|
هواجس عامة 340
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8153 - 2024 / 11 / 6 - 09:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما تدخل في صراع ما، مع طرف ما، عليك أن تكون جاهزًا، أن تعتمد على نفسك. أما أن تشعلها ثم تنتظر من الآخرين أن يطفئوا النار فهذه مشكلتك. أنت تعرف إسرائيل وقدراتها، وتعرف قدرتك، خضها لكن عليك أن تتحمل المسؤولية وحدك. لننظر إلى طول الوطن العربي وعرضه، مفكرين وكتاب وأساتذة جامعة، ومثقفين وأدباء وفنانين، كلهم يحللون ما حدث في غزة من منظور عاطفي لا عقلاني، وورائهم جمهور من المنفصلين عن الواقع، جاهلين بالسياسة وأبعادها. ويا ويل من لا يتكلم كما يرغب القطيع. الانتصار الأول على واقعنا، هو الانخراط في العصر، نطلق التاريخ، نرميه خلف الظهر، ونندمج في الواقع. إن نكون جديين في تحمل مسؤولية واقعنا وعصرنا، وأن لا نسمح لواحد مثل حسن نصر وحزبه أو السنوار وحزبه أو عبد الباري عطوان، أن يأخذنا إلى ملعبه، إلى درجة أن حماس صارت تظن أن دفاعنا عن غزة، كناس ومدينة هو دفاع عنها.
التاريخ متعة للكسالى، للذين يدفنون رؤوسهم في الرمل، للذين يجدون المتعة واللذة في الهروب من استحقاقات الواقع. التاريخ رذيل وقميء لأنه لم ينتج لنا إلا مجرمين تحت أسم أبطال. طلعت باشا على سبيل المثال، بجرة قلم قتل ملايين الناس، واليوم يعتبر رمزًا وطنيًا في تركيا. قاتل ومجرم ورمز، وهذا حال الأبطال في كل مكان. لم يأت من التاريخ إلا رائحة العفونة والنتن، أنها رائحة الإنسان الكريهة، رائحة التحلل. ترومان بطل وطني أمريكي وكان يفتخر بضربه القنبلة الذرية على الناس العزل في اليابان، وهو مفخرة للأمريكيين. التاريخ هو تاريخ السلطة، أما الإنسان العاقل فلا يتم ذكره الا في كتب الفلسفة والطب والمسرح والموسيقا، العاقل دائمًا على الهامش، أما المجرمين فهم في المقدمة. لا تفتخروا بالماضي، برموزه، ارجموا التاريخ لتتحرروا من هذا العبء القميء.
خمسة وسبعين سنة ونحن نركض وراء القضية الفلسطينية، تركنا كل شيء والتصقنا بها عاطفيًا، لم نحلها ولم نتركها. بنفس الطريقة والأسلوب، وبنفس الهوس مستمرين. ألم تتعبوا من هذا الخواء، من هذا الخراب؟ جميع حروبكم هزائم، لماذا لا تقولوا لأنفسكم لماذا نهزم؟ لماذا لا تفكرون بطرق آخرى، أم أن اللطم والمظلومية متعة ولذة؟ النظام العربي لن يحلها، والمجتمع العربي يعيش في القرون الوسطى، ولا يستطيع حلها، ماذا علينا فعله؟ وهل سنبقى نصرخ ونصرخ ونبكي إلى لا نهاية دون فائدة. العرب لا يقرءون، لا يفكرون، وزادوا فقرًا وتشردًا ولجوءًا وانعدام الأمان عن السابق، وتحولت دولهم إلى دول فاشلة، ولا زالوا في الطبل ينفخون. ماذا يريد العرب من هذه القضية، هل ستبقون معلقين في الفضاء، معزولين، لا ترون منهم إلا ردات فعل سلبية، وهزائم وخراب، وجهل وتخلف؟ في كل معركة هيجان، صراخ ومظلومية وبكاء ولطم، وعندما تتوقف نعود للاسترخاء وكأن شيئًا لم يكن. تركتم أربعة عشرة مليون كيلو متر مربع، والتصقتنا بسبعة وعشرين ألف كيلومتر مربع، وهذه الأخيرة، إسرائيل وضعها أفضل من الجميع. الخلل ليس في انتصار إسرائيل أنما في خراب العقل العربي، هذه هي الحقيقة، أنتم لا تصلحون للعمران والبناء، لا تعرفون التخطيط ولا التنظيم. المغرب لماذا هي فقيرة، الجزائر، تونس، السودان، ليبيا، لماذا كانت سوريا فقيرة، العراق، السعودية ولبنان والأردن؟ المشكلة ليست في نجاح إسرائيل، المشكلة هنا، فيكم، فينا، لسنا جاهزين للانخراط في هذا العصر، بل كارهين له. لأن صراعكم مع إسرائيل قائم على أسس تاريخية، دينية وقومية.
كنت في الصف الخامس الابتدائي، قالت لي المعلمة قم يا آرام وسمعنا ماذا تعرف عن عربستان، قلت لها: ـ عربستان.. عربستان؟ ـ نعم. ـ أنا أعرف الكثير عن عربستان، لكني لن أقول لك. ـ لماذا؟ ـ لا أحب. في الحقيقة لم أكن أعرف إلا بضع كلمات عن عربستان، ولأنها عاملتني بمنتهى اللطف، بالعصا، نسيت كل شيء
لماذا تكاتف النظام العالمي لمحاربة داعش وترك حزب الله يسرح ويمرح في سوريا والعراق واليمن ولبنان، أيهما أخطر؟ هذا الحزب صادر القرار السياسي والاقتصادي للدولة والمجتمع اللبناني، ووضع نفسه فوق الدولة والمجتمع، بله تحول إلى منفذ سياسات إيران. حزب بمرتبة ش بيح، يملك قدرة عسكرية قوامه مئة ألف رجل تحت السلاح، ويهدد السلم الأهلي في لبنان وسوريا والعراق واليمن. اعتقد أن الهلال الشيعي جاء برعاية أمريكية إسرائيلية لا ستنزاف المنطقة ومصالحها إلى أبعد مدى.
في الخامسة من العمر بدأت ذاكرتي الثانية تنبت وتشتعل، تفتحت على العالم الخارجي عندما رحلنا إلى ضيعة المناجير في العام 1963، إلى المكان الذي كان والدي يعمل فيه. المكان، كراج للسيارات أممته الدولة، فيه عدد كبير جدًا من الحرفيين المميزين، أرمن وسريان واشوريين واكراد وعرب وغيرهم. الكراج كان عالمي الخارجي الأول، ولا شيء غيره. لم يكن هناك رجل واحد أو امرأة يعرف القراءة والكتابة، كلهم بلا استثناء كانوا أميين، باستثناء مدير المزرعة الأستاذ فايز. في هذه السنة جاء إلى هذا المكان عبد الكريم الجندي وزير الزراعة، نام فيها ليلة. في اليوم الثاني طلبوا من والدي أن يذهب للبحث عن الوزير الذي ضاع أثره. مضى في البحث عنه إلى أن وجده نائمًا في ساقية جافة من أجل الرطوبة، رأى والدي فوقه ينظر إليه، قال: ـ ماذا تريد؟ ـ إنهم يبحثون عنك. ـ أذهب من هون، دعني أنام. فتحت عيني وعقلي على هذا العالم الصغير والمحدود، عالم الصناعة، تصليح السيارات بكل أنواعها، الجرارات، الحصادات، المحركات الكبيرة، تصليح كهرباء السيارات والبيوت، لحام أوكسيجين، لحام نحاس، تصويج سيارات، تصليح دواليب، المراش والدينمو. الشتائم بين الرجال مثل الأغاني، بالجملة والمفرق، الصراخ بسبب ودونه، اللعب بمؤخرة بعضهم مع الضحك الرخيص. جو غني بالمفارقات الغريبة والمختلفة، والجميع سعداء، يضحكون، يتغامزون ويطلقون النكات المشبعة بالرموز الجنسية، مع غمز رخيص أن هناك طفل صغير بيننا من المعيب يسمعنا. عشت في محيط كبير لا قراءة فيه ولا كتابة. عالم فيه حياة غنية جدًا بكل شيء، ولكن دون ثقافة أو علم أو أي اهتمام بالثقافة أو العلم. وهنا تعلمت كرة القدم لوحدي لأن اهتمامات الأطفال في مثل عمري كان بعيدًا عن اهتماماتي. ودرست الصف الأول في هذا المكان الفقير والبائس.
مهما كانت مكانة المرء، بمجرد أن يعتلي القمة، سيبدأ بالنزول، يتلوها سقوط. وأسوأ ما في الأمر، أن المرء لا يعرف أين توجد القمة، ولا يعرف إن كان اعتلاها أو ما يزال يصعد ويصعد في ذلك الفراغ. ويظن هذا الصاعد، أنه بهذا الصعود سيكون مالكًا للقوة، بيد أن لا أحد يتنبأ أين هي الذروة، وماذا سيحدث بعد الذروة؟. والمشكلة أن الجميع يسعى إلى تلك الذروة اللانهائية او التي ليس لها نهاية. ربما تجربة سيزيف مؤشر على عبثية الحياة، اللهفة إلى السقوط سريعًا من عل.
المياه الرقراقة لم تمر في السواقي التي حفرتها بيدي. إنها تذهب بعيدًا عن الأرض والأشجار والزرع الذي في حوزتي. واقف أنا على الضفة العاجزة، تربتها رخوة ضعيفة، أتامل الحسرة الساكنة بالقرب مني في طريقها إلي. أغني للطيور الراحلة، وأحلم بعودتها رغم أنني مدرك تمامًا أن من رحل مات ولن يعود، وإذا عاد فإن نسغ الحياة في عظامه يكون قد جف. الطيور الراحلة لا يمكن أن تعود إلى أعشاشها إلا مثقلة بالألم، وقسوة الرحيل والطريق الطويل.
أنا ملحد وأفتخر بذلك وأحب الملحدين والكفار. عندما يكف الله عن تحويل البشر إلى مجرد أداة عبادة، انتهازي، يصلي ويصوم من أجل الفوز باللذة في الأخرة سأومن به لست شيئًا أو مجرد مادة مطواعة لإرادته حتى يغريني في الجنة، ويريد مني أن أعيش ذليلا خاضعًا طوال عمري، أو يسوقني إلى جهنم في حال عصيت أمره. هذه الاسلوب يذكرني بأسلوب العسكر والانظمة الفاسدة، الاستبدادية والديكتاتورية، الذين يطلبون مني أما أن أخضع وأحصل على السلامة أو أن أرفض وأدخل السجن أو الموت. أهلا وسهلًا بالموت ولا المذلة.
لو أن قبيلة الإيغور الصينية من أصول مغولية تركية، استوطنت فلسطين مع بداية القرن العشرين، هل كنّا سنصاب بالهيسترية الجماعية كما هي الحال عليه مع إسرائيل اليوم. هل كنّا سنفكر في محاربتهم، أو طردهم أو معاداتهم؟ أنا رأي كنّا سنعاملهم كأخوة وأهل، ولتعاملنا معهم على قدم المساواة. لو سألت مليار ونصف مسلم، وأربعمائة مليون عربي، هل تتمنى إزالة إسرائيل، بالتأكيد أن ثمانين بالمئة منهم سيصوت لصالح إبادة اليهود وإسرائيل. لنعكس السؤال: الدولة التركية أبادت جميع الأرمن الموجودين على الأرض خلال شهر، وأنهت وجودهم في الحياة، سنطرح السؤال ذاته على المسلمين والعرب: هل أنت متضامن مع الأتراك الذين ذبحوا الأرمن أم مع إدانتهم للجريمة الشنيعة التي قاموا بها؟ بالتأكيد سيقفون مع المذبحة، وتحميل المقتول جريمة موته. الشعوب البدائية تتضامن مع الأخر وفق معيار الانتماء للعشيرة والقبيلة والدين
منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، كانت وما زالت الولايات المتحدة تعمل على إنتاج اسوأ الأنظمة العسكرية في التاريخ، وزرعته في العالم الثالث، أنظمة فاسدة تعتمد على العنصرية والطائفية، دون أن تحسب حساب المجتمعات وظروفها الحياتية والمعيشية ولا مستقبلها ومستقبل أبناءها. وكان جل تفكيرها في دعم إسرائيل وإبقاءها على قيد الحياة. ولم تفكر في البيئة والطبيعة. وكان الدعم ينصب في مصلحة الأنظمة الاكثر عفونة وقذارة. هذه الانظمة ساهمت برعايتها على تعميق التمايز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. كما دعمت الإسلام السياسي الذي ساهم مع الأنظمة على تخريب كل القيم والأخلاق والمفاهيم الإنسانية كالقانون والمؤسسات والحاجة للديمقراطية واحترام حقوقه في الحياة والحرية. اليوم، انتقل الخراب إلى البيت الأمريكي ومن المحتمل أن يؤدي إلى صدام اجتماعي سياسي عميق في هذا البيت، بمعنى ما زرعته هذه الدولة من سموم ارتد عليها وربما يطيح بها. فترامب ليس حالة شخصية أو فردية، انه تيار سياسي اجتماعي عنصري، ومنظومة تفكير فوقي، ما زال قائمًا ومستمرًا. طابخ السم سيشربه، هذه حقيقة. هل سيتعلم النظام الأمريكي أن يوقف النفخ في العنصرية وبث الحروب والكراهية في أطراف النظام الدولي؟ أم أن هذا التيار لن يتوقف إلى أن ينهار النظام الدولي برمته، سواء داخل الولايات المتحدة أو في بقية أطراف العالم؟
يتبادر إلى ذهني السؤال التالي: لماذا كبحت الغرائز؟ الغرائز تنتمي إلى البذرة الطيبة في الإنسان. إنها البدء. في الكبح يتحول الإنسان إلى كائن غريب عن نفسه، بله يتحول إلى وحش كاسر. هناك علاقة بين الحرية والحقيقة والحب والجمال والفن والغرائز. وكلما تغرب الإنسان عن الغرائز كلما توحش. وتحول إلى كائن عاجز وضعيف ومنفصل عن زمانه ومكانه ووجوده. كلما توطدت العلاقة بين الغرائز والإنسان كلما ترفع وارتقى وتحول إلى كائن رقيق وناعم وجميل وخير. من أراد كبح الغرائز يدرك في قرارة نفسه إلى أين تسير الأمور. ويدرك أن ذلك يخدمه في تسخير الآخر لمصلحته ومصلحة أنانينه. أراد الآخر تملك الغرائز وإخضاعها لذاتيته الخاصة، وليحول غيره إلى كائن ممتثل لتوجهاته وأوامره. هناك ثلاثي عمل تاريخيًا على تدجين الغرائز من أجل فصلها عن العام ووضعها في الخاص، هم السلطة والمال وتوابهما.
لم تعد أنت الحائز على المكان، ولا المالك ولا المستاجر أيها الإنسان. أنت مجرد عابر سبيل. لم يعد لك وطن كما كنت تظن. ولا حنين ولا دفئ ولا سلام الأوطان زالت. الحداثة الرأسمالية حولت الأوطان إلى مجرد مزاد علني، إلى لا مكان. لقد تحول الوطن إلى أوراق ملونة، إلى بنوك وشركات استثمارية واحتكارية. الأرض التي تتحرك عليها مادت منذ قرون، أنها متأرجحة. وأنت واقف عليها، مجرد كائن أعزل متأرجح لا حول لك ولا قوة. أنت أقل من ثمن سلعة. ستنتقل كل الأوطان إلى لا وطن. الوطن القادم هو المال. ولن يبقى في دمك مشاعر أو حب أو أحلام أو أفكار أو أخلاق. ستتعرى أيها الإنسان وتتحول إلى مجرد كائن بائس مسكين أخرس. هذا وطن المستقبل ففكر في البدائل هل تستطيع؟
ذكريات من رأس العين بعد أن توقفت الحصادة نوع كلينير عن العمل جمعنا كل ما بعثرناه ووضعناه فوق هذه الآلة السوداء، وجلسنا فوقها كالقطط الحائرة. كنت الحلقة الصغرى أو الحلقة الأضعف في المعادلة. وكل دقيقة وأخرى ينادي أحدهم: ـ آرام أنا عطشان، قم أجلب لي كأس ماء. أذهب ونظف ذلك المكان. أحمل هذا الكيس وضعه هناك. ابتعد من هون وأجلس بعيدًا عنا. أنت هو سبب تعطل الحصادة. لولا مجيئك معنا لما تعطلت. منذ أن ركبت هذه الآلة لم نر منها الخير. اللعنة على الساعة التي رأيناك فيها. أنت ملعون الوالدين، لعنتهم حلت علينا وجلبت لنا سوء الطالع. صورتك، شكلك، كسمك القبيح هو الذي خرب الحصادة ومنع المحرك من الدوران. كنت في العاشرة من عمري عندما خرجت مع جيراننا في موسم حصاد القمح. كان انترانيك الأسوأ سلوكًا. والأسرة التي ينتمي إليها أغلب أفرادها مرضى. الأب مستبد ظالم يضربهم بسبب أو دونه. يشتمهم، يسبهم، ويحقرهم بين الفينة والأخرى. ولم يكن أي واحد منهم يتجرأ الاعتراض على قراراته مهما كان بالرغم من أن طول والدهم لم يكن يتجاوز المئة والخمسين سنتمتر. الا أن أولاده الشباب كانوا يرجفون أمامه. في حضوره كانوا يتحولون إلى فئران صغيرة ترتعد فرائصها من الخوف والخضوع. يتكلم انترانيك معي بطارف أنفه، بفوقية واحتقار. لم أكن أفهم في ذلك الوقت سبب تصرفه الغريب معي. ربما كان عمره في ذلك الوقت يقارب العشرين سنة. متكبر، قليل الكلام، جلف وخشن ولم يكمل درساته. ربما وصل إلى الصف الثاني أو الثالث الابتدائي. وربما لأن التعليم كان محتقرًا بينهم لهذا لم يكمل أي واحد في العائلة دراسته ولم يصل أي واحد منهم في الدراسة إلى الصف الخامس الأبتدائي. كان انترانيك عاشقًا للأفلام والأغاني الهندية. في بيته عشرات إن لم يكن مئات الأسطوانات السوداء الدائرية فوق تلك الآلات الموسيقية القديمة التي تسمى الغرامافون. كنا نراه يجلس وحيدًا في البيت، يغلق الباب على نفسه ويسمع أغاني الفنان الهندي شامي كابور أو راجي كابور. وأحيانًا كثيرة كان يغني معهم. ولم يترك فيلمًا هنديًا لم يذهب إليه. وعاشق لجميع الممثلين الهنود، بسواجيت، راجندر كابور، سيرابانوا. وفيلم جينكلي كان مفتتًا به إلى حد الجنون. وكنت اسمع كثيرًا عن هذا الفيلم واتحين الفرصة لحضوره، بيد أني لم أره إلى اليوم. كانت الأهرام السينما الوحيدة في رأس العين. صاحبها هرم بذاته. لم يكن يضحك للرغيف السخن كما يقول المثل. قليل الكلام. يقف أمام باب السينما ولا يسمح لنا بالاقتراب من الباب أو التلصلص على فيلم ما. هناك أفلام كثيرة بقيت حسرة في قلبي وروحي لأنني لم أستطع أن أراهم. أبكي مرات كثيرة أن يعطيني والدي نصف ليرة من أجل الذهاب إلى السينما. لم يكن لديه المال. يقول لي: ـ يا ابني ليس في جيبي فرنك واحد لاعطيك حتى تذهب. أبكي، اتعرش بالباب أو بشجرة الكينا العملاقة، بدلو البئر. أضرب الأرض برجلي. أصرخ، أقول له: ـ أريد أن أرى الفيلم. أريد أن أذهب إلى السينما. الفيلم جميل جدًا. أرجوك. أصدقائي عند باب الحوش ينتظروني لأذهب معهم. ـ والله العظيم يا ابني ليس في جيبي قرش واحد. أذهب وفتش إن رأيت أي شيء خذه. وتموت الحسرة في قلبي كما تولد. لا اتصالح مع الحرمان ولا اطفي الرغبة. أذهب إلى عند باب السينما فاصطدم بوجه ابو الياس صاحب السينما. أقول في نفسي: ـ لو أن والدي يملك هذا البناء لكنت شاهدت جميع الأفلام التي تعرض. كنت اعشق السينما. والممثليين العالميين مثل عشقي لكرة القدم. أجمع صور اللاعبين والممثلين من هنا وهناك. ولا اترك أي شيء للقدر. عقلي يعمل مثل الكومبيوتر. يبحث عن الرغبات الدفينة التي يحرضها عقلي. الرغبات التي تتولد في داخلي كانت كالمحرك الدائري الذي يدورني. أما الوعي فلم أكن اسيطر عليه، وفي الحقيقة لم أكن أعرف له مكانًا. اللاوعي، الرغبات، الحقيقة الدفينة في وعي كانت تتشكل تلقائيًا في داخلي وتقودني. وأنا اطيعها واسير وراءها. وتصطدم بقسوة الواقع الصادم الذي يصطدمني ويفتت أشياء جميلة نابتة في أعماقي. تتحول الرغبات إلى مكبوتات تنمو وتكبر في شراييني. وتبدأ النفس تبحث عن مخارج للتصالح والكذب. ترسم نوع من التوافق الكاذب بين الرغبة والحرمان. ففي روح وعقل الطفل خط سير في اتجاه واحد: ـ إن يحقق أكبر قدر ممكن من النزوع نحو تحقيق ما يريده بأقصى درجات الأخذ. في الصيف، من على سطح البيت أرى تقافز الصور القادمة من السينما. لا شيء واضح على الاطلاق. أبقى معلقًا مدة طويلة في مكاني علني أرى مشهدًا ما. لكن هيات. أمّل واتعب. أشياء جميلة بقيت في ذاكرتي لم تمت بعد. ذاك الطفل العاشق للحياة يرغب ويرغب ولا يرتوي من الحاجات والرغبات المجنونة النائمة في أعماقه. لم يستطع أن يدفن الجمال والعشق لكرة القدم والسينما الا بعد الضغط المتواصل والحرمان المتواصل. كان والدي يشاركني في مسؤولية البيت منذ كنت صغيرًا. وكلمة ليس في جيبي قرش واحد خالدة في ذاكرتي. ودائمًا أحسه يرمي المسؤولية على الآخرين. في ذلك الزمن، في الستينات، لم يكن مسموحًا للموظف العمل في وظيفتين. القوانين كانت صارمة. ومن المعيب جدًا أن يرتشي المرء. المرتشي أو المختلس كان يعتبر في ذلك الوقت محتقرًا منبوذًا من قبل الدولة والمجتمع ولم تكن الدولة تسمح بالتسيب أو السرقة من المال العام. كان الناس في ذلك الوقت لديهم أخلاقيات مختلفة عما هم عليه الأن. ولم يكن هناك تلك السلطة الجائرة. ولم نكن نعرف رجل الأمن من غيره. وممنوع منعًا باتًا أن يصرح رجل الأمن عن نفسه. ولم تكن الدولة عدوة المجتمع أو تمارس سلطتها على الإنسان في الشاردة والواردة. اشار مرة والدي إلى رجل كان يمشي في الشارع مطأطأ الرأس، قال لي: ـ أنظر إلى هذا الرجل، دقق النظر فيه، لقد خرج من السجن بسبب الرشوة. إنه محتقر بين الناس. أصبح مكروهًا. وسيتحول إلى منبوذ بين الناس لسابع جد. ما اسوأ حاله. الله يكون بعونه. وقال لي مرة في إشارة لرجل واقف بجانب سيارة: ـ هذا رجل حزبي. القلائل من الناس يحملون هذا الصفة. الحزبي عليه واجبات أكثر من الحقوق. ولا يسمح للعشائري أو الاقطاعي/ كما كان يسمون في ذلك الوقت/ او الغني بالدخول إلى الحزب. لم نكن نسمع عن مختلس أو شرطي يرتشي أو موظف يسرق. لم تتلوث الذمم بالاوساخ. ولم تتغير المعايير. كما لم تخرب النفوس. كان لنا عدو واحد اسمه اسرائيل. وكل إنسان كان يتكلم بالعشائرية أو القبيلة يسجن. ولم نكن نعرف شيء اسمه طائفة أو كلمة مسلم أو مسيحي أو يهودي. لم تتغول الدولة ولم تتحول إلى وحش فتاك الا بعد دخول جيش حافظ الاسد إلى لبنان. قبل ذلك التاريخ كان الجيش السوري منضبطاً إلى حد كبير. لا رشوة أو تسيب أو اختلاس كما هو عليه في عصر حافظ الأسد. هذه ذاكرة طفولتي ولم استعرها من أحد.
ما دام القرآن يؤول فلا يوجد أي إنسان على رأسه ريشة يستطيع اقناعنا بالحقيقة. الحقيقة تعيش في عالمها العلوي، ولا اعتقد أن هناك إنسان يستطيع أن يطالها أو يصل إلى قلبها وعقلها. لهذا على الشيوخ أن يبطلوا الإفتاء بما يعرفون أو لا يعرفون. من يريد أن يعرف دينه فالنصوص موجودة، وأمامه وعلى مقربة من عينيه، ليقرأها كما يراها قلبه وضميره وعقله. لست بحاجة إلى شيخ يعرفك بدينك، يكفي أن قلبك دليلك. هناك أحاديث وأقوال مخجلة كتبت في أزمان مختلفة، ولا يمكن للعقل المعاصر أن يتقبلها
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس سياسة وأدب ودين ــ 339 ــ
-
هواجس أدبية وإنسانية ــ 338 ــ
-
هواجس في الأدب والسياسة والفكر 337
-
هواجس فكرية ــ 336 ــ
-
هواجس ثقافية أدبية سياسية فكرية 335
-
هواجس إنسانية وسياسية ــ 334 ــ
-
هواجس عالمنا ـ 333 ــ
-
هواجس تمس الواقع ــ 332 ــ
-
هواجس تمس الدولة والحرية ــ331 ــ
-
هواجس إنسانية 330
-
هواجس أدلبة 329
-
هواجس ثقافية 328
-
هواجس قديمة 327
-
هواجس في الأدب ــ 326 ــ
-
هواجس اجتماعية فكرية أدبية 325
-
هواجس فنية وسياسية واجتماعية ــ 324 ــ
-
هواجس وأشياء من الذاكرة 323
-
هواجس ثقافية ــ 322 ــ
-
هواجس ثقافية وفكرية ــ 321 ــ
-
هواجس عامة ــ 320 ــ
المزيد.....
-
بالأرقام.. تحديث عدد أصوات ترامب والقوة الهائلة بواشنطن
-
قلبها ترامب.. أسماء 4 ولايات انتزعها الجمهوريون بالانتخابات
...
-
مراسل يوضّح -خطيئة- الديمقراطيين وسبب غطرستهم وظنهم بأن ترام
...
-
كوشنر وما قاله عن محمد بن سلمان بمذكراته يبرز مجددا بعد إعلا
...
-
الكويت.. فيديو مداهمة أمنية تضبط إيرانيين ومواطن والداخلية ت
...
-
/ملخص يومي/.. الهجمات الإسرائيلية على لبنان وجهود التسوية/ 0
...
-
/ملخص يومي/.. الأراضي الفلسطينية تحت النيران الإسرائيلية/ 07
...
-
مقتل عشر أشخاص في الضفة الغربية، والوضع في غزة -يزداد كارثية
...
-
ترامب حقق نصراً كبيراً، وهاريس تقرّ بخسارتها، فكيف كانت الان
...
-
ماذا سيفعل ترامب في هذه الحقبة القلقة؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|