أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - توفيق أبو شومر - جنازتان لم أحضرهما!















المزيد.....

جنازتان لم أحضرهما!


توفيق أبو شومر

الحوار المتمدن-العدد: 8153 - 2024 / 11 / 6 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


الجنازة الأولى
كان طريقي الوحيد من مكان نزوحي إلى مكان نزوحي الثاني يمر عبر مقبرة واسعة ممتلئة بالقبور، كنت أسير وسطها في طريق رسمته أرجلُ المشاة بين القبور، كانت جماهير المشيعين تتكوم حول القبور في انتظار إتمام طقوس الدفن، انقطعت كل الاتصالات منذ أربعة أيام، لم نعد نعرف أسماء الشهداء، والأهم لم نعد نعرف حال بقية أهلنا المشتتين في أماكن النزوح، هل هم من المصابين والشهداء، أم هم من الناجين؟ لذلك لابد أن نذهب لرؤيتهم يوميا لنطمئن عليهم. كانت أكواُمُ المشيعين في صباح هذا اليوم تتحلق حول ثلاثة قبور في المقبرة التي امتلأت منذ مدة طويلة، كل الذين يدفنون في ساعات الصباح الأولى استشهدوا يوم أمس فقط، غارات القتل والدمار مساء الليلة الفائتة كانت عديدة لدرجة أن عدد الذين استشهدوا في هذا اليوم وفق تقدير الإذاعات المسموعة بلغ سبع عشرة ضحية جرى انتشالها في ساعات الصباح الأولى، وهناك مفقودون من الأطفال والنساء ما يزالون تحت الركام.
محظوظون هم الذين لهم أهل أو أقارب كي يتولوا دفنهم!
عندما زرتُ مستشفى الأقصى قبل يومين رأيتُ خيمة واسعة داخل ساحة المستشفى مملوءة بجثث الشهداء لأن ثلاجة الموتى تكتظ بأجساد كثيرين ممن لم تعرف أسماؤهم، أو ممن استشهد كل أفراد عائلاتهم ولم يبق لهم مَن يتعرفون عليهم وينقلونهم للمقبرة المكتظة بالجثث إما محمولين على الأكتاف أو على عربات الأحصنة والحمير، ومن ثم يحفرون لهم القبور، محظوظون مّن يظفرون بقبرً في المكان المكتظ بجثث الشهداء!
ما أكثر الذين لا يجدون لهم قريبا أو صديقا يكمل مهمة الدفن، هناك عائلات بكاملها قد استشهدت، ولم يبق لهم أحد يشيعهم إلى مثواهم الأخير، بقيت جثثهم في المستشفى، لا تستوعبهم ثلاجة الموتى الصغيرة، لذلك فقد حفر مسؤولو المستشفى مقبرة داخل أسواره ليتمكنوا من أن يواروا كل الذين ليس لهم من يتولى دفنهم.
سمعت وأنا أسير داخل سور المقبرة جدالا بين أحد المشيعين ومسؤول الدفن، لأن المسؤول يرفض إغلاق قبر أبيه الشهيد بالتراب، قال له: "لن أُغلق القبر قبل أن يدفن معه شهيدان، كل ثلاثة شهداء في قبر واحد" لذلك أبقوا القبور مفتوحة، بغطاء شفيف من الزنك القديم المهترئ.
طأطأت رأسي وأنا أسير بين القبور، أسرعت الخطى، حتى لا يراني أحد معارفي ممن يتولون دفن موتاهم، لأنني سأضطر إلى أن ألتزم بإتمام الطقس كاملا، وبالتالي سوف أتأخر عن الوصول إلى مكان نزوحي الثاني!
سمعتُ المؤبن يأمر المعزين الواقفين عند أحد القبور بالجلوس عقب إنهاء عملية الدفن، ويقول: إنهم عائلة بريئة اختارهم المولى إلى جواره، هم خمسة شهداء من عائلة واحدة، عاشوا كرماء عفيفين محبوبين من الجيران والأقارب، هم اليوم شهداء، اللهمّ افسح لهم في قبورهم مكانا في الرضوان، اللهمّ أعذهم من عذاب القبر، وجفاف ِالأرض، اللهمّ املأ قبورهم بالهناء والوفاء، والغبطة، والسّرور.
هكذا استعمل المؤبن صوته الجهوري وبراعته في اللغة ليطفئ نار الفقد عند ذويهم ومعارفهم المتحلقين حول القبر.
سرتُ باحثا عن وسيلة نقل توصلني إلى مكان نزوحي الثاني، لأن بقية أهلي يسكنون في خيمة بعيدة عن مكان نزوح زوجتي، حاولت أن أجد وسيلة نقل للمكان، لكنني فشلت حتى في إيجاد عربة كارو، اضطررت أن أسير المسافة كلها على قدميَّ وصلت خيمة لجوئي كنتُ منهكا جائعا، لمحت حالة من الوجوم على وجوه أقاربي في الخيمة، قالوا منذ وقت قصير عرفنا بأن عائلة ابنة أختك، هي وزوجها وثلاثة من أبنائها قد استشهدوا ليلة أمس ودمر منزلهم بالكامل، وقد جرى دفنهم سريعا، لقد علمنا بالخبر قبل قليل فقط!
فقدتُ توازني بسرعة، انهار جسدي على حصيرة الخيمة، خشيت أن أقول لهم إنني كنت بجوار قبورهم، وكان المؤبن يؤبن عائلة ابنة أختي، وأنا لا أعلم من هم الشهداء!
الجنازة الثانية
كانت تنعم في بيتٍ مكون من ثلاثة طوابق، فيلا فارهة، كان شارعها هادئا نظيفا جميلا، ظلتْ وهي فتاة جميلة تسعى للحصول على الثروة والمال لتجعل أبناءها سعداء منعمين، ولما طار أبناؤها من حُضنها أحست بالكآبة والخوف من الموت، لذلك ظلت تحاول الحصول على نبتة الخلود، نبتة البطل الأسطوري جلجامش، كانت ترى أنها أكملت دورها في الحياة، كانت تحاول أن تجعل من بيتها مزرعة وبيتا جميلا، زرعت سطح البيت بالأشجار والورود، وأنبتت في ساحة البيت الخارجية أشجار الليمون والبرتقال، كانت تجمع في ثنايا غرفة نومها، سريرا وثيرا تفخر بامتلاكه من خشب الزان الفاخر.
اعتادتْ أن ترى علامات الإعجاب بفيلتها الجميلة على وجوه زائريها، كانت تتعمد أن تحضر لهم بعض ثمار حديقتها ليتذوقوا حلاوة البلح والعنب والتين، اعتادت أن تشرح لهم كيفية الحصول على أنواع تينٍ منوعة من شجرة واحدة، وكيف أن في كل فرعٍ من فروع شجرة التين نوعا مختلفا، تين أسود، وآخر حماضي، وثالث تركي، ورابع بحري!
ظلت تفتخر بابنها الذي هاجر إلى أمريكا وتزوج هناك وأنجب ابنته، وكانت تطلبه بالهاتف عند أول زائر من الزوار لتُسمع زائريها صوته، وأنه ما يزال يحبها!
هي أيضا تحتفظ في غرفة الجلوس بما يذكرها بمسقط رأس والدها، تحتفظ بثوب أمها المطرز بألوان الورود، وتحتفظ بصورة والدها وهو يحتضنها طفلة صغيرة ضمن أفراد الأسرة!
كانت تشعر بأقصى درجات السعادة وهي تحتفل بزواج ابنتها لأحد الأقارب،
قررت مُكرهة أن تواصل رحلة البحث عن عشبة الخلود، ولكنها فجأة أضحت في غمضة عين نازحة في خيمة إيواءٍ في أقصى جنوب غزة، تسكن خيمة ليس فيها أبسط مقومات الحياة، خيمة لا تقيها من البرد، بعد أن كان في بيتها ثلاثة أنواع من التدفئة المكيف الكهربي، ومكيفات الكيروسين، بالإضافة إلى مدفئة الحطب!
ظلتْ شهرا كاملا تحلم بأن تعود إلى مسكنها الجميل، كانت تبتسم لكل خبر يشي بقرب الوصول إلى اتفاق يسمح لها أن تعود إلى سرير نومها، وإلى أشجارها، ظلت تبكي كلما سمعت المحيطين بها يرددون لا أمل في العودة، كانت تبكي بصوت عالٍ عندما تقصف طائرات الاحتلال أي منزل في جباليا!
قالت ابنتها: غفت على وقع قصف المدافع والطائرات غفوة سريعة لكنها استيقظت على صوت المذيع في هاتفها الخاص، وكان آخر خبر سمعته في الإذاعة: "دمر المحتلون مربع بيتها السكني بأحزمة نارية" لم نعد نسمع حركتها الدائمة، ظننا أنها غفت غفوة طويلة بعد أن عانت في مساء اليوم الفائت من تعب وإرهاق، رفضت أن تشرب منقوع حبات العدس الصفراء، وكسرة من الخبز المغموس في شوربة العدس.
كنت قريبا جدا من مكان جنازتها، كانت المسافة فقط أقل من عشرة كيلومترات، غير أن المسافات في وطني لا تقاس بالمقاييس الجغرافية المعتادة، بل تقاس بعدد الدبابات وعدد القنابل التي تقصف الأبنية والبيوت والسيارات وعدد الشهداء في هذا اليوم،
كنا نعلم أنها تعاني من أمراض النزوح كما نعاني، غير أنها كانت هي الأسوأ، بخاصة في شهر يناير وفبراير 2024م حيث موجة البرد الشديدة في الخيام.
لم تكن الاتصالات متاحة في ذلك اليوم، خبر وفاتها وصلنا بعد دفنها بعدة ساعات عانت من النزوح والبرد، لم تحتمل فراق فيلاتها الفاخرة وفراشها الوثير فاكتأبت، ولم تعد قادرة على الحديث.
كانت هذه الجنازة هي أيضا جنازة أختي التي لم أتمكن من المشاركة فيها!



#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا تحولوا إعلام الكوارث إلى إعلام تسلية!
- كاوبوي البورصات، وأبطال الصناعات!
- مولودة في خيام النازحين!
- هل خسائرنا تكتيكات؟!
- الاغتيالات في إسرائيل!
- دفنوها في حضن قبر أبيها!
- مصادر قوة نتنياهو السرية!
- القبض على مياه المطر!
- استطلاعات الرأي سلاح خطير!
- اصطياد الإنترنت على شواطئ غزة!
- هل أزالت حرب إبادة غزة (ديموقراطية) إسرائيل؟
- قصة أفلاطون في خيمة اللجوء!
- إسرائيل أو أمريكا أيهما القائد؟!
- Baby Sitter من الإيباك لكل عضو كونغرس أمريكي!
- قصة فرن الطين وسط خيام النازحين
- إعلام التضخيم والتقزيم!
- الترنسفير القسري والطوعي!
- احذروا الاحتراب بين العائلات في غزة!
- قصة من غزة ..عبوات غذائية متفجرة!
- لوحات (غرونيكا) في غزة!


المزيد.....




- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...
- 3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV ...
- -مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - توفيق أبو شومر - جنازتان لم أحضرهما!