|
صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في الفكر السياسي العربي
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8157 - 2024 / 11 / 10 - 08:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في خضم الصراعات والتحولات الكبرى التي شهدتها المجتمعات العربية، لم يكن الفكر السياسي بعيدًا عن ساحة التفاعل، بل كان مسرحًا رئيسيًا للأفكار والنظريات التي سعت جاهدةً للإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلق بالهوية، والشرعية، والمصير المشترك. فالفكر السياسي العربي حمل على عاتقه طموحات كبرى لتحقيق العدالة والوحدة والتنمية، وتعرض في الوقت نفسه لتحديات هائلة مع تعاقب الاستعمار، والأنظمة الاستبدادية، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة. وخلال هذا المسار المعقد، تبلورت تيارات فكرية مختلفة تعكس رؤى متنوعة للعالم العربي، حيث صيغت مفاهيم متباينة حول ماهية الأمة، وسبل الحكم، وأسس المجتمع المثالي.
بين هذه التيارات، تبرز توجهات سياسية قوية، أبرزها التوجه القومي الذي يرى أن الأمة العربية قادرة على تحقيق وحدتها واستعادة مجدها إذا ما جمعت أبناءها تحت هوية عربية موحدة، تعبر عن تاريخها المشترك وطموحاتها القومية. في المقابل، جاء التيار الإسلامي ليرى أن الهوية الإسلامية هي الأصل الذي يجب أن تستند إليه المجتمعات العربية، باعتبار أن الإسلام نظام شامل ينظم الحياة ويضع أساسات الحكم الرشيد وفق قيم الشريعة.
غير أن هذه الرؤى الطموحة لم تخلُ من التحديات والصدامات؛ حيث تعارضت رؤى القومية العربية التي ركزت على توحيد الأقطار العربية ضمن إطار قومي، مع رؤى الحركات الإسلامية التي اعتبرت الدين ركنًا أساسيًا للوحدة، متجاوزة بذلك الحدود القومية ومتطلعة إلى الوحدة الإسلامية الأكبر. ولعل هذا الصدام يكشف عن عمق الإشكالية التي تواجه الفكر السياسي العربي، حيث تتداخل الأفكار القومية، والدينية، والوطنية، في مشهد يعبر عن واقع مليء بالتحديات والتناقضات.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن فهم جذور هذا التعارض بين التيارات السياسية المختلفة ليس فقط ضرورة أكاديمية، بل هو حاجة مُلحّة لفهم الأزمات التي تواجهها المجتمعات العربية اليوم، بدءًا من أزمة الحكم، مرورًا بقضايا الشرعية والهوية، وصولًا إلى التحديات المرتبطة بالعلاقة مع الغرب، وحقوق الأقليات، ومستقبل الدولة الوطنية. لذا، فإن تحليل هذا الموضوع يتطلب النظر بعمق في الدوافع الفكرية والسياسية التي شكّلت هذا الصراع، وتقييم إمكانية التوصل إلى صيغة توافقية تستطيع أن تُخرج الفكر السياسي العربي من مأزق التنازع والتشرذم، وتؤسس لرؤية شاملة تجمع بين تطلعات الوحدة، والعدالة، والحرية، وتُعبر عن روح المجتمعات العربية المعاصرة وطموحاتها المتجددة.
أهم وأبرز النظريات السياسية في الفكر السياسي العربي
الفكر السياسي العربي يتسم بتنوع النظريات السياسية التي تبلورت عبر التاريخ، متأثرةً بالبيئة الثقافية والدينية والاجتماعية المحيطة، وتتمثل أهم النظريات السياسية في الفكر السياسي العربي في ما يلي:
نظرية الإمامة والخلافة
نشأت نظرية الإمامة والخلافة في سياق الفكر الإسلامي منذ الخلافة الراشدة، حيث تطورت حولها الكثير من المناقشات الفكرية حول الحكم وشرعيته ودور الخليفة أو الإمام في رعاية شؤون الأمة. وقد شهدت هذه النظرية تنوعاً بين المذاهب الإسلامية، حيث ركز الفكر السني على مسألة الشورى، بينما اهتم الفكر الشيعي بمفهوم الإمامة كشرط ديني مستمر.
نظرية الحاكمية الإلهية
برزت هذه النظرية بوضوح في أعمال بعض المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين مثل سيد قطب، الذي رأى أن السيادة الحقيقية لله، وأن أي تشريع أو نظام سياسي لا يعترف بهذه السيادة هو خارج عن الإسلام. أثرت هذه النظرية بشكل كبير على الحركات الإسلامية الحديثة التي تسعى لتأسيس الدولة الإسلامية.
نظرية الإصلاح والتجديد
قاد هذه النظرية مفكرون مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، الذين دعوا إلى العودة لمبادئ الإسلام الأساسية مع تطويعها بما يتناسب مع متطلبات العصر. كانت هذه النظرية تقوم على مبدأ إصلاح المجتمع الإسلامي عن طريق إصلاح الفكر الديني ومواكبة التطور الغربي في التعليم والإدارة والحكم.
نظرية الدولة المدنية والديمقراطية
تزايد تأثير هذه النظرية في القرن العشرين مع انتشار الحركات القومية والتحررية، حيث دعا بعض المفكرين العرب مثل عبد الرحمن الكواكبي وطه حسين إلى بناء دولة مدنية تفصل بين الدين والسياسة، وتتبنى مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
النظرية الاشتراكية
بعد الحرب العالمية الثانية ومع صعود الفكر الاشتراكي، تبنى بعض المفكرين والقادة العرب أفكاراً اشتراكية، مثل جمال عبد الناصر، الذي اعتمد مبادئ العدالة الاجتماعية ومساواة الفرص، وعمل على تأميم الموارد. اندمجت هذه النظرية في الفكر السياسي العربي ضمن إطار ما عُرف بـ "الاشتراكية العربية" أو "الاشتراكية الإسلامية".
نظرية القومية العربية
أسس هذه النظرية مفكرون مثل ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق، حيث دعت إلى توحيد الأمة العربية على أساس الهوية المشتركة واللغة والتاريخ، بغض النظر عن الاختلافات الدينية. وقد ألهمت هذه النظرية العديد من الحركات التحررية والوحدوية في منتصف القرن العشرين.
نظرية التحرر الوطني والمقاومة
مع الاستعمار والاستعمار الجديد في القرن العشرين، تطورت نظريات المقاومة والتحرر الوطني، حيث استند العديد من الحركات التحررية إلى فكر مقاومة الاحتلال ونيل الاستقلال السياسي والاقتصادي، مثل فكر مالك بن نبي حول "القابلية للاستعمار" والتركيز على استعادة الهوية الوطنية.
وفي العموم، تشكل هذه النظريات جزءاً من تراث الفكر السياسي العربي، وتُظهر كيف تفاعل المفكرون العرب مع التحديات السياسية والاجتماعية على مر العصور، مجتهدين لتقديم رؤى سياسية تسعى لتحقيق العدالة والتقدم الاجتماعي والاستقرار السياسي في المجتمعات العربية.
الانتقادات الموجهة إلى النظريات السياسية في الفكر السياسي العربي
النظريات السياسية في الفكر السياسي العربي لم تسلم من الانتقادات، حيث برزت عدة تحديات واجهتها هذه النظريات، بعضها يتعلق بالتماهي مع الواقع والبعض الآخر يتعلق بالمفاهيم ذاتها. وفيما يلي أهم الانتقادات الموجهة إلى هذه النظريات:
الانتقادات لنظرية الإمامة والخلافة انتُقِدت هذه النظرية بكونها غير عملية في السياق السياسي الحديث، حيث تعتمد على نموذج قديم من الحكم يتطلب مواصفات وشروطًا يصعب تحقيقها اليوم، مثل وحدة الأمة الإسلامية تحت قيادة واحدة. كما يرى البعض أن الاعتماد على هذه النظرية قد يشجع على التسلط بحجة تمثيل الدين، مما يقوض الديمقراطية ويهمش الشعب في عملية صنع القرار.
الانتقادات لنظرية الحاكمية الإلهية
تعرضت هذه النظرية لانتقادات تتعلق بنزع السيادة من الشعب وتقييد الحريات العامة بحجة تطبيق الشريعة. يشير المنتقدون إلى أن هذه النظرية قد تؤدي إلى حكم ديكتاتوري تحت غطاء ديني، كما قد تتسبب في إقصاء من لا يتفقون معها من المجال السياسي، مما يُضعف مفهوم المواطنة والدولة الجامعة.
الانتقادات لنظرية الإصلاح والتجديد
على الرغم من أن نظرية الإصلاح حملت مفاهيم إيجابية مثل العودة إلى الجذور مع مواكبة التطور، فإنها لم تنجح في تقديم آليات عملية واضحة لتطبيق هذه المبادئ. وقد فشل معظم دعاة الإصلاح في إقامة نظام متكامل قادر على الموازنة بين التراث والتحديث بشكل مستدام، كما واجهوا صعوبة في التأقلم مع التغيرات السريعة في العالم المعاصر.
الانتقادات لنظرية الدولة المدنية والديمقراطية
تُواجه نظرية الدولة المدنية انتقادات تتعلق بمدى تلاؤمها مع الثقافة السائدة في المجتمعات العربية، حيث يُرى أنها قد تؤدي إلى صراع بين الهوية الدينية والوطنية. كما أن مفهوم الدولة المدنية غالبًا ما يفتقر إلى الدعم الشعبي في كثير من الدول العربية، إذ يخشى البعض أن يكون مجرد تقليد للأنظمة الغربية دون اعتبار للخصوصيات المحلية.
الانتقادات للنظرية الاشتراكية
على الرغم من أن الفكر الاشتراكي في العالم العربي ساعد على إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية، إلا أنه تعرض لانتقادات بسبب تسببه في بعض الأحيان في تبني سياسات اقتصادية فاشلة وإضعاف الحريات الفردية. كما أن الاقتصادات المركزية التي نشأت عن الأفكار الاشتراكية لم تكن قادرة على تحقيق تنمية مستدامة، مما أدى إلى تراجع هذه النظرية مع تغير الأوضاع الاقتصادية والسياسية العالمية.
الانتقادات لنظرية القومية العربية
انتقدت القومية العربية كونها تجاهلت التنوع العرقي والديني في الدول العربية، مما جعلها تواجه معارضة من الأقليات التي شعرت بالإقصاء. كما يرى المنتقدون أن المبالغة في تبني القومية العربية قد ساهمت في انقسامات سياسية وحروب داخلية، إذ فشلت الحركة القومية في تحقيق وحدتها المأمولة.
الانتقادات لنظرية التحرر الوطني والمقاومة
بالرغم من نجاحها في تحقيق الاستقلال لكثير من الدول، فقد انتُقدت هذه النظرية بأنها ركزت بشكل مفرط على الصراع مع الخارج وأهملت بناء أنظمة سياسية مستقرة وعادلة في الداخل. بعض الحركات التحررية، بعد نيلها الاستقلال، لم تتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى إلى استمرار التوترات والصراعات الداخلية.
في المجمل، تعكس هذه الانتقادات مجموعة من التحديات التي تواجه الفكر السياسي العربي، حيث تتطلب كل نظرية مراجعة وتطويرًا ليتناسب مع التحولات الراهنة في السياسة العالمية وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات العربية.
الفكر السياسي العربي في مواجهةأزمة الحكم في العالم العربي؟
الفكر السياسي العربي يواجه أزمة الحكم في العالم العربي من خلال مجموعة من الاتجاهات والأفكار التي تحاول تقديم حلول للمشكلات المعقدة التي تعاني منها الأنظمة السياسية. وهذه الأزمة تتمحور حول مشكلات متعلقة بشرعية الحكم، ومشاركة الشعب، والتنمية، والعدالة الاجتماعية. وفيما يلي بعض الأساليب والأفكار التي تبناها الفكر السياسي العربي للتعامل مع أزمة الحكم في الواقع السياسي الراهن:
التوجه نحو الإصلاح السياسي والدستوري
يطالب كثير من المفكرين والسياسيين العرب بإصلاح الأنظمة السياسية من خلال تطوير الدساتير، وتعزيز دور المؤسسات، وضمان استقلال القضاء، وتحديد سلطات الحكام وفق القوانين. ويعتبر هذا الاتجاه أن تحقيق الاستقرار يحتاج إلى سيادة القانون وتطبيق الإصلاحات السياسية التي تضمن مشاركة أوسع في صنع القرار وتحقق العدالة الاجتماعية.
العودة إلى مفهوم الديمقراطية التشاركية يدعو بعض المفكرين العرب إلى تطبيق الديمقراطية التشاركية، حيث يتم إشراك المواطنين بفعالية في صنع السياسات من خلال المجالس المحلية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. هذا النموذج يهدف إلى تعزيز الثقة بين السلطة والشعب ويعتبر أن تحقيق المشاركة الشعبية الفعالة من شأنه أن يقلل من الفجوة بين السلطة والمواطنين، ويحد من التوترات السياسية.
التوفيق بين التراث والحداثة يسعى بعض المفكرين إلى إيجاد صيغة توفق بين التراث العربي الإسلامي وقيم الحداثة السياسية، حيث يُرى أن القيم الإسلامية، مثل الشورى والعدالة والمساواة، يمكن أن تشكل أساسًا متينًا لنظام حكم مستقر. هذه الفكرة تعتمد على مراجعة الأفكار الدينية وإعادة تفسيرها لتكون متوافقة مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
التأكيد على الحكم الرشيد ومحاربة الفساد يعتقد المفكرون في هذا الاتجاه أن أزمة الحكم في العالم العربي مرتبطة بالفساد المستشري وسوء الإدارة، ويدعون إلى تعزيز مفاهيم الحكم الرشيد، كالشفافية والمساءلة، والعمل على مكافحة الفساد الذي يُعتبر معيقًا رئيسيًا للتنمية ويؤدي إلى تآكل الثقة في الدولة. ويرون أن الحكم الرشيد يتطلب إرادة سياسية قوية لتحقيق إصلاحات شاملة.
تبني مشروع النهضة والتنمية المستدامة بعض المفكرين يعتبرون أن تجاوز أزمة الحكم يتطلب التركيز على تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة، حيث تضمن الحكومات مستويات معيشة كريمة للمواطنين. يرى هؤلاء المفكرون أن النهوض بالاقتصاد، والتعليم، وتوفير فرص العمل، وتقليص الفوارق الاجتماعية يمكن أن يعزز من شرعية الدولة ويحقق الاستقرار على المدى الطويل.
إعادة النظر في مفهوم الدولة الوطنية بسبب التحديات التي تواجه الدولة الوطنية في العالم العربي، يدعو بعض المفكرين إلى مراجعة هذا النموذج وتطويره ليشمل مفهوم "الدولة الجامعة" التي تضمن احترام الهويات المتعددة وتتيح للجماعات المختلفة حقوقها. هذا النهج يهدف إلى الحد من التوترات الطائفية والعرقية التي تضعف من بنية الدولة، ويشجع على خلق هوية وطنية جامعة تعزز الاستقرار السياسي.
التأكيد على حقوق الإنسان والحريات العامة يعتبر هذا الاتجاه أن أزمة الحكم مرتبطة بانتهاك حقوق الإنسان وعدم احترام الحريات الأساسية. ويطالب بتطبيق مبادئ حقوق الإنسان، بما في ذلك حرية التعبير وحق التظاهر السلمي وحرية الصحافة، باعتبارها عناصر أساسية لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.
دور القوى الخارجية وعلاقتها بالسيادة الوطنية يشير بعض المفكرين إلى أن التداخل الخارجي في الشؤون العربية يلعب دورًا كبيرًا في إضعاف الحكم، حيث تتدخل القوى الأجنبية بطرق مباشرة وغير مباشرة في السياسة الداخلية للعديد من الدول العربية. ويتطلب تجاوز هذه الأزمة تعزيز السيادة الوطنية والعمل على بناء تحالفات قوية تضمن استقلالية القرار السياسي.
بشكل عام، يحاول الفكر السياسي العربي التعامل مع أزمة الحكم من خلال الدعوة إلى إصلاحات عميقة تشمل جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وتظل هذه الأفكار والطروحات تواجه تحديات كبيرة في التطبيق الفعلي، خاصةً في ظل الأنظمة غير الديمقراطية أو التي تواجه مقاومة للتغيير.
التعارض بين التوجهات السياسية القومية والوطنية والتوجه السياسي الإسلامي
نعم، توجد نقاط تعارض بين التوجهات السياسية القومية والوطنية من جهة، والتوجه السياسي الإسلامي من جهة أخرى. يرجع ذلك إلى اختلاف في الرؤى والأولويات فيما يتعلق بالهوية، ومنهج الحكم، ووحدة الأمة، ومصدر الشرعية السياسية. وفيما يلي أبرز نقاط التعارض، مع بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
1. مفهوم الهوية
التوجه القومي: يرى أن الهوية العربية المشتركة تتأسس على اللغة، والتاريخ، والثقافة المشتركة، بغض النظر عن الانتماءات الدينية. يسعى إلى توحيد الشعوب العربية تحت إطار قومي عابر للحدود الحالية للدول العربية، ويركز على الهوية القومية العربية كإطار موحد.
التوجه الإسلامي: يؤكد على أن الهوية الإسلامية هي الأساس، ويرى أن المسلمين - بغض النظر عن أعراقهم أو لغاتهم - يجب أن يتوحدوا تحت راية الإسلام.
مثال: في فترة الخمسينات والستينات، ساد التوجه القومي الذي رفعته الدول الناصرية والبعثية، والذي دعا إلى توحيد الدول العربية على أساس قومي. في المقابل، رفضت الجماعات الإسلامية هذه الفكرة، معتبرة أن الأولوية هي للوحدة الإسلامية وليس القومية.
2. مصدر الشرعية
التوجه القومي والوطني: يُقيم الشرعية السياسية على أساس الوطنية أو القومية، ويعتبر أن الحكم الشرعي هو الذي يعبر عن إرادة الشعب أو الأمة العربية ويحقق مصالحها القومية.
التوجه الإسلامي: يرى أن الشرعية مستمدة من الشريعة الإسلامية، وأن أي نظام سياسي يجب أن يكون قائمًا على أحكام الإسلام. يُعتبر أي نظام لا يلتزم بالشريعة الإسلامية غير شرعي، بغض النظر عن أصوله القومية أو الوطنية.
مثال: كان هناك صراع في بعض الدول العربية، مثل سوريا والعراق، بين القوميين العرب وجماعات الإسلام السياسي حول من يملك الشرعية في الحكم. اعتبرت الأنظمة القومية أن شرعيتها تأتي من التمثيل الشعبي القومي، بينما أصرت الجماعات الإسلامية على ضرورة الالتزام بالشريعة كشرط للشرعية.
3. أولوية الوحدة
التوجه القومي: يسعى لتحقيق الوحدة بين الدول العربية على أساس القومية، ويسعى إلى إنشاء "الوطن العربي الكبير" باعتباره الغاية الأساسية.
التوجه الإسلامي: يطمح إلى وحدة الأمة الإسلامية، وتجاوز الحدود القومية لتحقيق دولة إسلامية موحدة. يرى الإسلاميون أن هذه الوحدة يجب أن تتجاوز الانتماءات العرقية والقومية.
مثال: في مشروع الوحدة بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة 1958-1961)، واجه القوميون تحديات داخلية من الجماعات الإسلامية التي اعتبرت هذه الوحدة تفتقد للجانب الإسلامي، ودعت إلى مشروع بديل يقوم على دولة إسلامية موحدة.
4. موقفهم من مفهوم الدولة المدنية
التوجه الوطني والقومي: يميل إلى تأييد الدولة المدنية التي تفصل الدين عن السياسة، مما يسمح بوجود تنوع ديني وقومي داخل الدولة.
التوجه الإسلامي: يرفض في الغالب فكرة الدولة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة، حيث يؤمن أن الدين الإسلامي هو نظام شامل للحياة، ويجب أن يكون الحكم جزءًا من التزاماته.
مثال: في تونس، أثارت حركة النهضة الإسلامية جدلاً حول موقفها من الدولة المدنية، حيث تعارضت رؤيتها مع توجهات الأحزاب ذات التوجه القومي أو اليساري التي دعت إلى الفصل بين الدين والسياسة.
5. قضية حقوق الأقليات
التوجه القومي والوطني: غالباً ما يؤكد على الهوية القومية، مما قد يؤدي في بعض الحالات إلى تهميش الأقليات غير العربية داخل الدول العربية، باعتبارها أقل اندماجاً في الهوية القومية.
التوجه الإسلامي: يحدد تعامل الأقليات حسب الشريعة الإسلامية، فيعتبر أن غير المسلمين (أهل الذمة) لهم حقوق وواجبات تختلف عن المسلمين.
مثال: كان هناك توتر في دول مثل العراق وسوريا بين الحكومات القومية والأقليات الكردية التي شعرت بالتهميش. في المقابل، تعارض بعض الأقليات الدينية غير المسلمة مشاريع الحركات الإسلامية التي قد تتعارض مع هويتهم الدينية.
6. التفاعل مع الغرب
التوجه القومي والوطني: يتباين موقفه تجاه الغرب، فبعض التيارات القومية تتعاون مع الغرب إذا كان ذلك يخدم المصالح القومية، بينما تيارات أخرى تتبنى خطابًا معاديًا للغرب بسبب الاستعمار.
التوجه الإسلامي: غالبًا ما يتخذ موقفًا معاديًا للغرب بناءً على رؤية تتعلق بالصدام الحضاري، ويعتبر أن الحضارة الغربية تمثل تهديدًا للهوية الإسلامية وقيمها.
مثال: في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تبنى النظام المصري سياسة تحالف مع الاتحاد السوفيتي المعادي للغرب. وفي المقابل، رفضت جماعة الإخوان المسلمين هذه العلاقة بسبب موقفها المناهض لسياسات الكتل الغربية والشرقية غير الإسلامية.
وبصفة عامة، فإن التعارض بين التوجهات السياسية القومية والوطنية والتوجه الإسلامي يكمن في الأسس الفكرية والمفاهيمية لكل منهما. ومع ذلك، ظهرت بعض المحاولات لتقريب وجهات النظر، وتقديم مشاريع وسطية تجمع بين عناصر الهوية القومية والإسلامية، لكن التطبيق الفعلي لهذه المشاريع واجه صعوبات بسبب الخلافات الأيديولوجية والواقع السياسي المعقد في الدول العربية.
ختامًا، يبدو أن الصراع بين التوجهات السياسية القومية والوطنية من جهة، والتوجه السياسي الإسلامي من جهة أخرى، يعكس عمق الأزمة الفكرية والسياسية التي يعيشها العالم العربي منذ عقود. إن هذا التعارض ليس مجرد خلاف نظري، بل هو تجسيد لتباين عميق في الرؤى حول مفاهيم الهوية، والشرعية، والوحدة، وأسس الدولة العادلة. فبين من يؤمن بأن الهوية القومية هي الملاذ الأخير لإنقاذ الأمة العربية من التشرذم، وبين من يرى أن العودة إلى الإسلام كنظام شامل للحكم هي الطريق الوحيد للنهضة، تبقى المجتمعات العربية عالقة بين هذين المنظورين، تبحث عن صيغة توافقية تعكس احتياجاتها وتستجيب لتحدياتها المتجددة.
لقد أظهر التاريخ أن محاولة فرض رؤية واحدة قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات بدلًا من التوحيد، وأن البحث عن حل شامل قد يكون في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، بين الانتماء القومي والالتزام بالدين، بما يتيح إنشاء نظام سياسي قادر على استيعاب التنوع وإقامة دولة تضمن حقوق الجميع. فالمستقبل العربي يتطلب تجاوز الصراعات الأيديولوجية الضيقة، والانفتاح على مسار فكري وسياسي جديد يسعى إلى دمج تطلعات الشعوب في منظومة تتبنى مبادئ العدالة، والحرية، والكرامة الإنسانية.
إن بناء رؤية سياسية عربية جامعة ليس بالمهمة السهلة، لكنه تحدٍ يستحق المواجهة، إذ يتطلب الفكر السياسي العربي الراهن أكثر من أي وقت مضى مراجعة عميقة وتطويرًا مستمرًا يستوعب التغيرات العالمية والمحلية، ويستجيب لتطلعات الأجيال الصاعدة. فالمجتمعات العربية اليوم ليست بحاجة إلى مزيد من الانقسام والتنافس، بل إلى مشروع حضاري جديد يجمع بين القيم الأخلاقية والإنسانية، ويضع أسسًا لنظام سياسي عادل ومستدام قادر على النهوض بهذه الأمة نحو مستقبل أفضل.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل
-
نحو حكم رشيد: تحديات الديمقراطية في العالم العربي
-
الخضوع الطوعي للسلطة: دراسة فلسفية في العبودية الذاتية
-
الاستشراق الجديد: قراءة نقدية في خطاب الهيمنة الثقافية
-
إحياء الذات والأمة: فلسفة محمد إقبال في التحدي والتجديد
-
السياسة بين الدين والفلسفة: قراءة معمقة في النظريات السياسية
...
-
أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم و
...
-
الصمت كوسيلة للاعتراض: دراسة في عمق السياسة العربية
-
الوعي العربي في مواجهة أزماته الوجودية: قراءة فلسفية
-
الليبرالية الأوربية على مفترق الطرق - صراع القيم ومستقبل الأ
...
-
الذكورية السياسية في الفكر الفلسفي: نقد للسلطة الجندرية وآفا
...
-
الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو
...
-
الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو
...
-
حرب المصالح : بحر الصين الجنوبي بين الطموحات الصينية والتحال
...
-
اتفاقية عنتيبي وجدلية الصراع بين دول المنبع والمصب ... المسا
...
-
الصوابية السياسية من منظور فلسفي – جدلية الحرية والأخلاق في
...
-
تحديات إدارة الأزمات في المؤسسات الحكومية: نحو استجابة فعّال
...
-
القوة والإرادة: جدلية العقل والإيمان بين الفلسفة الأوروبية و
...
-
صراع القيم وتحرير الإنسان: قراءة في العلاقة الفلسفية بين مار
...
-
من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الأخلاقي: مسار التغيير في
...
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|