|
إشكالية الصلب والفداء: مقاربة فلسفية للعلاقة بين المسؤولية الفردية والعدالة الإلهية
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8160 - 2024 / 11 / 13 - 08:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عقيدة الصلب والفداء تُعدُّ واحدة من أعمق وأهم العقائد التي شكلت جوهر الديانة المسيحية وساهمت في رسم ملامح الإيمان المسيحي عبر التاريخ. هذه العقيدة، التي تركز على التضحية والفداء، تجسد في نظر المسيحيين أقصى معاني الرحمة والعدل، حيث يُعتقد أن الله بذاته تجسد في صورة المسيح ليفدي البشرية من خطاياها. ومع ذلك، فقد كانت هذه العقيدة محل جدل وتأمل لاهوتي وفلسفي عميقين على مر العصور، ليس فقط في أوساط المسيحيين أنفسهم، بل أيضًا في أوساط المسلمين واليهود وأصحاب الفكر الفلسفي.
يختلف الإسلام واليهودية جوهريًا عن المسيحية في تناول مسألة الصلب والفداء، ويرفض كل منهما هذه العقيدة، مقدّمَين بدائلَ فكرية وروحية تختلف في جوهرها ومفهومها عن التصور المسيحي. الإسلام، على سبيل المثال، ينفي حادثة الصلب عن المسيح عيسى بن مريم، ويؤكد أن الله رفعه إليه، موضحًا أن الله غفور رحيم، لا يحتاج إلى تضحية لتكفير الذنوب، بل يفتح باب التوبة لكل من يطلبه بإخلاص. وفي اليهودية، نجد رفضًا واضحًا لفكرة الفداء من خلال التضحية بشخص بريء، مع تركيز أكبر على مفهوم التوبة الفردية، والمسؤولية الشخصية، وإصلاح الإنسان لنفسه. هذا الموقف الثابت في كلا الديانتين يعبر عن تباين جوهري في النظرة إلى الله والعدل والخلاص.
وفي العمق الفلسفي لهذا الموضوع، تُطرح أسئلة ذات طابع أخلاقي ولاهوتي معقد حول مدى التوافق بين التضحية من أجل الفداء ومفهوم العدالة، وحول طبيعة الإله ورحمته. كيف يمكن للإله العادل أن يقبل التضحية بالبريء ليحمل ذنوب البشرية؟ هل تتعارض هذه العقيدة مع فكرة المسؤولية الفردية؟ وما هو الدور الذي تلعبه التوبة والأعمال الصالحة في تحقيق الغفران؟
هذه التساؤلات لا تمثل مجرد جدل ديني أو فكري، بل تحمل في طياتها صدى إنسانيًا يبحث عن المعنى الأسمى للعدالة، والغفران، والمسؤولية. من هنا، تكتسب دراسة هذا الموضوع أهمية كبرى، حيث تفتح لنا نافذة لفهم أعمق لطبيعة العقائد والأفكار التي شكّلت تاريخ الأديان والتصورات المختلفة حول طبيعة الله والخلاص، بل وتدفعنا إلى التساؤل عن مغزى الرحمة والعدل في أسمى صورهما، وعن الكيفية التي يسعى بها الإنسان، بمختلف معتقداته، إلى التقرب إلى الله وإيجاد السلام الروحي.
عقيدة الصلب والفداء من وجهة نظر فلسفية
عقيدة الصلب والفداء هي من القضايا المركزية في المسيحية، وتعتبر من القضايا المعقدة فلسفيًا ولاهوتيًا، حيث تتداخل فيها مفاهيم الخلاص، الطبيعة البشرية والإلهية للمسيح، ومفهوم العدل الإلهي. يمكن تناول هذه العقيدة من وجهة نظر فلسفية عبر عدد من المحاور الأساسية، منها:
مفهوم الخلاص والتضحية: تعني العقيدة أن يسوع المسيح قد صلب ليكفر عن خطايا البشرية، وهذه التضحية قُدمت كفداء للإنسان ليحصل على الخلاص. فلسفيًا، يمكن النظر إلى هذا المفهوم عبر تساؤلات حول العدالة الإلهية؛ لماذا يحتاج الله إلى تضحية من نفسه لكي يُسامح مخلوقاته؟ وما مدى معقولية العقيدة التي تفترض أن الله يتجسد ويضحي بنفسه من أجل مغفرة خطايا الآخرين؟
الطبيعة الإلهية والبشرية: تطرح عقيدة الصلب والفداء تساؤلات حول كيفية تجسد الله في صورة بشرية وقبوله للموت. ففلسفيًا، هناك نقاش حول إمكانية جمع الصفات الإلهية المطلقة، مثل عدم الفناء والكمال، مع الصفات البشرية مثل الضعف والموت. هذا يثير تساؤلًا عن كيفية حدوث الصلب وأثره على الهوية الذاتية للمسيح كإله وإنسان في الوقت نفسه.
العدالة والمغفرة: يرى البعض أن عقيدة الصلب والفداء تقوم على فكرة العدالة، حيث إن الله يحقق عدالته بمعاقبة المسيح بدلًا عن البشرية. غير أن فلسفيًا، قد يُثار تساؤل حول ما إذا كان العدل يتحقق فعلاً عبر معاقبة البريء (المسيح) بدلًا من الخاطئ. هناك من يعترض على هذا بكون العدالة تقوم على أن يتحمل كل شخص تبعات أفعاله، وبالتالي يعتبرون أن العقيدة تثير تعقيدًا في فهم معنى العدالة.
الحاجة إلى الفداء: من زاوية فلسفية، يثار تساؤل حول "الحاجة" إلى الفداء. لماذا لم يكن بإمكان الله أن يغفر للبشر من دون الحاجة إلى التضحية؟ هل يتعارض ذلك مع كمال الله وقدرته اللامتناهية على الغفران؟
الرمزية والبعد الأخلاقي: يمكن أن تُفهم عقيدة الصلب والفداء كرمز للتضحية من أجل الآخرين ومحبة الله للبشرية، حيث تكون رسالة الصلب هي رسالة محبة وسلام، وتدعوا للصفح والغفران. من هذا المنظور، تُعتبر العقيدة كوسيلة للتعبير عن القيم الأخلاقية العليا.
التأثير على الفلسفة الأخلاقية: يعزز مفهوم التضحية والفداء نظرة فلسفية حول التضحية والإيثار كقيم أخلاقية. لكن، يبقى السؤال: هل يعد تقديم الذات أو التضحية بالنفس أمرًا واجبًا أخلاقيًا؟ وهل يمكن اعتبار معاقبة البريء (المسيح) من أجل المذنبين عدلًا؟
في المجمل، العقيدة تعكس محاولة لاهوتية للتوفيق بين العدالة الإلهية والمحبة الإلهية، لكنها تظل موضوع نقاش مستمر بين الفلاسفة واللاهوتيين.
هل تتعارض عقيدة الصلب والفداء مع مفهوم العدل الالهي؟
عقيدة الصلب والفداء، بالفعل، تثير العديد من التساؤلات حول مدى توافقها مع مفهوم العدل الإلهي، وهذا النقاش حاضر منذ القرون الأولى للمسيحية. ولتحليل هذا السؤال يمكننا تناول عدة نقاط:
معاقبة البريء بدلاً من المذنب: يرى المعترضون أن عقيدة الصلب والفداء تتعارض مع مفهوم العدل، لأن العدل يتطلب معاقبة المذنب، وليس البريء. فوفقًا للعقيدة، المسيح البريء تحمل عقوبة خطايا البشرية، وهو ما يبدو غير عادل بحسب المبادئ العقلية للعدالة. إذ أن العدل يقتضي أن يتحمل كل إنسان عواقب أفعاله الخاصة، بينما العقيدة تشير إلى معاقبة شخص نيابة عن الجميع، وهذا يصعب تبريره عقلانيًا.
العدالة الإلهية والرحمة الإلهية: المؤمنون بالعقيدة يرون أن الله عادل وفي الوقت ذاته رحيم، ويقولون إن الفداء يجسد كلا الصفتين؛ حيث قدم المسيح نفسه كفداء بقبول طوعي، وبهذا، لم يُفرض عليه العقاب بل قَبِلَه بمحض إرادته، ليكون وسيلةً لتحقيق العدالة والرحمة معًا. يعتقدون أن هذا الفعل يُظهر عدل الله، لأنه لا يتجاهل الخطيئة، ولكنه في الوقت ذاته يعبر عن رحمته من خلال تقديم الخلاص للجميع.
الفداء كبديل للعدل العقابي: بعض الفلاسفة واللاهوتيين يقترحون فهمًا رمزيًا للعقيدة. وفقًا لهذا الرأي، الفداء لا يتعارض مع العدل، بل يعبر عن مبدأ التضحية والمحبة بدلاً من العدل العقابي. فالصلب، في هذا السياق، ليس انتقامًا أو عقابًا، بل تعبير عن الاستعداد للتضحية والفداء من أجل الآخرين، ويعكس قيمة أخلاقية عليا تتجاوز مفاهيم العدالة التقليدية.
التضحية الطوعية كمفهوم للعدالة: يجادل بعض المدافعين عن العقيدة بأن العدالة يمكن أن تشمل التضحية الطوعية التي يختارها الشخص بملء إرادته. فالمسيح، وفقًا لهذا التصور، قد قدم نفسه بملء إرادته وليس نتيجة إجبار، وبالتالي، يُعتبر عمله طوعيًا لا يتعارض مع العدالة، لأن التضحية الطوعية ليست عقابًا بل عملًا اختياريًا من أجل الآخرين.
العدل الإلهي كبعد غير قابل للفهم البشري الكامل: يرى آخرون أن مفهوم العدل الإلهي يتجاوز فهم البشر للعدل؛ فالله بصفاته المطلقة قد تكون له معايير مختلفة للعدل، وقد يرى أن التضحية هي الطريقة الوحيدة لتحقيق هدف الخلاص. وبالتالي، قد لا يكون من الممكن لنا فهم هذا العدل من خلال المعايير الإنسانية المحدودة.
وبشكل عام، هناك آراء متباينة حول مدى تعارض عقيدة الصلب والفداء مع مفهوم العدل الإلهي. يرى المعارضون أن العقيدة تبدو غير منسجمة مع العدالة التقليدية، بينما يرى المدافعون أن العقيدة تتضمن بُعدًا أخلاقيًا ورمزيًا يعبر عن التضحية والمحبة، ويعكس عدالةً إلهيةً تفوق التصور البشري.
أهم وأبرز الانتقادات الموجهة إلى عقيدة الصلب والفداء
أهم وأبرز الانتقادات الموجهة إلى عقيدة الصلب والفداء يمكن تقسيمها إلى عدة جوانب فلسفية ولاهوتية وأخلاقية، وهي تتناول أسئلة حول العدالة، والتضحية، والفداء، والطبيعة الإلهية والبشرية للمسيح، وفيما يلي توضيح لأبرز هذه الانتقادات:
إشكالية العدالة الإلهية: يثار هنا سؤال جوهري حول ما إذا كانت العقيدة تتعارض مع مفهوم العدالة الإلهية، إذ إن معاقبة المسيح البريء نيابة عن خطايا البشرية يعتبر، بالنسبة لمنتقدي العقيدة، تصرفًا يناقض العدالة. يرى البعض أن العدالة الحقيقية تعني أن يتحمل كل شخص مسؤولية خطاياه، وبالتالي لا يمكن تبرير فكرة التضحية بإنسان بريء ليحمل عواقب أخطاء الآخرين.
إمكانية الغفران دون الفداء: ينتقد البعض ضرورة الفداء لتحقيق الغفران، متسائلين لماذا لا يمكن لله أن يغفر للبشرية مباشرة دون الحاجة إلى التضحية بأحد، إذا كان الله كامل الرحمة والمغفرة. في نظرهم، يجعل هذا من العقيدة معقدة وغير ضرورية لتحقيق الغفران، إذ يعتقدون أن الإله الرحيم يمكن أن يغفر دون الحاجة إلى التضحية.
التناقض مع حرية الإرادة:
الانتقادات هنا تشير إلى أن عقيدة الصلب والفداء قد تتعارض مع مفهوم حرية الإرادة، حيث تفرض على البشرية بالكامل خيارًا تم اتخاذه نيابة عنها. يتمثل الانتقاد في أن البشرية لم تُعطَ فرصة للاختيار بشكل مباشر في هذا الحدث، بل تم الفداء عنها بصورة إجبارية، مما يتناقض مع مبدأ حرية الاختيار في تحديد المصير الروحي.
عدم فهم طبيعة الله:
بعض النقاد يرون أن العقيدة تجعل الله يبدو وكأنه يحتاج إلى التضحية لكي يُشبع "عدله"، في حين يُفترض أن يكون الله مكتفيًا بذاته ولا يحتاج إلى شيء. هذا التصور قد يعتبر تقليصًا لفكرة الكمال الإلهي، حيث يُوحي بأن الله لديه احتياجات مثل العدالة والانتقام يجب أن تتحقق عبر التضحية.
مشكلة التناقض بين الطبيعتين الإلهية والبشرية:
من الانتقادات اللاهوتية للعقيدة أن القول بأن المسيح هو الله المتجسد يتنافى مع صفات الألوهية؛ إذ لا يمكن للإله الكامل أن يختبر الألم والموت كبشر. يعتبر بعض الفلاسفة اللاهوتيين أن هذا التناقض يصعب فهمه، ويجعل من الصعب قبول فكرة أن الله يمكن أن يتألم أو يموت، بينما يتصف بالقدرة المطلقة والخلود.
مسألة الاستحقاق الأخلاقي:
يعتبر بعض الفلاسفة الأخلاقيين أن العقيدة قد تُضعف فكرة المسؤولية الأخلاقية، لأنها تمنح البشر الخلاص من خلال شخص آخر وليس من خلال أفعالهم. إذًا، فإن تضحية المسيح قد تُفهم، بحسب هؤلاء النقاد، كمبرر للتهرب من تحمل عواقب الأفعال الشخصية، ما يمكن أن يضعف مفهوم الأخلاق المستقلة والمسؤولية الفردية.
الرمزية وغياب البعد العقلاني:
بعض النقاد يرون أن عقيدة الصلب والفداء قد تكون رمزية بالدرجة الأولى، وبالتالي لا يجب أن تُفهم بطريقة حرفية. بالنسبة لهم، الطبيعة المعقدة للعقيدة وفكرتها عن الخلاص من خلال التضحية غير منطقية إذا نظرنا إليها حرفيًا، ويقترحون أن فهم العقيدة كرمز يمكن أن يقدم معنى أفضل من الفهم الحرفي الذي يجعل العقيدة تبدو غير معقولة.
وهكذا نرى أن أهم الانتقادات الموجهة لعقيدة الصلب والفداء تتمحور حول قضايا العدالة، ومفهوم الإله، والتضحية، والمسؤولية الفردية. ينظر البعض إلى هذه الانتقادات على أنها تعكس تعقيدًا فلسفيًا وأخلاقيًا في العقيدة، بينما يرى آخرون أن التفسير الروحي أو الرمزي قد يكون وسيلة لفهمها وتجاوز هذه الانتقادات.
عقيدة الصلب والفداء وفقاً للتصور الإسلامي
عقيدة الصلب والفداء تُعتبر من العقائد الأساسية في المسيحية، ولكن وفقاً للتصور الإسلامي، هناك اختلاف جوهري في النظرة إلى هذه العقيدة. إليك أهم الجوانب التي يتناول بها الإسلام موضوع الصلب والفداء:
رفض الصلب: الإسلام ينكر حادثة الصلب، حيث يؤكد القرآن الكريم أن المسيح، عيسى بن مريم عليه السلام، لم يُصلب ولم يُقتل، بل رفعه الله إليه. يقول الله في القرآن: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ" [سورة النساء: 157]. وفقًا للتصور الإسلامي، فبدلاً من الصلب، حدث ما يُعرف بالتشبيه، أي أن الله جعل شخصًا آخر يبدو مثل المسيح وتم صلبه بدلاً عنه.
عدم الحاجة إلى الفداء: الإسلام يؤمن بأن الله رحيم وغفور، ولا يحتاج إلى تضحية أو فداء ليغفر للناس خطاياهم. وفقاً للتصور الإسلامي، يمكن لأي شخص أن يتوب عن ذنوبه مباشرة إلى الله ويطلب منه المغفرة، لأن الله يقبل التوبة ويغفر الذنوب جميعًا. فلا يوجد في الإسلام مفهوم يُشبه عقيدة الفداء، لأن العلاقة بين الإنسان والله تعتمد على التوبة الشخصية والإصلاح وليس على التضحية بآخر نيابةً عن المذنب.
تحمل المسؤولية الفردية: التصور الإسلامي يؤكد على مبدأ المسؤولية الفردية، حيث يُحاسب كل شخص عن أعماله الخاصة دون تدخل أو تحمل من الآخرين. يقول الله في القرآن: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" [سورة النجم: 39]، وكذلك "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" [سورة الأنعام: 164]. بناءً على هذا المبدأ، لا يمكن لشخص بريء أن يتحمل ذنب شخص آخر، ولا يمكن لأي شخص أن يُفدي آخر ليخلصه من عقوبة خطاياه، بل يتوجب على كل فرد أن يسعى لتصحيح أخطائه بنفسه.
مكانة المسيح في الإسلام: يُعترف بالمسيح عيسى بن مريم في الإسلام كنبي ورسول من أولي العزم، له مكانة خاصة، ويؤكد الإسلام على معجزاته، مثل ولادته من مريم البتول دون أب وإحيائه الموتى بإذن الله. ومع ذلك، يؤكد الإسلام أن المسيح بشر ونبي مرسل، وليس إلهًا أو ابنًا لله، ويرفض فكرة الألوهية المنسوبة له.
الرحمة والغفران من دون وسيط: في الإسلام، الله قريب من عباده ويستجيب لدعواتهم من دون الحاجة إلى وسيط. يقول الله في القرآن: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" [سورة البقرة: 186]. هذا يُعني أن التوبة والاستغفار يكونان بشكل مباشر، حيث يمكن للإنسان أن يستغفر الله ويتوب إليه وينال رحمته وغفرانه دون تدخل أو حاجة إلى وساطة من أي شخص آخر.
وفي المجمل، فإن التصور الإسلامي يرى أن عقيدة الصلب والفداء ليست جزءًا من المعتقدات، بل يُنظر إليها كتصور غير صحيح عن الله وعن المسيح. الإسلام يعارض فكرة الصلب ويؤكد على رحمة الله وغفرانه التي يمكن الوصول إليها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح، ويشدد على مسؤولية كل إنسان عن أفعاله بشكل فردي.
عقيدة الصلب والفداء من منظور الديانة اليهودية
في الديانة اليهودية، لا توجد عقيدة تشبه الصلب والفداء كما هو موجود في المسيحية. التصور اليهودي حول مفهوم الخلاص والعلاقة بين الإنسان والله يتباين بشكل كبير عن التصور المسيحي والإسلامي، وفيما يلي أبرز جوانب هذا التصور اليهودي:
الرفض الكامل لعقيدة الفداء من خلال شخص آخر:
اليهودية تعارض فكرة أن إنسانًا يمكن أن يموت أو يُعاقب لتحمل خطايا الآخرين نيابة عنهم. يُعتبر ذلك غير متوافق مع مبدأ المسؤولية الفردية الذي يقوم عليه الفكر اليهودي، حيث يُعتقد أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله أمام الله، ولا يمكن لأي شخص أن يُخلص الآخرين أو يتحمل عنهم خطاياهم.
التوبة الفردية والكفارة: في اليهودية، يُعتبر الخلاص والعفو عن الذنوب أمرًا يمكن تحقيقه من خلال التوبة الصادقة وأداء أعمال التكفير (التشوفا)، التي تشمل الاعتراف بالذنب، والتعهد بعدم تكراره، والعمل على تصحيح الضرر الذي أُحدث. ويتم تحقيق الغفران من خلال الصلاة والتوبة الفردية. لا تحتاج اليهودية إلى وسيط بين الإنسان والله، ويمكن للإنسان أن يتقرب إلى الله ويكفّر عن ذنوبه مباشرة من خلال التوبة الصادقة.
يوم الكفارة "يوم كيپور":
يعد "يوم كيپور" (يوم الغفران) من أقدس الأيام في اليهودية، ويعتبر مناسبة خاصة للتكفير عن الذنوب. في هذا اليوم، يصوم اليهود ويصلون ويطلبون الغفران من الله. يُعزز هذا اليوم مفهوم التكفير الفردي عبر التوبة والعمل الصالح، ويعبر عن قدرة الإنسان على إعادة بناء العلاقة مع الله من دون الحاجة إلى فداء أو تضحية إنسانية.
مفهوم الذبائح في الهيكل:
في العصور القديمة، كانت اليهودية تتضمن نظامًا من الذبائح في الهيكل (مثل تقديم القرابين)، ولكن هذه الذبائح كانت تهدف إلى التعبير عن التوبة والشكر والتقديس، وليس الفداء بالمعنى المسيحي. بعد دمار الهيكل الثاني، انتهى نظام تقديم القرابين وأصبح التركيز منصبًّا على الصلاة والتوبة الشخصية والعمل الصالح كوسائل للتقرب من الله.
المسيا في اليهودية:
اليهودية تؤمن بقدوم "المسيا" (المسيح) كقائد روحي وسياسي يساهم في تحقيق السلام وإعادة بناء القدس، لكنه لا يُعتبر فاديًا للبشرية من الخطايا، ولا يعتقد اليهود بأنه سيُصلب أو يموت ليكفر عن خطايا الآخرين. المسيا في اليهودية هو شخصية إنسانية لها دور مستقبلي يرتبط بتحقيق العدالة والسلام على الأرض، وليس خلاصًا من الخطايا.
العلاقة المباشرة بين الإنسان والله:
في اليهودية، العلاقة بين الإنسان والله تُعتبر علاقة مباشرة بدون وساطة، ويعتقدون أن الله قريب من عباده ويستجيب لهم عند التوبة والدعاء. كما أن الإيمان اليهودي يُعزز مفهوم المسؤولية الذاتية والعودة إلى الله من خلال اتباع الشريعة (التوراة) كسبيل إلى الحياة الروحية الصالحة.
وبشكل عام، لا توجد في اليهودية عقيدة الفداء عبر الصلب، بل تعتمد على التوبة الفردية والكفارة عبر الصلاة والعمل الصالح. الخلاص في اليهودية يأتي من خلال التوبة الفردية والمسؤولية الذاتية، ويوم الكفارة (يوم كيپور) يلعب دورًا محوريًا في هذا السياق.
في ختام هذا الموضوع، ندرك أن عقيدة الصلب والفداء ليست مجرد عقيدة دينية، بل هي تجسيد لأسئلة فلسفية وإنسانية عميقة حول معنى الغفران، والعدل، والتضحية، والمسؤولية الفردية. لقد شكلت هذه العقيدة محورًا أساسيًا في اللاهوت المسيحي، وفتحت مجالًا خصبًا للنقاش الفكري والروحي بين الأديان. بينما تقدم المسيحية الصلب والفداء كأسمى تعبير عن رحمة الله تجاه البشرية، يرى الإسلام واليهودية في هذا المفهوم ابتعادًا عن عدالة الله ورحمته، حيث يؤكدان على مسؤولية الفرد في التوبة والإصلاح، وعلى غفران الله المباشر دون الحاجة إلى وسطاء أو فداء بشري.
كما تتضح لنا الفوارق الجوهرية بين التصور الإسلامي والتصور اليهودي لعقيدة الصلب والفداء، وكيف أن كلًا منهما يقدم منظورًا مميزًا يختلف بوضوح عن الرؤية المسيحية. الإسلام يُبرز رحمة الله وعدله المطلقين، رافضًا تمامًا فكرة أن يحمل إنسان بريء ذنب الآخرين أو أن يحتاج الله لتضحية بشرية ليغفر للإنسان. وفقًا للتصور الإسلامي، يُفتح باب الغفران واسعًا من خلال التوبة الصادقة والعمل الصالح، إذ يستطيع كل إنسان أن يُعيد بناء علاقته مع الله مباشرة ودون وسيط. هذا التصور يعكس فكرة رحمة الله اللامحدودة وقدرته على المغفرة لكل من يلجأ إليه بتوبة خالصة.
أما التصور اليهودي، فيلتقي مع الإسلام في رفض فكرة الصلب والفداء، إلا أنه يعتمد نظامًا خاصًا لتحقيق التكفير، يرتكز على التوبة والأعمال الصالحة، مع اعتبار "يوم كيبور" (يوم الغفران) مناسبةً مقدسة للتكفير عن الذنوب. ويعكس هذا اليوم في اليهودية مفهومًا عميقًا حول التوبة الفردية والمسؤولية الشخصية، حيث يُطلب من كل فرد أن يتحمل تبعات أفعاله ويصلح ذاته ليقترب من الله، في تأكيد على العلاقة المباشرة معه دون حاجة إلى تضحية أو فداء بشري.
يتجلى من خلال التصورين الإسلامي واليهودي إعلاء قيم العدالة والمسؤولية الفردية؛ إذ يعبران عن إيمان راسخ بأن الغفران يمكن تحقيقه دون الحاجة إلى وسيط أو تضحية، مما يعكس رؤية روحية ترى في الله إلهًا رحيمًا وعادلًا يستجيب للتوبة والتقوى. وهكذا، يظل هذان التصوران شاهدين على إمكانية الخلاص الروحي من خلال التوبة والعمل الصالح، ويقدمان للإنسان رؤية تتسم بالبساطة والشفافية، ليظل طريق العودة إلى الله مفتوحًا ومشرقًا بالرحمة والسلام.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة التاريخ: أسئلة حول الزمن ومعنى الوجود الإنساني
-
الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة وا
...
-
الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث
...
-
فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق
...
-
الليبرالية عبر العصور: فلسفة الحرية وتحديات التطبيق
-
صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في ال
...
-
الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل
-
نحو حكم رشيد: تحديات الديمقراطية في العالم العربي
-
الخضوع الطوعي للسلطة: دراسة فلسفية في العبودية الذاتية
-
الاستشراق الجديد: قراءة نقدية في خطاب الهيمنة الثقافية
-
إحياء الذات والأمة: فلسفة محمد إقبال في التحدي والتجديد
-
السياسة بين الدين والفلسفة: قراءة معمقة في النظريات السياسية
...
-
أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم و
...
-
الصمت كوسيلة للاعتراض: دراسة في عمق السياسة العربية
-
الوعي العربي في مواجهة أزماته الوجودية: قراءة فلسفية
-
الليبرالية الأوربية على مفترق الطرق - صراع القيم ومستقبل الأ
...
-
الذكورية السياسية في الفكر الفلسفي: نقد للسلطة الجندرية وآفا
...
-
الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو
...
-
الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو
...
-
حرب المصالح : بحر الصين الجنوبي بين الطموحات الصينية والتحال
...
المزيد.....
-
إسرائيل تصدر بيانا عن مقتل 6 عسكريين في معارك بلبنان
-
محكمة الاستئناف بنواكشوط تؤجّل النظر في قضيّة -ملف العشرية
...
-
ميلانو تستضيف معرض يوشيتاكا أمانو.. من الرسوم المتحركة إلى أ
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ستة من جنوده في جنوب لبنان، وموجة
...
-
ترامب يرشح السيناتور ماركو روبيو لمنصب وزير الخارجية
-
ترامب يكشف تفاصيل لقائه مع بايدن
-
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيرة في إيلات (فيديو)
-
مقتدى الصدر يدعو إلى حرق أعلام إسرائيل وبريطانيا وأمريكا بعد
...
-
مصادر لـ-رويترز-: السعودية قلصت طموحاتها في مشروع نيوم وسترك
...
-
نوري المالكي: ترامب سيكمل ما بدأه بايدن بالحرب في فلسطين ولب
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|