شكران خضر
الحوار المتمدن-العدد: 8155 - 2024 / 11 / 8 - 00:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تؤكد البحوث والدراسات على أن الأنسان بطبيعته البشرية يتجنب الخسارة أكثر من المجازفة في تحقيق الربح ، لأن وقع الخسارة على الأنسان أشدّ وطأة من عدم تحقيق المكاسب . فالخسارة تعني فقدان شيء يمتلكه الأنسان فعلاً ، بينما عدم الربح يعني التخلّي عن شيء نظري يمكن أن لا يتحقق في الواقع .لهذا نجد رسوخ القناعة في المجتمع على المبدأ القائل ( عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة ) ، وهذا يعني أن خسارة هذا العصفور الوحيد أشدّ وطأة على التخلّي عن عشرة عصافير على الشجرة ، لأن الحصول على العصافير الموجودة على الشجرة ، شيء إفتراضي .
وقد تختلف معادلات الربح والخسارة ومفاهيمها في عالم السياسة عما هي عليها في عالم الأقتصاد والتجارة ، فهناك الكسب الآني ، والخسارة المستقبلية أو العكس منهما ، وهذا ما ليس بأستطاعة أحد من سبر غورها أو الخوض في غمارها إلا أصحاب النظرة الثاقبة والذين يمتلكون القدرة على التحليل والأستشعار والتنبؤ . لهذا يجمع الكثيرون على أن السياسة هي مزيج من العلم والفن ، لا يمكن أن يتصدى لها إلا ممن يمتلكون الموهبة والقابلية في آن واحد ، من أجل الوصول إلى تحقيق الأفضل من المتيسر والموجود .
لكن … عندما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، وبشكل مستمر منذ أكثر من (20) عاماً ، فهذا يعني إما أن القبطان غير قادر على قيادة السفينة ، ولم يتمكن من تطوير ذاته طيلة هذه الفترة للتأقلم مع ظروف الأبحار القاسية ، أو أن السفينة متهالكة ، وغير قادرة على الأبحار ، وبحاجة الى ترميم كامل .
والمصيبة أن الأنتكاسات المستمرة والخسائر المتكررة لم تشكل رادعاً عن التوقف في الأستمرار في إستخدام نفس الأدوات والأجراءات . فتوالت الخسائر في شتى المجالات إبتداءاً من المناصب الرفيعة ذات الدرجات الخاصة في بغداد ، وإمتداداً الى المواقع المهمة في المحافظات . وشملت الخسائر كافة المواقع المهمة في مفاصل الدولة من الوزارات السيادية والهيئات العامة والمواقع الأمنية والدبلوماسية وإنتهاءاً بالمناصب العادية في المواقع الخدمية على مستوى المحافظة . فتحول حلم التركمان من نيل منصب (نائب رئيس الجمهورية) إلى أمنية الحصول على منصب (نائب محافظ كركوك) . وهذه نتيجة حتمية لنتائج المعادلة السياسية في العراق المستندة إلى المحاصصة بموجب التوافقات ، فكل كتلة سياسية تحصل على قضمة من جسد الدولة بموجب حجم فكّها وحدّة أسنانها ، و(حجم الفكّ) هو كناية عن حجم الكتلة ، و(حدّة الأسنان) هي كناية عن قوة قاعدتها الجماهيرية .
وقد لجأت أغلبية الكتل السياسية إلى تنظيم هياكلها الحزبية من أجل تقوية قاعدتها الجماهيرية عند خوضها سباق الأنتخابات ، وأثبتت من خلال حجم جماهيرها قوتها في الحصول على مواقع في الدولة من خلال إستحقاقاتها الأنتخابية ، عدا الكتلة الصدرية التي كانت وما زالت تشكل رقماً صعباً في المعادلة السياسية العراقية . وقد راهنت على قوة جماهيرها أكثر من رهانها على ما تحصل عليها من مكاسب نتيجة التوافقات ، فقد كانت تلجأ دوماً الى قاعدتها الجماهيرية في حال شعورها بأن نتائج الحوار مع الحلفاء تنحرف بعيداً عن رغباتها . وكانت الأعتصامات المتكررة ، والمظاهرات المليونية تشكل المفتاح السحري لفك أية إختناقات في عملية التوافقات السياسية . ولم تقتصر العملية على الأعتصامات في الشوارع والساحات بل وصلت إلى مركز القرار للعملية السياسية (البرلمان العراقي) .
وفي الوقت الذي إستشعرت فيه الكتلة الصدرية عدم صفاء نية الحلفاء في إدارة العملية السياسية ، بادرت بالأنسحاب وقاطعتها بالرغم من سطوتها على البرلمان وبموجب استحقاقها الانتخابي ، وريادتها في ادارة التوافقات ما بين المشاركين في العملية السياسية . وقد أثبتت قوتها وقدرتها في العملية السياسية بشكل أكثر إستناداً إلى قوة جماهيرها التي لديها القدرة على تغيير المعادلة متى ما يشاؤون ، بل أستطيع القول أن الكتلة الصدرية قد أثبتت قوتها وبشكل أكثر من خلال مقاطعتها للعملية السياسية ، وليس من خلال إستحواذها على حصة الأسد من الأمتيازات والمكاسب بموجب الأستحقاق الأنتخابي أو التوافقات السياسية .
وقد كان بأمكان التركمان أن يلعبوا دوراً مهماً وفعالاً في العملية السياسية إستناداً الى النسبة السكانية التي يتمتعون بها ، والمواقع الجغرافية التي يحتلونها في المدن والمحافظات العراقية . لكن إدارة الجماهير ليس بالأمر اليسير ، لاسيما في الظروف التي تمتاز بها العراق .
وقد أثبتت الجماهير التركمانية وعلى مر جميع مراحل العملية السياسية ، إلتزامها بواجباتها تجاه قادتها السياسيين وعدم التفريط بهم ، بالرغم من الأنتكاسات التي كانوا يتعرضون لها في كل عملية إنتخابية ، بصرف النظر عن أسباب تلك الأنتكاسات ، سواءاً كانت نتيجة إجحاف الشركاء في العملية السياسية أو فشل القادة السياسيين التركمان في الوصول إلى نتائج مجزية عند إدارة التوافقات . وقد تأكد للجميع وبشكل قطعي ، عدم صحة المثل القائل ( أن تصل متأخراً خيرٌ من أن لا تصل أبداً ) لا سيما إن كان الموضوع يخص توزيع الحقوق والأمتيازات ما بين شركاء الوطن ، لأن الوصول بشكل متأخر الى المائدة يعطي الشرعية للأجحاف المتحقق عند التوزيع وتحت تسمية التوافق .
وقد آن الأوان أن نتوقف عن الأستمرار في سلوك نفس النهج بعد هذه الأنتكاسات المتكررة ، فما زال الوقت مبكراً للأستدارة من هذه النقطة ، بعد الأخذ بنظر الأعتبار جميع الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه النتائج ، والتي يمكن أن نوجزها وكما يلي :-
1. معظم السياسيين الذين قدموا أنفسهم كـ(سياسيين تركمان أو قادة أحزاب) بعد عام 2003 ، قدموا للأحزاب التي كانوا ينتمون إليها ، أكثر مما قدموا للتركمان ، وخدموا مصالحهم الحزبية والشخصية أكثر مما خدموا القضية التركمانية .
2. شحة الخبرة والأفتقار إلى التجارب ، وسيطرة روح الأنانية والأهتمام بالمصالح الشخصية لدى معظم السياسيين التركمان ، عرضت مسيرة السياسة التركمانية الى العديد من الأنتكاسات .
3. عدم وجود مرجعية واضحة للأحزاب التركمانية ، تخطط بشكل دقيق ، وتمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة وتصوب المسار في حالة الأنحراف ، وهذا ما أوقع السياسيين في شتات دائم ، وجعلهم يتعرضون بسهولة الى الأختراقات بشكل متكرر .
4. التشتت في الأهداف ، والأنقسامات في الرؤى ، وإزدواجية المواقف ، أدت إلى تفتت الأحزاب ، وإنقسام القاعدة الجماهيرية ، وخلق توجهات طائفية ، أضرت حتى بالنسيج الأجتماعي التركماني .
5. ضمن منهجية العديد من الأحزاب السياسية الكبيرة في العراق من أجل توسيع قاعدتها الأنتخابية ، فأنها لجأت إلى سلوك أحد المسارين ، الأول من خلال إستمرارها في إصدار أحزاب وحركات تتخفى تحت شعارات قومية أو دينية او طائفية ، لكنها في الحقيقة عبارة عن إمتدادات للأحزاب الأم وتخدم مصالحها حصراً ، ولا تخدم القضية التركمانية . والمسار الثاني ، تسخير بعض الشخصيات التركمانية بعد تقديم الدعم لهم من أجل إستقطاب الجماهير التركمانية لصالح توسيع قاعدتها الجماهيرية . وقد أضر المسار الثاني بشكل مباشر على القضية التركمانية ، وساهم بشكل فعال على شقّ صفوف الجماهير التركمانية وإضعاف موقعهم السياسي ، من خلال الأنتكاسات التي حدثت في كل عملية إنتخابية ، بعد عام 2005 .
6. الولاءات الحزبية والشخصية السائدة داخل معظم التنظيمات الحزبية ، والممارسات الدكتاتورية المتبعة ، وعدم مراجعة الذات ، ورفض الأنتقادات ، وعدم الأعتراف بالأخطاء ، قادت وستقود الى المزيد من الأنتكاسات مستقبلاً .
7. إفتقار جميع الأحزاب السياسية الى العمل المؤسساتي والمهني ، بالرغم من وجود هياكل مؤسساتية ضمن تنظيماتها ، وبالرغم من إعتمادها على منظمات ومراكز ورابطات وجمعيات ومؤسسات اعلامية تضم في صفوفها النخبة من المثقفين والكفاءات ، لكن معظم هذه التنظيمات لا يتم تشكيلها إلا من خلال التعيينات وحسب المحسوبية والولاءات ، ولا يتم توظيف جهود ونتاج هذه النخبة لصالح القضية التركمانية .
8. في ظل سياسة إزاحة الكفاءات ، ومحاربة المخلصين ، وصمت المثقفين ، وتجاهل النشطاء و منظمات المجتمع المدني ، لن تشهد الساحة السياسية التركمانية غير العجز والخيبة والخذلان .
9. عجز جميع الحركات والأحزاب السياسية من إيصال القضية التركمانية (قضية مصادرة الوطن ومحو الثقافة والتطهير العرقي) التي فرضت عليها منذ عقود وبأبعادها الحقيقية إلى الشركاء الجدد في العملية السياسية ، ناهيك عن فشلها في إيصال الصوت التركماني إلى المحيط الأقليمي والعالمي ، وإختزال القضية في المحاصصة بالمناصب .
10. جميع هذه الممارسات الخاطئة والسياسات الفاشلة ستساهم في تقويض القاعدة الجماهيرية لتلك الأحزاب ، وهذه ما ستقود حتماً إلى ضمور هياكل التنظيمات الحزبية وإنحلالها مستقبلاً ، وفي ظل الأنتكاسات المتكررة ، والتراجع المستمر في أداء الأحزاب والهزائم المتحققة ، فأن القضية التركمانية في طريقها الى الذوبان .
وبناءاً على ما تقدم ، وبموجب هذه الحقائق ، لا بد لنا من التوجه بمجموعة من التوصيات الى القائمين على إدارة العملية السياسية ….
لا تراهنوا على صمت الجماهير ، فصمتهم لا يعني رضوخهم وقبولهم بالأمر الواقع ، وقد ينفذ صبرهم يوماً بعد إهتزاز الثقة ، ويبادروا إلى فرض العقاب ومن خلال نفس تلك الصناديق التي كنتم تستمدون منها القوة . فحافظوا على تلك الثقة التي أستغرق بناؤها سنين طوال ولا تفرطوا بها . فقوة الجماهير هي السلاح الأقوى لنيل الحقوق ، وليست الأستنكارات وبيانات الشجب والأعتراض . وراهنوا على قوة الشارع أكثر من رهانكم على دهاءكم السياسي . لأن مكانتكم وأنتم في قلوب جماهيركم أرفع منزلةً عن مكانكم في كرسي إدارة الدولة والبرلمان ، وختاماً نقول … ( الرجوع من منتصف طريق الخسارة …. هو تحقيق الربح بعينه ) .
______
#شكران_خضر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟