيغلية، لكن ماركس جعلها مادية عبر التركيز على الواقع المادي وليس على الفكر المجرد.
تُعنى المادية الجدلية بدراسة العلاقات المتشابكة بين الظواهر، وكيفية تحول الكم إلى كيف (أي أن التغيرات الكمية يمكن أن تؤدي إلى تغيرات نوعية كبيرة)، وكيف يمكن للصراع أن يكون المحرك الأساسي للتطور والتغيير. ومن خلال هذا المنهج، ترى الماركسية أن التطورات الاجتماعية والسياسية ناتجة عن الصراعات المادية والطبقية.
2. المادية التاريخية:
المادية التاريخية هي تطبيق للمادية الجدلية على دراسة التاريخ والمجتمع. ترى أن التغيرات التاريخية لا تحدث بسبب أفكار مجردة أو قوى غير ملموسة، بل بسبب العوامل المادية الملموسة، وخاصةً نمط الإنتاج الاقتصادي وعلاقاته. أي أن القاعدة الاقتصادية (البنية التحتية) تؤثر على البنية الفوقية للمجتمع (أي السياسة، الثقافة، القانون، إلخ).
تُركز المادية التاريخية على تحليل تطور المجتمعات من خلال مراحل اقتصادية مختلفة (كالعبودية، الإقطاع، الرأسمالية)، وتؤكد أن الصراع الطبقي بين مالكي وسائل الإنتاج والطبقة العاملة هو المحرك الأساسي للتاريخ. ومن هذا المنطلق، ترى أن الثورة الاشتراكية هي النتيجة الحتمية للصراع بين البرجوازية والبروليتاريا في المجتمع الرأسمالي.
باختصار، المادية الجدلية هي منهج لفهم التغيير من خلال الصراع والتفاعل بين المتناقضات، بينما المادية التاريخية تطبق هذا المنهج لفهم التاريخ والتطور الاجتماعي بناءً على العوامل المادية والاقتصادية. التاريخ الاقتصادي والفلسفي:
كان لماركس وإنجلز تأثر كبير بأعمال الفلاسفة السابقين مثل هيجل، الذي تأثروا بمنهجه الجدلي، ولكنهم أعادوا صياغته ليصبح ماديًا بدلاً من مثالي. استند ماركس إلى كتابات الاقتصاديين السياسيين الكلاسيكيين مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو، وقدم نقدًا لتحليلاتهم عن الاقتصاد الرأسمالي.
النظرية الطبقية وصراع الطبقات:
ركّزت الماركسية على مفهوم الصراع الطبقي بين الطبقة المالكة (البرجوازية) والطبقة العاملة (البروليتاريا) بوصفه المحرك الرئيسي للتغيرات الاجتماعية. تطبيقات الماركسية في العمل الثوري والتنظيم السياسي:
على صعيد العمل الثوري، كان للفكر الماركسي تأثير كبير على الحركات الثورية والتنظيمات السياسية مثل الأممية الأولى والثانية، والتي قادت مناقشات حول كيفية تحقيق التغيير الثوري وبناء المجتمع الاشتراكي. إجمالاً، تُشكل هذه الأعمال والمبادئ جوهر الفكر الماركسي الذي ينادي بالتحول من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكية، ثم إلى مجتمع شيوعي بلا طبقات.
الرؤية السياسية للماركسية الرؤية السياسية للماركسية تقوم على نقد النظام الرأسمالي والسعي إلى تحقيق مجتمع اشتراكي يتسم بالمساواة والعدالة الاجتماعية. تنطلق الماركسية من تحليل تاريخي واقتصادي يركز على الصراع الطبقي بين البرجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) والبروليتاريا (الطبقة العاملة). يعتقد ماركس أن هذا الصراع سيؤدي حتمًا إلى ثورة تطيح بالنظام الرأسمالي، ليتم استبداله بنظام اشتراكي يتولى فيه العمال السيطرة على وسائل الإنتاج.
كما يتضمن الجانب السياسي من الماركسية رؤية شاملة لكيفية تنظيم المجتمع اقتصادياً واجتماعياً بهدف القضاء على الفوارق الطبقية وإحلال نظام اجتماعي قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. الماركسية تُقدّم أيديولوجية تسعى إلى تحقيق العدالة الاقتصادية من خلال الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن ثم الشيوعية، حيث تُلغى الطبقات.
المفاهيم الرئيسية للجانب السياسي من الماركسية
الصراع الطبقي: تُعتبر الماركسية أن التغيير في المجتمع يتم عبر صراع الطبقات، وتحديدًا بين الطبقة العاملة (البروليتاريا) والطبقة الرأسمالية (البرجوازية). فمثلاً، تُحلل الماركسية الوضع السياسي في العديد من الدول عبر علاقات القوى بين من يملكون وسائل الإنتاج ومن يعملون لديهم.
الملكية العامة لوسائل الإنتاج: الهدف الأساسي هو القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج في الرأسمالية واستبدالها بملكية عامة جماعية. في الأنظمة السياسية الماركسية مثل الصين تحت قيادة الحزب الشيوعي، يظهر هذا الجانب في إشراف الدولة على مختلف القطاعات الإنتاجية الرئيسية.
الديمقراطية الشعبية: تؤمن الماركسية بشكل خاص من الديمقراطية التي تمكّن الطبقة العاملة من السيطرة السياسية، في معارضة لما تعتبره ديمقراطية برجوازية (أي الديمقراطية النيابية التقليدية). هذا ما تم تطبيقه جزئيًا في بلدان مثل كوبا وفنزويلا، حيث تم تبني نهج سياسي يتسم بتدخل حكومي قوي في الاقتصاد وسلطة سياسية مركزية.
أمثلة من الواقع السياسي المعاصر:
الصين: يُعتبر الحزب الشيوعي الصيني أحد أبرز الأمثلة على تطبيق المبادئ الماركسية، وإن كان قد مزجها بتوجهات رأسمالية للسوق في العقود الأخيرة. يعمل الحزب على السيطرة على وسائل الإنتاج الرئيسية مع إدخال بعض الإصلاحات السوقية لضمان النمو الاقتصادي، مع الحفاظ على هيمنة الدولة.
كوبا: بعد الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو، تم تأميم معظم القطاعات الاقتصادية، وأصبحت الدولة المشرفة على مختلف جوانب الاقتصاد. النظام السياسي في كوبا يعكس السيطرة الشعبية التي تنادي بها الماركسية من خلال حكم الحزب الواحد، رغم الانتقادات التي وُجهت لهذا النهج بسبب قمع المعارضة.
فنزويلا: اتبعت حكومة هوغو شافيز (1999-2013) سياسات مستوحاة من الماركسية، حيث قامت بتأميم العديد من القطاعات، ودعم البرامج الاجتماعية الموجهة نحو الفئات الفقيرة. استخدم شافيز مفهوم "الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين" بهدف تعزيز العدالة الاجتماعية وتقليص الفجوات الطبقية، وهو ما استمر بعده وإن كان النظام الفنزويلي قد تعرض لأزمات اقتصادية حادة.
أحزاب يسارية في أوروبا: أحزاب مثل "حزب اليسار" في ألمانيا أو "بوديموس" في إسبانيا تستلهم بعض الأفكار الماركسية وتدعو إلى سياسات تركز على الحد من التفاوتات الاقتصادية وتعزيز دولة الرفاه الاجتماعي.
التحديات السياسية للماركسية المعاصرة: تواجه الأنظمة والسياسات المستلهمة من الماركسية تحديات كثيرة، من ضمنها العولمة الاقتصادية، النزاعات السياسية، ومحاولات التوفيق بين الأيديولوجية الصارمة والواقع الاقتصادي المعقد. هذه التحديات تجعل من تطبيق الأفكار الماركسية بشكل صارم أمراً صعباً، وهو ما يدفع الدول إلى تبني صيغ هجينة تجمع بين التخطيط المركزي والسياسات السوقية.
المادية التاريخية وأهميتها في الفكر الماركسي
المادية التاريخية هي أحد الأعمدة الرئيسية في الفكر الماركسي، وتُعتبر المنهج الذي استخدمه كارل ماركس وفريدريك إنجلز لتحليل وتفسير التطور التاريخي للمجتمعات البشرية. يمكن اعتبارها تطبيقًا للفلسفة المادية الجدلية على التاريخ، حيث تفترض أن التغير الاجتماعي والسياسي والثقافي يتم بناءً على التحولات في البنية الاقتصادية للمجتمع. ولها أهمية كبيرة في الفكر الماركسي لعدة أسباب.
ما هي المادية التاريخية؟
الأساس المادي للمجتمع: المادية التاريخية تنطلق من أن الظروف المادية والاقتصادية تشكل البنية الأساسية للمجتمع، وهي التي تحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية. وفقًا لهذه الرؤية، فإن التاريخ ليس مجرد نتاج للأفكار أو الأفراد العظماء، بل هو نتيجة التغيرات في البنية الاقتصادية ووسائل الإنتاج. البنية التحتية والبنية الفوقية: ترى المادية التاريخية أن المجتمع يتكون من "بنية تحتية" تشمل القوى المنتجة (مثل التكنولوجيا، العمل، والموارد) وعلاقات الإنتاج (مثل الملكية والتوزيع)، ومن "بنية فوقية" تشمل المؤسسات الاجتماعية، مثل الدولة، القانون، الدين، والثقافة، والتي تُبنى على أساس البنية الاقتصادية.
أهمية المادية التاريخية في الفكر الماركسي:
تفسير التغير الاجتماعي عبر الصراع الطبقي: من خلال المادية التاريخية، فسّر ماركس أن التاريخ البشري هو تاريخ الصراع الطبقي، حيث تتغير المجتمعات نتيجة للصراع بين الطبقات المختلفة التي تنشأ بسبب علاقات الإنتاج. على سبيل المثال، الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي جاء نتيجة لصراع بين الطبقة الإقطاعية والأقنان من جهة، والبرجوازية الصاعدة من جهة أخرى.
هذا الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي للتاريخ والتقدم الاجتماعي، وهو مفهوم أساسي لفهم كيف تتغير وتنهار الأنظمة الاجتماعية وتقوم أنظمة جديدة مكانها.
تركيز على العلاقة بين الإنتاج والأيديولوجيا:
تعتبر المادية التاريخية أن الأيديولوجيات والقوانين والدين والفنون، وغيرها من مظاهر البنية الفوقية، هي انعكاس للبنية التحتية الاقتصادية. هذا يعني أن القيم السائدة في مجتمع ما تعكس مصالح الطبقة الحاكمة، وهو ما يجعل الهيمنة الأيديولوجية أداة للحفاظ على النظام القائم. على سبيل المثال، يمكن تفسير القيم الثقافية والسياسية للرأسمالية بأنها وسيلة لدعم النظام الاقتصادي الرأسمالي واستمرار التفاوت الطبقي.
توجيه الفكر الثوري:
المادية التاريخية هي الإطار الذي استخدمه ماركس لتبرير ضرورة الثورة الاشتراكية. فهي ترى أن الرأسمالية تتسم بالتناقضات الداخلية (مثل الصراع بين رأس المال والعمل) التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى انهيارها وظهور نظام جديد أكثر عدلاً وهو الاشتراكية. هذا التفسير يقدم للفكر الماركسي أرضية صلبة لإثبات أن التحول الاجتماعي ليس خيارًا طوعيًا، بل هو ضرورة تاريخية مدفوعة بالتغيرات المادية والاقتصادية.
تفسير تطور الأنظمة الاجتماعية:
المادية التاريخية تقدم تفسيرًا تطوريًا للمجتمع البشري من خلال أنماط الإنتاج. وفقًا لها، مرت البشرية بمراحل متعددة: الشيوعية البدائية، العبودية، الإقطاع، الرأسمالية، وفي النهاية الاشتراكية والشيوعية. كل مرحلة هي نتيجة لتطور قوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية المصاحبة لها. على سبيل المثال، تطور الصناعة والتجارة في أوروبا أدى إلى إضعاف النظام الإقطاعي وظهور الرأسمالية، مما خلق طبقة برجوازية قوية تقود التغيير الاجتماعي.
أداة لتحليل الحاضر والتخطيط للمستقبل:
المادية التاريخية لا تقتصر على تفسير الماضي، بل هي أداة لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. من خلال تحليل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية، يمكن توقع الاتجاهات التي ستقود إلى تغيرات اجتماعية، مما يجعلها أداة أساسية في يد الحركات السياسية التي تسعى للتغيير.
أمثلة من الواقع المعاصر:
تأثير العولمة على الطبقة العاملة: يمكن استخدام المادية التاريخية لتحليل تأثير العولمة الاقتصادية على العمال، حيث أدت التحولات في وسائل الإنتاج (مثل التكنولوجيا المتقدمة وتوزيع الإنتاج عالميًا) إلى تغيير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في معظم البلدان، بما في ذلك ظهور أزمات اقتصادية وعدم استقرار اجتماعي.
صعود الحركات العمالية: نشأت العديد من الحركات السياسية والاجتماعية كرد فعل على الظلم الاقتصادي والطبقي، وهو أمر يتوافق مع التحليل المادي التاريخي للصراع الطبقي.
باختصار، المادية التاريخية تشكّل جوهرًا تحليليًا ومنهجيًا في الماركسية لفهم كيف تتطور المجتمعات من خلال التركيز على القوى الاقتصادية والظروف المادية. إنها تمنح الأيديولوجية الماركسية أساسًا علميًا لتحليل وتحويل المجتمع.
أسباب تراجع الشيوعية والاشتراكية
إن تراجع الشيوعية والاشتراكية في الواقع العربي المعاصر يحمل العديد من الأبعاد، ويعكس تقييمًا نقديًا للتحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها الحركات اليسارية والاشتراكية في المنطقة. فيما يلي أبرز النقاط التي يعبر عنها الماركسيون العرب في هذا السياق:
1. انهيار الاتحاد السوفيتي وتراجع الدعم الدولي: يرى العديد من الماركسيين العرب أن انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات كان له أثر مدمر على الحركة الشيوعية والاشتراكية في العالم العربي. فقد أدى هذا الحدث إلى تراجع الدعم المادي والمعنوي الذي كانت تقدمه القوى الشيوعية العالمية، مما أثر على التنظيمات اليسارية العربية التي اعتمدت جزئيًا على هذا الدعم. كما أدى سقوط الاتحاد السوفيتي إلى تراجع الثقة في الأيديولوجيا الاشتراكية بشكل عام، واعتباره نموذجًا غير قادر على الصمود في وجه الضغوط السياسية والاقتصادية.
2. سياسات القمع والتضييق على اليسار العربي: تعرضت الحركات الشيوعية واليسارية في العالم العربي على مدى عقود لقمع شديد من قبل الأنظمة الحاكمة، سواء من الأنظمة الملكية أو الجمهورية. استخدمت الأنظمة سياسات الاعتقال والتعذيب والنفي لكبح جماح الحركات اليسارية، مما أضعف قدرتها على التأثير السياسي. بالإضافة إلى ذلك، عانت هذه الحركات من التضييق الإعلامي والسياسي ومنع النشاط العلني، مما حال دون وصول خطابها إلى قطاعات أوسع من الجماهير. 3. التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة: مع تبني العديد من الدول العربية سياسات اقتصادية ليبرالية وتحرير الاقتصاد منذ السبعينيات والثمانينيات، تراجعت الاهتمامات بالبدائل الاشتراكية التي كانت تعتمد على القطاع العام ودور الدولة في الاقتصاد. الماركسيون العرب يشيرون إلى أن "النيوليبرالية" أضعفت الحركات اليسارية من خلال استقطابها للقوى الاقتصادية والسياسية الرئيسية نحو الرأسمالية. الأزمات الاقتصادية المستمرة والفساد داخل الحكومات ساهمت أيضًا في تفاقم الإحباط بين الجماهير، ولكن في كثير من الأحيان، لم تتمكن الحركات اليسارية من استغلال هذه الأزمات بشكل فعال لتوجيه مسار التغيير.
4. صعود الإسلام السياسي: أدى صعود الإسلام السياسي منذ أواخر السبعينيات في كثير من الدول العربية إلى هيمنة التيارات الدينية على الساحة السياسية كبديل للأنظمة الحاكمة، مما أضعف بدوره حضور الحركات الشيوعية والاشتراكية. الإسلاميون نجحوا في تعبئة الجماهير بشكل واسع مستفيدين من الثقافة الدينية السائدة، في حين عانت الحركات اليسارية من صعوبة في مخاطبة القواعد الشعبية بنفس القوة. أحيانًا لعبت الأنظمة السياسية دورًا في تشجيع الحركات الإسلامية لموازنة الحركات اليسارية، ما أدى إلى إضعاف الأخيرة.
5. أخطاء داخلية في التنظيم والحركات اليسارية:
يقر العديد من الماركسيين العرب بأن التراجع لم يكن سببه فقط عوامل خارجية، بل أيضًا أخطاء داخلية في التنظيمات اليسارية. هذه الأخطاء تشمل ضعف العمل التنظيمي، غياب الاستراتيجيات الفعالة، الانقسامات الفكرية، والتركيز المفرط على الصراعات الأيديولوجية الداخلية على حساب النشاط الميداني. ضعف التواصل مع الفئات الشعبية وعدم قدرتها على تقديم حلول واقعية وملموسة للمشاكل اليومية للمواطنين ساهم في ضعف الثقة بالحركات اليسارية.
6. العولمة والثقافة النيوليبرالية:
يرى الماركسيون العرب أن العولمة وما صاحبها من هيمنة للثقافة النيوليبرالية والقيم الاستهلاكية ساهمت في إضعاف الوعي الطبقي والعمل الجماعي لصالح نزعة فردية، وهو ما أدى إلى انحسار الحركات اليسارية التي تعتمد على التضامن والعمل الجماعي في المطالبة بالحقوق.
7. غياب رؤية جديدة أو تحديث الفكر الماركسي:
كثير من الماركسيين العرب يشيرون إلى الحاجة لتطوير الفكر الماركسي ليواكب تحديات العصر. لم تعد النظريات الماركسية التقليدية تجيب بشكل مقنع على تعقيدات الواقع العربي، ما أدى إلى تراجع جاذبيتها بين الشباب والطبقات الشعبية.
محاولات التجديد وأمل العودة: رغم التحديات، يسعى بعض الماركسيين العرب في الوقت الحاضر إلى إحياء الفكر الاشتراكي عبر محاولة تجديد الماركسية، وتقديم حلول مبتكرة للأزمات الراهنة مثل البطالة، الفقر، عدم المساواة، وغياب العدالة الاجتماعية. هناك دعوات بين صفوف اليساريين لتوحيد الجهود وتجاوز الخلافات الداخلية، والتركيز على قضايا مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية كمدخل للتفاعل مع المجتمعات العربية. باختصار، يرى الماركسيون العرب أن تراجع الشيوعية والاشتراكية في المنطقة هو نتيجة تضافر عوامل داخلية وخارجية، لكنهم يعتقدون أن الفكر الاشتراكي لا يزال قادرًا على تقديم بديل في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، شريطة إعادة التفكير في الخطاب السياسي وأساليب التنظيم والتواصل مع المجتمع.
وفي الختام، يمكن القول إن تراجع الشيوعية والاشتراكية في العالم العربي ليس مجرد انعكاسٍ للتحولات العالمية والإقليمية، بل هو أيضًا نتاج سياقٍ داخلي معقد شمل قمعًا سياسيًا، صعودًا لتياراتٍ منافسة، وتحدياتٍ بنيوية واجهت الحركات اليسارية نفسها. لقد جاء هذا التراجع بعد عقودٍ من النضال والعمل على صياغة مشروع تغييري شامل، حاول أن يجسد طموحات وآمال الملايين من العمال والفلاحين والكادحين الباحثين عن العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ورغم كلّ ما تعرضت له هذه الحركات من انتكاسات وصدمات، لا تزال بعض نواتج هذا الفكر تلهم الكثيرين وتظل بمثابة تذكيرٍ بأن نضال العدالة والحرية والمساواة لا يتوقف.
إن الحديث عن تراجع الفكر الماركسي في العالم العربي يعكس، من جهة، حجم التحديات التي واجهت هذا التيار، لكنه يكشف من جهة أخرى عن الحاجة الملحة لإعادة التفكير في أدوات اليسار واستراتيجياته. لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي ومستدام من دون الالتحام بالواقع المعاصر وتقديم حلولٍ عملية وملموسة للأزمات التي تعاني منها المجتمعات العربية. لذا، فإن الأمل لا يزال قائماً في أن تشهد الحركة الاشتراكية نهضةً جديدة تعيد صياغة مفاهيمها بما يتماشى مع متغيرات العصر، مستفيدةً من دروس الماضي ومحاولة استيعابها في رؤى أكثر شمولية ومرونة وقدرة على مواكبة التحديات.
في نهاية المطاف، يبقى التحدي الأكبر هو قدرة اليسار العربي على التحول إلى مشروع جامع يُلهم الجماهير مجددًا، ويقدم بديلاً فعّالًا يواجه الاستبداد، والفقر، وعدم المساواة. فإذا استطاع اليسار الماركسي تجاوز معضلاته الذاتية، وبناء جسور مع القضايا الشعبية العادلة، فإنه سيستعيد مكانته كحركة تغيير، ويثبت أن الأفكار، مهما بدا خفوتها في لحظةٍ ما، قادرة على أن تُشعل جذوة النضال من جديد، حين تجد الإرادة والإيمان بقدرتها على تحقيق واقع أفضل.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دور الفلسفة في تفسير التاريخ: من بن خلدون إلى هيجل وماركس
-
موت الإله: جدلية الفراغ والمعنى في الفكر الأوروبي والإسلامي
-
إشكالية الصلب والفداء: مقاربة فلسفية للعلاقة بين المسؤولية ا
...
-
فلسفة التاريخ: أسئلة حول الزمن ومعنى الوجود الإنساني
-
الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة وا
...
-
الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث
...
-
فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق
...
-
الليبرالية عبر العصور: فلسفة الحرية وتحديات التطبيق
-
صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في ال
...
-
الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل
-
نحو حكم رشيد: تحديات الديمقراطية في العالم العربي
-
الخضوع الطوعي للسلطة: دراسة فلسفية في العبودية الذاتية
-
الاستشراق الجديد: قراءة نقدية في خطاب الهيمنة الثقافية
-
إحياء الذات والأمة: فلسفة محمد إقبال في التحدي والتجديد
-
السياسة بين الدين والفلسفة: قراءة معمقة في النظريات السياسية
...
-
أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم و
...
-
الصمت كوسيلة للاعتراض: دراسة في عمق السياسة العربية
-
الوعي العربي في مواجهة أزماته الوجودية: قراءة فلسفية
-
الليبرالية الأوربية على مفترق الطرق - صراع القيم ومستقبل الأ
...
-
الذكورية السياسية في الفكر الفلسفي: نقد للسلطة الجندرية وآفا
...
المزيد.....
-
بعد كرههما للعيش في فرنسا..أمريكيان سعيا للعودة إلى بلادهما
...
-
طلاب يساعدون بحل قضية باردة لقتل شابة في عام 1974.. ماذا فعل
...
-
صيحات استهجان أثناء عزف النشيد الإسرائيلي قبل بدء مباراة فرن
...
-
ارتبطوا بشركة سورية تدعم الحرس الثوري.. أمريكا تفرض عقوبات ع
...
-
خبير فنلندي: رسالة بوتين خلال منتدى فالداي للغرب كانت شديدة
...
-
-وول ستريت جورنال- عن مسؤولين إسرائيليين: ترامب وافق على خط
...
-
من يحكم سوريا؟
-
وقف تنفيذ خطة الجنرالات شمال قطاع غزة وخلاف حاد في المؤسسة
...
-
لقاء ماسك بمسؤول إيراني.. وطهران تريد إزالة الشكوك حول البرن
...
-
محكمة الاتحاد الأوروبي تباشر الاستماع في قضية مراسلات بين فو
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|