ترجمة : عبد الجليل النعيمي
في بداية التسعينات غرقت قوى اليسار في أزمة عميقة. شرارة هذه الأزمة كان انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الحركة الشيوعية العالمية. إلا أن لهذه الأزمة أسبابها الأكثر عمقا. وهي لم تمس الشيوعيين والقوى السياسية المتوافقة مع الاتحاد السوفييتي بهذا القدر أو ذاك فقط، وإنما أيضا قوى الاشتراكية الديمقراطية واليسار الراديكالي التي كانت تقف من الاتحاد السوفييتي موقفا نقديا حادا.
واجهت الأحزاب اليسارية تقلص قاعدتها الاجتماعية التقليدية. فلقد أدت الثورة التكنولوجية إلى انخفاض أعداد العمال الصناعيين وتغير علاقات العمل، وضعفت النقابات. لقد غير انتصار الأيديولوجية الليبرالية الجديدة بشكل حاد طابع النضال السياسي. فإذا كانت القرارات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تتخذ في البلدان الديمقراطية في توافق مع البحث عن حلول مساومة، فبدءا من نهاية السبعينات أخذت الأحزاب اليمينية والقوى الاجتماعية التي تقف وراءها تتخلى عن هذه الممارسة. وحسب تعبير علماء الاجتماع الأمريكيين فقد سيطرت أيديولوجيا عدم التهادن الطبقي على البرجوازية. أما اليساريون في الغرب، فعلى العكس، بدوا بعد سنوات طويلة من ممارسة الحلول التساومية غير قادرين على مواجهة قوى اليمين باستراتيجيتهم الخاصة.
لقد اكتسبت السياسة الاقتصادية لليبرالية الجديدة اسمها العرضي " إجماع واشنطن". ومما له دلالته أن الحديث قد جرى بالفعل حول إجماع مسنود ( طواعية أو بسبب الضغط الخارجي ) من قبل الدوائر الحاكمة في كل البلدان تقريبا. وبقدر ما تزايد انهيار المعنويات لدى اليساريين وقادتهم السياسيين فإنهم بدؤوا أيضا في الالتحاق بـ "إجماع واشنطن". مثل هذا النهج شمل أمورا كالخصخصة واللبررة وتفكيك أشكال الضمان الاجتماعي. وفي جوهر الأمر فقد عنى ذلك عودة العالم برمته إلى أشكال الرأسمالية التي اتسمت بها حقبة الثلث الأول من القرن العشرين، وإلى تدمير كل منظومات ومعايير الحياة الاقتصادية الاجتماعية التي ظهرت بعد تلك الحقبة تحت تأثير الحركة العمالية.
جعل اختفاء الاتحاد السوفييتي من على خارطة العالم الولايات المتحدة الأمريكية القوة العالمية العظمى الوحيدة، مع ما تبع ذلك من فقدان بلدان " العالم الثالث " وحكومات أوربا الغربية استقلاليتها، بعد أن كانت تستفيد من تناقضات القوتين الأعظم لتحقق استراتيجيتها الخاصة.
على أن أزمة اليساريين في بلدان التحالف الشيوعي السابق بدت أكثر عمقا، حيث كان من الطبيعي أن تجري إعادة بعث الرأسمالية هناك في أكثر الأشكال بدائية وتخلفا.بما يتعدى إطار "إجماع واشنطن". وشهدت الفترة ما بين سنوات التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي عكسا في الاتجاهات. وأخذت المصاعب المتزايدة في الاقتصاد العالمي تزرع الشك حتى في أوساط الدوائر الحاكمة في الغرب حول جدوى السياسة التي أعلنها "إجماع واشنطن". فالهيمنة الكونية الأمريكية أخذت تصطدم بمقاومة متعاظمة من قبل أوربا الغربية. أما بروز الصين كقوة آسيوية عظمى فأظهر أن هذه الهيمنة لا تنبسط بذات التجانس على كل مناطق العالم.
لقد اكتسبت نجاحات الاشتراكيين الديمقراطيين في الانتخابات في هذه الفترة طابعا متناقضا. فقد دللت، من جهة، على سعي الناس نحو التغيير، ومن الأخرى، على سلبية وعدم رغبة القادة الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين وصلوا إلى السلطة تحت راية " إجماع واشنطن"، في تحقيق التغيير. وتجسد رد فعل المجتمع الغربي على عجز الاشتراكيين الديمقراطيين عن خوض الصراع ضد النهج الليبرالي الجديد بظهور حركة مناهضي العولمة. وقد ترددت أصداء هذه الحركة في القارة الأمريكية اللاتينية.
وفي الوقت الراهن يمكن الحديث عن انبعاث اليساريين كقوة سياسية. وبالمناسبة فإن الاحتشاد يتشكل بجهة يسار الاشتراكية الديمقراطية ( ويكفي لذلك التذكير بوصول حزب الشغيلة في البرازيل إلى الحكم، فوز الحزب الاشتراكي الراديكالي الاسكتلندي ونجاحات الأحزاب الاشتراكية اليسارية في سكندنافيا).
ومع ذلك تبقى أسئلة كثيرة مفتوحة. فإلى أي بديل يمكن تغيير الليبرالية الجديدة ؟ إنه ليس من الوارد العودة إلى نموذج التوجيه و"الاقتصاد المختلط" بالشكل الذي كان في سنوات الأربعينات. وكذلك بالضبط لا تحظى العودة إلى النموذج السوفييتي بتأييد جماهيري في أوربا الشرقية. ففي جانب اليسار يجري البحث عن ذلك المفهوم الاقتصادي الذي يمكن أن يحتوي على نمط جديد من القطاع العام المستند إلى أشكال ديمقراطية من المشاركة والرقابة وشبكات لآليات التنسيق والتعايش بين الخطة والسوق واستخدام القدرة الاجتماعية الكامنة لتقنية المعلومات .. وما إلى ذلك.
من الجهة الأخرى فإن انحلال "إجماع واشنطن" يترافق مع تزايد متسارع في راديكالية القوى اليمينية ونمو الاتجاهات الشمولية، العنصرية والعسكرية، في ذات الطبقات الحاكمة في البلدان الديمقراطية. وبهذا، فلأول مرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يبرز على المستوى الكوني السؤال حول ضرورة الدفاع عن الديمقراطية ضد الخطر القادم من اليمين.
خصوصية روسيا تكمن في أن ظواهر الأزمات التي حدثت في الجناح اليساري على مدى عقد السنوات المنصرم انعكست هنا بشكل كامل، الأمر الذي لا يمكن قوله فيما يتعلق بالتحولات الإيجابية للسنوات الأخيرة. فالحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية، وهو القوة الكبرى المنظمة المعارضة الوحيدة، ونتيجة لعدد من الأسباب، لم يتقوقع ذاتيا وينعزل عن قوى اليسار العالمية فقط، بل وأنه تطور في الاتجاه المعاكس. وخلال عشر سنوات من عمره تشرب الحزب بأفكار ومزاج التعصب القومي وتعرض لتأثير الإكليريكية. وتحت تأثير الرغبة في لم كل اتجاهات المعارضة على قاعدته ميع الحزب دعاماته البرنامجية الأساسية. وبنتيجة ذلك بدت القاعدة الانتخابية للحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية وقد انحصرت في 20% من السكان - وهم أولئك الناس الذين يصوتون إلى الماركة الحزبية المتأصلة تاريخيا، وليس للبرنامج السياسي الذي طرحه. وقد ركز الحزب حملاته الانتخابية، أكثر ما ركز، في المدن الصغيرة والمناطق القروية وفي أوساط المتقاعدين وذوي التعليم المتدني. ونحن اليوم نشهد نتيجة ذلك أن القاعدة الانتخابية للحزب الشيوعي على النقيض تماما من القاعدة الانتخابية لليسار في أوربا الغربية وأمريكا اللاتينية ( التي يغلب فيها سكان المدن، الشباب، المتعلمون، ذوو الأعمال المستقرة ). إن علم الاجتماع يسجل أن روسيا تشهد منذ بداية هذا العقد حراكا نحو اليسار في قسم من الشرائح الوسطى والشباب والعمال المؤهلين. أما الناخب التقليدي للحزب الشيوعي الروسي ، فعلى العكس، يعرب أكثر فأكثر عن محافظته التي تحوله إلى دعامة محتملة " لحزب السلطة".
ورغم التصريحات المتكررة لقادة الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية حول تجديد وشبيبية الحركة، إلا أن الحزب لحد الآن لم يعجز فقط عن استخدام الحراك نحو اليسار الحاصل في المجتمع لصالحه فقط، وإنما يعرقل هذا الحراك بشكل إرادي أو لا إرادي. إن مستقبل اليساريين في روسيا يعتمد على ما إذا كان سيتم إيجاد أشكال جديدة من العمل السياسي قادرة على التعبير عن الأمزجة المتغيرة في المجتمع وما إذا كان سيبدأ الحزب في النمو، أو أن قوى معارضة أخرى ذات برنامج يساري ستظهر في البلاد.