|
الهزائم الشريفة انتصارات كُبرى
سامح قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 8140 - 2024 / 10 / 24 - 23:57
المحور:
الادب والفن
على مر العصور، شهد التاريخ البشري مواقف عديدة يمكن وصفها بالهزائم الشريفة، تلك التي تبرز فيها المعاني الإنسانية السامية وتترك أثراً خالداً في الذاكرة الجماعية، رغم أن أصحابها قد خسروا على المستوى المادي. لكن تلك الخسارة الظاهرية لم تكن في الحقيقة سوى انتصار معنوي عظيم، أضفى على هؤلاء الشهداء والنضال الذي خاضوه نوعاً من الخلود الذي يستمر عبر الأجيال، ملهماً الأمم والشعوب المقاومة والتمسك بالمبادئ السامية. لعل واحدة من أبرز الهزائم الشريفة التي تركت أثراً عميقاً في التاريخ هي معركة كربلاء، التي وقعت في القرن السابع الميلادي عندما واجه الإمام الحسين بن علي وأصحابه جيشاً يفوقهم عدداً وعتاداً بكثير. كانت المعركة غير متكافئة، وانتهت بقتل الإمام وأتباعه، وأسر النساء والأطفال من عائلته. وعلى الرغم من هذه النتيجة العسكرية المؤلمة، فإن الحسين وأصحابه جلبوا النصر الحقيقي للروح الإنسانية، لأنهم اختاروا الموت بشرف على الخضوع لظلم الطغاة. معركة كربلاء جسدت المعاني السامية للتضحية والشجاعة، وتحولت إلى رمز للوقوف في وجه الظلم والطغيان. لقد صارت تلك المعركة درساً أبدياً في أن مقاومة الظلم ليست مشروطة بالانتصار المادي، بل بإبقاء القضية التي يُناضل من أجلها حيةً في قلوب الناس. تحول الحسين إلى رمز للشجاعة والإصرار على الحق، وأصبحت كلماته وأفعاله مصدر إلهام للأحرار والمظلومين في شتى الأرض وبمختلف العصور. إذا انتقلنا من الشرق إلى الجنوب الإفريقي، نجد تجربة نيلسون مانديلا الذي عاش حياة مليئة بالنضال من أجل حرية شعبه ضد نظام الفصل العنصري الذي كان سائداً في جنوب إفريقيا. قضى مانديلا أكثر من 27 عاماً في السجن، وهي فترة طويلة كان يُمكن اعتبارها هزيمة، إذ أن خصومه السياسيين ظنوا أن حبسه سيكسر إرادته ويُجهض نضاله. ولكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، فقد استطاع مانديلا من خلال صموده وإصراره على المبادئ أن يُحوِّل فترة السجن إلى مصدر قوة وإلهام، حيث أصبح رمزاً عالمياً للكرامة الإنسانية والمقاومة السلمية. عندما خرج مانديلا من السجن عام 1990، كان قد حوّل تلك الهزيمة الظاهرية إلى انتصار أخلاقي وسياسي. وأفضى ذلك الصمود إلى نهاية نظام الفصل العنصري وتأسيس نظام ديمقراطي تعددي في جنوب إفريقيا. هكذا برهن مانديلا على أن الهزيمة لا تتجسد دائماً في فقدان الحرية أو المعاناة الجسدية، بل يمكن أن تتحول إلى انتصار على المستوى الأخلاقي والإنساني، حين يُحافظ الإنسان على نقاء مبادئه وإرادة التغيير. يقدم الأدب والفن تاريخاً ثرياً للهزائم الشريفة التي تجسدها الروايات والمسرحيات والقصائد، حيث يظهر من خلال الشخصيات الأدبية والأحداث التاريخية أن الشرف ليس مرتبطاً دائماً بالانتصار المادي. في ملحمة "الإلياذة" لهوميروس، نجد شخصية هيكتور الذي يقاتل حتى الرمق الأخير من أجل حماية مدينته طروادة، رغم إدراكه أن هزيمته حتمية. لقد خسر هيكتور المعركة في نهاية المطاف، لكنه كسب خلود الروح والشرف في ذاكرة التاريخ والأدب، وأصبح رمزاً للشجاعة في مواجهة المصير. وفي الشعر العربي، جسد عنترة بن شداد الشجاعة في مواجهة الخصوم، حيث كان يقول: "وَلَقَدْ شَفَى نَفْسي وَأَبْرَأَ سُقْمَها ** قِيلُ الفَوَارِسِ: وَيْكَ عَنْتَرَةُ اقْدِمِ" إنه يُفضل الشجاعة في مواجهة الموت على الانتصار البارد الذي لا يُحرك فيه روح المجد. وقد تحول هذا الموقف إلى رمز يُظهر أن الشجاعة لا تقتصر على الانتصار الظاهر، بل تُختبر في الهزيمة حين يكون الشخص وفياً لقيمه ومبادئه. شهدت حركات التحرر عبر التاريخ العديد من الهزائم التي كان لها دور كبير في تكوين وجدان الشعوب وشحذ همتها للمقاومة من جديد. فالهزائم التي منيت بها حركات التحرر ضد الاستعمار في إفريقيا وآسيا لم تكن هزائم نهائية، بل كانت محطة لتجديد العزيمة. فالفشل في مرحلة من مراحل النضال يمكن أن يكون دافعاً لمراجعة الاستراتيجيات والتعلم من الأخطاء وإعادة تنظيم الصفوف، مما يجعل من الهزيمة وقوداً لمعارك مستقبلية تُحقق الانتصار الحقيقي. الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، على سبيل المثال، بدأت بحركة مقاومة متواضعة في مواجهة إمبراطورية عسكرية قوية، ورغم ما عانته من خسائر فادحة وهزائم عسكرية في بداياتها، إلا أنها أصبحت رمزاً للكفاح من أجل الحرية. لم يكن النصر الذي تحقق في النهاية مجرد انتصار عسكري، بل كان انتصاراً للكرامة الوطنية، حيث أثبت الشعب الجزائري أن الهزائم المؤقتة يمكن أن تُبنى عليها صروح الانتصار الحقيقي. إذا تأملنا في مفهوم الهزيمة، نجد أنها ليست مجرد نتيجة لمعركة أو نضال، بل هي اختبار للقيم والمبادئ. هناك انتصارات قد تنتهي بتبديد المبادئ، وتفريط في الأخلاق من أجل مكاسب مادية آنية، في حين توجد هزائم تتحول إلى ملاحم تجسد المعاني السامية كالكرامة والعزيمة والتضحية. الإنسان الذي يختار أن يخسر معركة لكنه يحافظ على شرفه ومبادئه، يظل منتصراً في نظر التاريخ، لأن النصر الحقيقي هو الانتصار على الذات، والتغلب على الإغراءات التي تدفع نحو التنازل عن القيم. الهزائم الشريفة تُعلمنا الكثير عن الحياة، إذ تدعونا إلى النظر أبعد من النتائج الفورية والتفكير في القيم التي نريد أن نجسدها. إنها تذكرنا بأن الصمود في وجه الظلم والتمسك بالمبادئ النبيلة يُعد نصراً بحد ذاته. تجعلنا الهزائم الشريفة ندرك أن الخسارة المادية لا تُفقدنا قيمة الحق الذي نناضل من أجله، بل قد تزيده إشعاعاً. إن قصص الهزائم الشريفة التي شهدها التاريخ تلهم الأجيال اللاحقة لمواصلة النضال وعدم التخاذل، مؤكدةً أن انتصار المبادئ أعظم من أي انتصار مؤقت في ساحة المعركة. في النهاية، تبقى تلك المواقف الإنسانية التي جمعت بين الهزيمة الظاهرية والانتصار المعنوي دليلاً على أن الإنسان قادر على تحقيق المجد حتى في أقسى الظروف. قد يخسر جولة أو معركة، لكن روحه تبقى مرفرفة في سماء الكرامة، لتُحفر في ذاكرة الشعوب كدرس أبدي عن معنى الشجاعة والثبات على المبادئ، وتصبح الهزيمة في هذا السياق نوعاً من الانتصار الخالد الذي لا يفنى.
#سامح_قاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المُطبعون بين الكلب المحبوب والإنسان المكروه
-
المساواة في الألم
-
ما فائدة الحياة إذا لم تظل مقاوماً؟
-
معنى أن تعيش تحت القصف
-
الخيانة: من طير الوقواق والقردة إلى بني البشر
-
المُطبعون أشد إفكا ونفاقاً
-
الألم.. محبتي لك أيها المعلم العظيم
-
موجز تاريخ الشقاء
-
صوت المقاومة يتحدى الصمت
-
ما الذي حل بالكرامة العربية؟
-
تسقط إسرائيل.. تحيا المقاومة
-
بيروت.. وجه الله في مرآة البحر
-
عواقب الخذلان العربي للمقاومة في غزة ولبنان
-
المثقف والمقاومة وجهان لعملة واحدة
-
الخيانة ليست وجهة نظر
-
المقاومة فوق القوة
-
المثقفون المرتزقة: من تحريف الحقيقة إلى تشويه الثقافة
-
مثقفو الهامش: بين الاستبعاد والخروج عن المألوف
-
في وصف الخذلان
-
تاريخ الكذب: من الفلسفة إلى الواقع
المزيد.....
-
-مهرج قتل نصف الشعب-.. غضب وسخرية واسعة بعد ظهور جونسون في
...
-
الجزائر تعلن العفو عن 2471 محبوسا بينهم فنانات
-
أفلام كوميدية تستحق المشاهدة قبل نهاية 2024
-
-صُنع في السعودية-.. أحلام تروج لألبومها الجديد وتدعم نوال
-
فنان مصري يرحب بتقديم شخصية الجولاني.. ويعترف بانضمامه للإخو
...
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
-
فنان مصري: نتنياهو ينوي غزو مصر
-
بالصور| بيت المدى يقيم جلسة باسم المخرج الراحل -قيس الزبيدي-
...
-
نصوص في الذاكرة.. الرواية المقامة -حديث عيسى بن هشام-
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|