أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اسماعيل موسى حميدي - النافذة المفتوحة















المزيد.....

النافذة المفتوحة


اسماعيل موسى حميدي

الحوار المتمدن-العدد: 8127 - 2024 / 10 / 11 - 16:34
المحور: الادب والفن
    


إسماعيل موسى حميدي
قصة قصيرة
كان الأجدر بها استبدال نغمة المنبهة التي في نقالها بأخرى صاخبة لتوقظها من النوم الغائر في مسالك ألأموات، فالنغمة الهادئة جعلتها تنساب أكثر في نومها بدلا من أن تصحو في موعد توقيت المنبه،فالأصوات الضاجة كفيلة باستعادة النفس سريعا من رحلة موتها المؤقت الى عالم الاحياء.
فقد رن المنبه القريب من رأسها ثلاث مرات متتالية دون أن تشعر ،ومع كل رنة تنقلب يمينا أو يسارا على سريرها الخشبي الذي ورثته من جدتها المتوعكة والتي غالبا ما تسهر معها لتلبية متطلباتها ، ويبدو في تلك الليلة السهر قد أرهق جسدها وأعيى ذهنها ،ولم تعد تشعر بالأشياء من حولها، وهكذا بعد مضي ساعة كاملة من توقيت المنبه استقيظت على صوت صفير الريح الشديدة التي تخترق حافات النوافذ الى داخل الحجرة وقرقعات المزن التي تدوي بإصوات مهيبة في الخارج ، جلست على سريرها بليدة الجسد محاولة إستعادة كامل وعيها ،وما أن نظرت الى الساعة حتى أدركت أنها قد تأخرت كثيرا عن موعد مجيء باص الجامعة المبكر الذي على مايبدو تركها ومضى.
غادرت سريرها والكسل يوثق أطرافها ،إتجهت صوب نافذة الغرفة، سحبت الستارة يسارا ،فتحت النافذة ،ألقت بنظرة عابرة نحو الفضاء الخارجي ،حركة الرياح توعز بقدوم المطر، والسماء معتمة بسبب وفرة الغيوم الحبلى بالماء ،نقلّت نظراتها هنا وهناك ،كل شيء لم يعد ثابتا على الارض ،أسلاك الكهرباء ترقص في أعمدتها من شدة الريح ، ألأشجار البعيدة تنحني الى الارض من فرط سرعة الهواء، أشعة الشمس تختبئ وراء السحب الرمادية التي تتصفح السماء من جهة الغرب ،وصوت الرعد المقبل من عميق المدينة ينذر بقدوم المطر السيال .
أغلقت نافذة غرفتها ،وضعت يديها أسفل ظهرها ،إنحنت الى الوراء ثم الى اليمين ثم الى الشمال ،جلست على سريرها وراحت تحدث نفسها.
يبدو أن متعة النوم أفسدت عليّ يومي هذا وأخّرتني عن جامعتي وواجباتي ،المتع القصيرة غالبا ما تفشل عندنا أشياء عظيمة ،كم نحن بحاجة الى استبدال نعومتنا بخشونة ،كم صدمة يحتاجها الانسان ليوقظ عقله من الغفلة والكسل، أمراض العصر لايمكن ان تعالج الا بالغلظة على النفس .
ولكن لابد من أن أكمل بقايا يومي هذا علني ألحق بمحاضراتي ولو الاخيرة منها ، أفقد نصف يومي خير لي من فقدانه كاملا.عليّ اللحاق بموعد مصلحة نقل الركاب الرقم 33 التي تمر من أمام بوابة الجامعة.
وبعد أن مظهرت نفسها بالزي الجامعي "الرصاصي والابيض" ، وأعدت لوازم الدراسة ، تناولت حقيبتها وأوراق مدوناتها الجامعية ،وخرجت تحمل معطفها المقاوم للمطر ،ومظلة (شمسية) تقيها البلل في يوم يبدو إنه مفرط المزن.
وما أن حطت قدماها شارع المدينة حتى بدأت قطرات المطر تتهاوى فوق رأسها، ثم تتتابع بازدياد ، وبلحظات راح الماء ينهمر بشدة من عمق السماء ، وهي تتوسط الرصيف حاملة مظلتها التي تلوح بها الريح يمينا وشمالا ، المارة يهرولون بحثا عن سقوف يحتجبون تحتها، مثل المظلات و محطات انتظار الباص ،العصافير تختبئ متسابقة الى أعشاشها، تلاميذ يضجون بالضحك وهم يضعون حقائبهم فوق رؤوسهم ،طالبات بزي الثانوية يقهقهن وهن ملتصقات مع بعض يتحاشين البلل.
يبدو أن ضيف السماء "المطر" راح يقصي كل حيوية الشارع ،ويفرغه من دبيب المارة ليتفرد المشهد وحده ،فلم تعد ترى أو تسمع شيئا من حولها غير زخاته المنهالة وهي تعزف على أديم الارض، مع دوي رعد مقبل باتجاه المدينة يتبعه بريق مخيف يشق السماء نصفين من جهة الغرب،بقيت في مكانها دون اختلاج والأشياء من حولها تتطأطأ من شدة المطر ،حتى أخذت موجات الماء المتقاذفة من الرصيف تبلل أطراف معطفها البني وتجري أسفل حذائها المخملي .
ما أجمل منظر الماء وهو ينساب من السماء ،رائحة الارض تختلط مع رائحة أوراق أشجار الشوارع لتبدو كمبخرة زعفران تطيب المكان بعطرها ،صوت المطر المنسرح من الفضاء وهو يمتزج بأصوات مزاريب البيوتات القريبة يبدو كسنفونية عازف وحيد وهو يغازل غربته ،منظر الماء الوافد بخطوط مستقيمة وتغير مساراته الرياح شمالا وجنوبا حتى يصل الارض يبدو كهبات مجانية من الله الى عباده الصالحين ،الفقاعات التي تصيغها قطرات المطر على أسطح الماء في حافات الارصفة تبدو كالدرر وهي تطوف في حلقاتها الفضية.
ما أجمل المدينة وهي تعانق المطر ،الشوارع العطشى فرحة وهي تشرب الماء ،أوراق الاشجار ترقص على أغصانها من شدة فرحتها بالمطر،المارة يتركون أماكنهم وحيدة يحتفي بها غيث السماء.
بقيت في مكانها منتصبة والناس يتكتلون في أطراف الشوارع وتحت مظلات انتظار الباصات ،وهي تسرح بذهنها متأملة غضاضة اللوحة التي يزخرفها الماء على وجه الارض، لوحة تأخذها لزمن الصبا وهي تستذكر عفة الشوارع التي كان يلهو بها الصبية في أيام السعادة.
وبعد ساعة غياثة بالمطر أخفت كل مساعي الأزقة بالحياة ،أخذت الزخات تتضاءل شيئا بعد شيء ليتحول دافق مائها الى قطرات نزيرة تتبعثر فوق رأسها بروية،فتنساب من أعلى مظلتها الى أسفلها لتستقر في أطرافها ثم تسقط على الارض .
، ومع توقف أوتار المطر عن النشيج عمت السكينة في المكان وراح بعض المارة يخرجون رؤوسهم من تحت المسقفات وهم ينظرون الى السماء مغمضين نصف أعينهم وهي تلامس رذاذ المطر .
، تيار خفيف من الهواء البليل يجتاج المكان وهو يرسم أمواجه الوهمية على أسطح أحواض الماء الصامتة في حضن الأرصفة، الأشجار تحرك نهايات أغصانها ، العصافير تنفض أجنحتها من البلل وهي تقضم الاعواد الرطيبة القريبة من أعشاشها ،الشارع يعود ينبض بحركة مارة حذرة مع تحسس لوقع أقدام طفيف هنا وهناك .
إتجهت صوب محطة الباص القريبة منها، يبدو ان المحطة مزدحمة بالناس فهم يتكردسون تحت مسقفتها وحولها ، الناس هنا وكأنهم في عرس، ما أجمل منظرهم وهم متأنقون تحت المطر ، بجلجلتهم وقهقهاتهم التي تعم مسقفة الانتظار ،وقفت وهي تطوي مظلتها باتجاه الارض ،وعلى يمينها رجل سبعيني يضع فوق رأسه كوفية ويرتدي معطفا طويلا وهو ينشغل باشعال السيكار ،مجموعة فتية يحملون حقائبهم على ظهورهم بانتظار الباص للذهاب الى مدرستهم التي تبدو قريبة من المكان.
رجل أربعيني بزي رسمي ،يرتدي ربطة عنق جذابة بألوان فساتين النساء وهو يحمل بيده حقيبة جلدية تبدو من ماركة عالمية فخمة.
سيدتان تتراشقان الحديث وتتبادلان الضحكات وهما بغمرة سعادتهما بعد ان طويتا مظليتهما وبانتظار قدوم مصلحة نقل الركاب .
، وبعد لحظات تضطرب حركة الافراد ، وهم يلملمون أمتعتهم ،وينادون بعضهم، الباص مقبل، الباص مقبل، وما أن وصل الباص وتوقف في محطته، حتى راح الكل يترجل الى داخله بانتظام ،تتقدمهم السيدات ثم الطلاب فالرجال ،وبلحظات أمتلأت المقاعد ،وأفرغت محطة الانتظار إلا منها ، بقيت وحدها مستقيمة في المكان ، والكل ينظر اليها من نوافذ الباص وعيونهم ترصدها،وكأنهم يدعونها للصعود.
ما زالت واقفة دون ان تحرك ساكنا ، وهي ترنو الى حركة الباص الفاترة ،وكأنه يمنحها الفرصة الأخيرة للصعود قبل انطلاقه ، تقدمت نحو الباص، أمسكت بيدها قبضة البوابة ،وما أن حطت قدمها على مسند الصعود حتى انطلق الباص بفضاء الشارع يشق المياه على طرفيه ،توسطت الباص، ألقت بنظرة سريعة داخل باحته، يبدو أن كل المقاعد مشغولة بالركاب وها هو بعضهم يؤثر الوقوف ، مقعد واحد فقط لم يشغله أحد في تلك الزاوية،هذا المقعد وكأنه خصص لها أوهو بانتظارها ،تقدمت نحو المقعد الفارغ ،وضعت يدها فوق المسند العلوي ،وما أن همت بالجلوس حتى ناداها الجميع، لاتجلسي هنا، لاتجلسي، فالنافذة مفتوحة،والهواء البارد ربما سيعرضك للزكام،سائق الباص يوقف سيارته من جديد ويلف نحوها ،قائلا: زجاجة النافذة قد تحطمت بسبب الرياح والمطر ،والهواء البارد سيعرض صحتك للخطر لاسمح الله.
هي: بكل ثقة: رغم ذلك سأجلس هنا ،فانا أحب ان اقسو على نفسي في هذا اليوم الشتائي.
السائق:لك ماتريدين
تحرك الباص من جديد ،سقط نظرها على مرآة المركبة الجانبية يسار السائق ،راحت ترمق اطارات الباص الخلفية التي تظهر في زاوية المرآة العلوية وهي تدور ببطء، ثم تتوقف، ثم تعاود الدوران ،هذه الحركة تذكرها بحركة الايام التي تبدو بطيئة عندنا ولكن نشعر بسرعتها بعد ان تمضي وتأخذ معها كل الفرص الجميلة ،فهي تذهب باشخاص أحباب واشياء عزيزة لن تعود ثانية ، حركة تذكرها بلحظات المسرة التي تمر على الناس كالسحاب ومحطات الاحزان التي تأبى مغادرة النفس حتى في أوقات سعادتها ،تلف الايام كما تلف تلك الاطارات التي لن تعود الى الوراء ثانية ،وأن عادت فإنها تعود باشخاص غير الذين اصطحبتهم معها. راحت تنقل نظراتها مابين رؤوس الاشجار المتساوقة مع حركة المركبة على جانب الطريق الأيسر وما بين إطارات الباص التي تدور ونصفها السفلي منغمس في الماء ، تيار هواء ندي يرشقها من النافذة المفتوحة ويخضل وجنديتها ،الباص يسرع أكثر ومع حركته تشعر بارتجافة بدنها بفعل تدفق الهواءالبارد من النافذة المفتوحة، أخذت تغور في معطفها ،عاودت النظر الى المرآة ،الاطارات تتلاحق من فرط حركة الباص حتى أخذت تغيب عن الرؤية باطراد سرعته ،الاطارات وكأنها تذوب مع اسفلت الطريق ،لم تعد ترى شيئا في المرآة غير سواد الشارع وأشجار تتقافز في عرض الرصيف.



#اسماعيل_موسى_حميدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الراقم 994
- قبر بالتجاوز
- نكات إباحية
- وليال عشر
- علماء مكة
- أعيدوا إلينا الجوامع
- اعادة انتاج العالم
- الحزن بسلوك جمعي
- استثمار واقعة البصرة
- حملات التشويش والتشويه
- رهابر دوائر الدولة
- المنهج الخفي وخطر التسلل الى النفس
- حوريات الاسلام السياسي
- دكاكين الدراسات العليا
- رسالة الى الخليج
- الجندي الذي قاد انقلابا ضد البعثيين
- الصندوق الابيض
- العالم في محجر
- حاشية الظل
- إقالة الطرف الثالث


المزيد.....




- -المخبأ 42-.. متحف ستالين حيث يمكنك تجربة الهجوم النووي على ...
- البعض رأى فيه رسالة مبطنة.. نجم إماراتي يثير جدلا بفيديو من ...
- البحث عن الهوية في روايات القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الأل ...
- -لا تلمسيني-.. تفاعل كبير مع فيديو نيكول كيدمان وهي تدفع سلم ...
- بالمجان.. موسكو تفتح متاحفها ومعارضها أمام الزائرين لمدة أسب ...
- إسرائيل تخالف الرواية الأممية بشأن اقتحام قاعدة لليونيفيل
- فنان مصري مشهور يستغيث بالأزهر
- -حكي القرايا- لرمضان الرواشدة.. تاريخ الأردنيين والروايات ال ...
- أفلام كرتون مميزة طول اليوم.. حدثها الآن تردد قناة ميكي الجد ...
- انطلاق فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان كتارا للرواية العربية ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اسماعيل موسى حميدي - النافذة المفتوحة