الفكرة اللينينية عن الامبريالية اليوم

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

الحوار المتمدن-العدد: 8147 - 2024 / 10 / 31 - 16:47
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    

شكّل كتاب لينين "الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية" علامة فارقة في فهمنا للعمليات الاقتصادية والسياسية التي كانت تشهدها العالم في أوائل القرن العشرين. وقد تناول لينين في هذا العمل بشكل عميق مسألة توسع رأس المال المالي وتأثيره على توسيع الأراضي، مستندًا إلى تحليله الماركسي للرأسمالية.
أشار لينين إلى أن تطور الرأسمالية إلى مرحلة الاحتكارات قد أدى إلى زيادة تركيز الثروة والسلطة في أيدي مجموعة صغيرة من الشركات الكبرى التي زادت حاجتها إلى أسواق جديدة لمواد خام ورأس مال واستثمار مع نمو هذه الاحتكارات، مما دفعها إلى التوسع خارج حدود الدول الأم.
ورأى لينين أن الاستعمار أصبح أداة أساسية لتوسيع نفوذ هذه الاحتكارات وتحقيق أرباح هائلة ، واصفاً المنافسة بين القوى الإمبريالية بأنها صراع على تقسيم العالم، حيث تسعى كل دولة إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من الموارد والأسواق. وأكد أن الحروب الإمبريالية هي نتيجة حتمية لهذا الصراع، حيث تستخدم الدول القوة العسكرية لحماية مصالحها .
وأشار لينين في كتابه إلى أن الثورات الاشتراكية، مثل الثورة الروسية، تمثل ضربة قوية للإمبريالية، حيث تسعى هذه الثورات إلى تحرير الشعوب المستعمرة وتقويض أسس النظام الرأسمالي العالمي. و أكد على أهمية دعم حركات التحرر الوطني في الدول المستعمرة، ورأى فيها قوة دافعة لإنهاء الاستعمار.

وقد شهدت العقود التي تلت كتابة كتاب لينين موجة واسعة من حركات التحرر الوطني التي أدت إلى انهيار معظم الإمبراطوريات الاستعمارية. وتطورت أشكال الإمبريالية في العصر الحديث، حيث ظهرت أشكال جديدة من الهيمنة الاقتصادية والثقافية، مثل العولمة والنيوليبرالية. وعلى الرغم من التغيرات التي طرأت على النظام الدولي، إلا أن الصراع من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية لا يزال مستمراً، حيث تستمر الدول الغنية في استغلال موارد الدول الفقيرة.

إن تحليل لينين للإمبريالية لا يزال يحافظ على أهميته حتى يومنا هذا، حيث يقدم لنا إطارًا لفهم العمليات الاقتصادية والسياسية التي تشكل عالمنا المعاصر. ومع ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار التطورات التي حدثت منذ كتابة هذا العمل، وأن نسعى إلى تطوير هذا التحليل لتلبية احتياجات فهمنا المعاصر للعالم.

لقد شهدنا تحولًا كبيرًا في شكل الإمبريالية منذ زمن لينين، حيث انتقلت من مرحلة التنافس الشديد بين القوى الاستعمارية إلى مرحلة جديدة تتميز بتركيز رأس المال وعولمة الاقتصاد. وأصبح رأس المال المالي قوة عالمية متكاملة، تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الربح من خلال الاستثمار في جميع أنحاء العالم. كما أدت العولمة إلى تزاوج المصالح بين الشركات متعددة الجنسيات والحكومات، مما قلل من حدة الصراع بين الدول الكبرى.
وفي الوقت الحالي، يظهر التعاون الاقتصادي بين الدول بشكل أكبر من التنافس، خاصة بين القوى الاقتصادية الكبرى. وتستخدم الدول الإمبريالية أدوات اقتصادية وسياسية ناعمة لفرض نموذجها الاقتصادي على الدول النامية، مثل سياسات الخصخصة وفتح الأسواق؛ إذ تعمل هذه السياسات على إضعاف الدول الوطنية وتقويض قدرتها على حماية مصالح شعوبها.
تهدف النيوليبرالية إلى السيطرة على الموارد الطبيعية في الدول النامية لصالح الشركات متعددة الجنسيات. وتلجأ الدول الإمبريالية إلى إشعال الحروب بالوكالة في المناطق التي تعارض سياساتها، بهدف تحقيق أهدافها الاستراتيجية. وتهدف هذه الحروب إلى تدمير البنية التحتية للدول المستهدفة وجعلها أكثر اعتمادًا على المساعدات الخارجية.
وقد تستخدم الحروب لتغيير الأنظمة السياسية في الدول المستهدفة وفرض أنظمة سياسية موالية للمصالح الغربية.


وبينما لا يزال تحليل لينين للإمبريالية ذا صلة حتى اليوم، إلا أن الشكل المعاصر للإمبريالية يختلف عنه في بعض الجوانب. فبدلاً من التركيز على الدول، أصبح التركيز منصبًا على الرأسمال المالي والشركات متعددة الجنسيات. وأصبحت السيطرة على الدول تتم بشكل أكبر من خلال أدوات اقتصادية وسياسية ناعمة، بدلاً من الاستعمار المباشر. كما أصبح التعاون الاقتصادي بين الدول الكبرى أكثر وضوحًا، مما يقلل من حدة الصراع المباشر.

إن الشكل الجديد للإمبريالية يمثل تحديًا كبيرًا للدول النامية، حيث تواجه هذه الدول صعوبات كبيرة في تحقيق التنمية المستدامة في ظل الهيمنة الاقتصادية والسياسية للدول الغربية.

للنيوليبرالية آثار مدمرة على الطبقة العاملة حول العالم، خاصة في الدول النامية إذ إن التركيز على زيادة الأرباح وتحقيق الكفاءة الاقتصادية على حساب العدالة الاجتماعية قد أدى إلى نتائج كارثية.
أدت العولمة وحرية حركة رؤوس الأموال إلى نقل الصناعات إلى الدول النامية، حيث الأجور أرخص والقوانين العمالية أقل صرامة. وأدى هذا التحول إلى ركود في الأجور في كلا من الدول المتقدمة والنامية، مما قلص القدرة الشرائية للعمال.
وأدت التطورات التكنولوجية إلى زيادة الإنتاجية، ولكن الفوائد لم توزع بشكل عادل؛ بل استفادت الشركات والمستثمرون بشكل أكبر من زيادة الإنتاجية، بينما استمر العمال في الحصول على حصة ثابتة أو متناقصة من الدخل.
لقد أدت الزيادة في الفائض الاقتصادي إلى زيادة حادة في عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء وخاصة في الدول النامية حيث أدى هذا إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع.
إن الفجوة الاستهلاكية بين أصحاب الدخول المرتفعة والمنخفضة هي المحرك الرئيسي لزيادة الفائض الاقتصادي.
كما أدت سياسات النيوليبرالية إلى تراجع دور الدولة في تنظيم الاقتصاد وحماية حقوق العمال وأدت عمليات الخصخصة إلى تقويض الخدمات العامة وتقليل فرص العمل الجيدة. كما أدت زيادة عدم المساواة إلى تزايد التوترات الاجتماعية والسياسية. وتأثرت الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم سلبًا بسبب نقص التمويل.

إن النيوليبرالية قد أدت إلى تفاقم العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. من الضروري إعادة النظر في هذا النموذج الاقتصادي والعمل على بناء نظام اقتصادي أكثر عدالة واستدامة.

إن التركيز المفرط على السوق الحرة وتقليص دور الدولة في الاقتصاد قد قيد بشكل كبير قدرة الحكومات على استخدام الأدوات المالية التقليدية لتحفيز النمو الاقتصادي بعد فشل الحلول الكينزية في ظل النيوليبرالية.
تخشى الحكومات من زيادة العجز المالي بسبب الضغوط التي تمارسها الأسواق المالية والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وتؤدي زيادة العجز إلى تدهور التصنيف الائتماني للدولة، مما يزيد من تكلفة الاقتراض ويقلل من جاذبية الاستثمارات الأجنبية.
ترفض الطبقة الغنية أي زيادة في الضرائب، حيث تمتلك نفوذاً كبيراً على صناع القرار. وتخشى الحكومات من هروب رؤوس الأموال إلى دول أخرى ذات ضرائب أقل.
يفرض رأس المال المالي أجندته الخاصة على الحكومات، مما يحد من قدرتها على اتخاذ قرارات اقتصادية مستقلة. إذ يمكن لرأس المال المالي أن يهدد بسحب استثماراته من دولة ما إذا لم تمتثل لمتطلباته.
لقد جعلت العولمة الدول أكثر عرضة للمنافسة العالمية، مما يحد من قدرتها على اتباع سياسات اقتصادية مستقلة.
وقد يؤدي عدم قدرة الحكومات على تطبيق السياسات النشطة إلى ركود اقتصادي طويل الأمد إذ يستفيد الأغنياء بشكل أكبر من السياسات النيوليبرالية، مما يؤدي إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء ومعاناة الطبقة العاملة من تراجع الأجور وزيادة البطالة.

يمكن الربط بين فائض الإنتاج الناجم عن الرأسمالية النيوليبرالية وصعود الفاشية الجديدة. هذه العلاقة المعقدة تستحق التعمق فيها لفهم أبعاد الأزمة العالمية الحالية. يشكل فائض الإنتاج أرضية خصبة للركود الاقتصادي، حيث يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي وتراكم المخزونات. هذا الركود بدوره يزيد من حدة التنافس بين الشركات ويزيد من الضغوط على العمال. وتستغل الفاشية الجديدة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الناتجة عن فائض الإنتاج لزرع بذور الكراهية والعنصرية، وتوجيه غضب الجماهير نحو الأقليات والشرائح المستضعفة.
وعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين الفاشية ورأس المال، إلا أن هناك مصالح مشتركة تجمعهما، خاصة في سياق الرأسمالية النيوليبرالية. فالفاشية توفر المناخ المناسب لتراكم الثروة من خلال تقويض حقوق العمال وتقليل الضرائب على الشركات.
وسواء كانت الدولة ديمقراطية أو فاشية، فإنها تواجه صعوبات كبيرة في معالجة مشكلة فائض الإنتاج، وذلك بسبب هيمنة رأس المال المالي وقوى السوق حيث يلعب الإعلام دوراً حاسماً في نشر خطاب الكراهية وتجييش الرأي العام لصالح الفاشية. و تساهم السياسات النقدية التيسيرية التي تتبعها البنوك المركزية في تفاقم مشكلة فائض الإنتاج، حيث تؤدي إلى تدفق الأموال نحو الأصول المالية بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي. كما تساهم التغيرات التكنولوجية السريعة في زيادة البطالة وتعميق أزمة فائض الإنتاج.

يجب ألا ننسى الدور المحوري الذي تلعبه القوى الإمبريالية في إشعال الحروب وتغذية الصراعات حول العالم. إن حرب أوكرانيا تمثل مثالاً صارخاً على هذه الاستراتيجية، حيث تم استغلالها لتحقيق أهداف جيوسياسية واسعة.
إن خرق وعد عدم توسيع حلف الناتو شرقًا، والذي تم تقديمه لغورباتشوف كضمانة لسلامة أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، يمثل خديعة تاريخية وكشفًا عن نوايا القوى الغربية الحقيقية. وإن الانقلاب الذي أطاح بـ يانوكوفيتش كان مدبرا بعناية من قبل قوى خارجية، بهدف فرض حكومة موالية للغرب على أوكرانيا وتقويض النفوذ الروسي في المنطقة.
كما تم استغلال الهويات القومية واللغوية في أوكرانيا لتأجيج الصراعات الداخلية، وخاصة في منطقة دونباس، مما سمح بتبرير التدخل العسكري الروسي.
وقد تحمل الحرب في أوكرانيا خطر التصعيد إلى صراع نووي، مما يشكل تهديداً وجودياً للبشرية جمعاء.
إن الحروب الحديثة ليست مجرد صراعات عسكرية، بل هي أيضاً صراعات اقتصادية تهدف إلى السيطرة على الموارد والأسواق. ويلعب الإعلام دوراً حاسماً في تشكيل الرأي العام وتبرير الحروب.


ثمة جوانب حاسمة في الصراع الأوكراني، حيث يكشف عن التلاعب الدولي بالأحداث وتضليل الرأي العام. إن التركيز على دور القوى الإمبريالية في إطالة أمد الصراع وإفشال جهود السلام يقدم رؤية واضحة للأبعاد المعقدة لهذه الأزمة.
يؤكد فشل اتفاق مينسك، الذي كان يهدف إلى وقف إطلاق النار وحل النزاع سلميًا، على عدم جدية بعض الأطراف في تحقيق السلام. إن الدور الذي لعبه قادة غربيون مثل بوريس جونسون في تقويض هذا الاتفاق يكشف عن أجندات خفية تهدف إلى استمرار الصراع وتكشف اعتراف أنجيلا ميركل بأن اتفاق مينسك كان مجرد مناورة لشراء الوقت عن وجود أجندات خفية لدى القوى الغربية، حيث تم استغلال الصراع لتحقيق أهداف جيوسياسية أوسع.
إن الحرب في أوكرانيا تستخدم كأداة لتكبيل روسيا وإضعاف نفوذها في المنطقة، وهو ما يتماشى مع استراتيجية طويلة الأمد للولايات المتحدة وحلفائها.
إن المشروع الإمبريالي الذي يستهدف روسيا بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأن الصراع في أوكرانيا هو جزء من هذا المشروع. ويستغل بوتين والفاشية والنازية الأوضاع للهيمنة على الوضع. إن الحرب في أوكرانيا هي نتيجة لصراع جيوسياسي معقد، حيث تتنافس القوى الكبرى على النفوذ والموارد. إن فهم الأبعاد المختلفة لهذا الصراع أمر ضروري لتطوير استراتيجيات فعالة لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة والعالم.

#حميد_كشكولي (هاشتاغ)       Hamid_Kashkoli#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات