محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)
الحوار المتمدن-العدد: 8118 - 2024 / 10 / 2 - 22:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1
إنهم يُخرّبون الفكر السليم. ويفخّخون المنطق. ويتسللون للفلسفة ليدمروا روحها النقدية. وليدجّنوا المنتسبين إليها عن حق أو عن ادعاء. يخلقون المؤسسات التي تفكر لكي يخنقوا الفكر. ويعطون المال لكل من يحدثهم في مجالسهم عن سقراط والفارابي والدين الحق السمح الذي لا يقبل العداوة. ومن ثمرة عملهم الاستخباراتي في مجال الفكر محوهم الفرق الجوهري بين الصديق والعدو. حتى لا يتمكن الناس من معرفة من هو العدو ومن هو الصديق. فصار الكيان الصهيوني صديقا. وصار حزب الله عدوا. وصار الغرب صديقا. وصارت الصين عدوة. وصارت الحرب في أوكرانيا اعتداء سافرا على حقوق الإنسان والشعب. وصارت الحرب على غزة ولبنان حقا مشروعا ودفاعا عن النفس. وصار المستوطن في فلسطين مالكا شرعيا للأرض. وصار مالك الأرض الشرعي والتاريخي لاجئا مهددا بالتهجير لبلدان أخرى. لذلك "لا ينبغي محاربة العدو بنفس أسلحته لأن ذلك سيجعلك مثله": ينبغي استعمال أسلحة مغايرة.
2
ما الذي يمكننا فعله مع الذين يعجزون عجزا مرضيا عن التعرف على العدو الفعلي المخيف القوي عسكريا واقتصاديا (الاستعمار، أمريكا، الصهيونية، الأنظمة المحلية المستبدة) والمهدد لوجودنا كجماعة بشرية تطمح للسلم والحياة الكريمة في مجال جغرافي محدد؟ ما الذي يمكن فعله معهم وهم يقضون حياتهم في خلق أعداء وهميين أو الانقضاض على "خصم" ضعيف يحولونه لعدو؟
3
إن درس غزة بليغ أشد البلاغة. لقد أعادنا للأفكار الأساسية: العدو الرئيسي لنا نحن الذين نبعد عن غزة بـ 3923 كلم عن طريق الجو، وبـ 6283 كلم عن طريق البر هو: الكيان الصهيوني الذي يستعمل بكرم لا حد له أمريكا وقدراتها الجبارة. أما العدو الثانوي هو من يوجد بيننا ويدعم هذا الكيان متلاعبا بمعلومات من الماضي، ومداعبا سلطات تمارس دور تنفيذ المهام التي يطلبها منها العدو الرئيسي وحلفاؤه.
4
هذا رجل يمارس مهمة الشيخ المسلم الناصح الهادي... لم تختره أغلبية الناس ليتطوع لهذه المهمة، ولم يوافق على علمه أغلبية أهل العلم... يترك العدو الواضح البارز الذي راكم أربعة عقود أو كثر من الممارسات العدائية والعدوانية والذي هو إسرائيل ومن معها، ويصر على خلق عدو وهمي لاختلافه معه في "طريقة إسلامه"، وطريقة "حكمه"، وطريقة "كتابته لتاريخه". فيلجا للأرشيف ليصنع "عدوا شيعيا" علما بأن الذيم يخاطبهم محصنون "ضد التشيع" منذ قرون، في الوقت الذي يلحقهم الضرر والتفقير والتهديد بسرقة خيرات بلادهم وتسخيرها ضدهم من عدو يقول لهم يوميا: "أنا عدوهم الأعلى".
4
وهذا رجل يمارس مهنة قراءة "مكتوبات" على أنها "وثائق"، كما يرغب وحسب هواه، يعظم هذا المكتوب، ويقلل من شأن هذا المكتوب. يتسلل للأرشيف المغربي ليبحث عن أقوال تدين "شيعة اليوم" بما ارتكبه (افتراضا) أناس "انتموا" لـ"شيعة الأمس"، وهذا يعني أن الخطأ يورّث، وأن الأجداد يدينون بأفعالهم الأحفاد، وأن المواقف والتصرفات السياسية تورث أبا عن جدا، وأن من كان سلفه شريرا فهو بالضرورة شرير. وأن السياسة تمارس بنفس الطريقة وبنفس الأهداف في كل زمان ومكان.
5
صار العدو بدون علامات تميزه كعدو. وجوه العدة تغيرت. لم يعد من السهل التعرف عليه. فهو يرتدي قناع الصديق، ووجه الصالح، المدافع عن الحق، وعن الوطن، وعن الإثنية التي لم تجرأ بعد على تسمية نفسها كذلك. صار العدو هو "إمكانية تحول أي كان إلى عدو" بفعل المال والإغراء والضغط والتهديد والابتزاز. لقد استعملت وسائل كثيرة "لإخفاء هوية العدو". فقد يكون العدو صديقا قديما، وحليفا سابقا، ومناضلا مضحيا، ونقابيا جريئا، ومفكرا مؤثرا، وصحافيا جسورا... صار العدو هو "أكثر الاحتمالات التي تتحقق في حياة فرد معين". سكن العدو المعلومة والمقال والخطاب والشريط. يتمكن اليوم من العبور إلينا من كل سماوات الفكر والإيديولوجية والدين.
6
وهمٌ هوَ عالمٌ بدون حروب. لم يوجد أبدا. الحرب حياة العالم. لأن السياسة هي أرض العداوة والصراع. هما شرطا وجودها. أصدقاء ليسوا إلا أعداء. وأعداء يتصرفون كالأصدقاء. صار تمجيد العدو دليلا على الانحطاط. وانقراض العدو خطر يهدد وجود الصديق. لن نتمكن من معرفة الصديق واختباره إلا بفضل وجود العدو. يختلف العدو عن المنافس الاقتصادي، وعن المختلف ثقافيا، وعن المتبارى معه. العدو هو الذي يستحيل معه إيجاد حل عبر التفاوض والتحكيم والاتفاق. هو الذي يهدد وجودنا. لذلك لا حل معه إلا الحرب. والحرب هي السبيل الوحيد لتحقيق إمكانيات أخرى غير مسلحة في التعامل معه. وستظل الحرب فعلا واقعيا أو إمكانية حقيقية للتنفيذ في قلب كل سياسة.
7
المعنى الحقيقي (التاريخي والفعلي) للسياسة يفضح زيف الأحزاب السياسية التي تؤدي بإتقان "مسرحية" التناوب على السلطة لقيادة "نفس السفينة": سفينة التحكم في الأغلبية المتضررة واقعيا (الشعب). ويفضح كذلك كذب الفرد القائد وضرورته: فالدولة تعلو على الكل. هي فوق الأحزاب وفوق الافراد. مهما علت مناصبهم فيها. فالدولة تضحي بالأشخاص الذين يعرقلون عملها. وتفضح ثالثا زيف الديمقراطية الليبرالية التي تنفي الصراع باسم الديمقراطية لتديم سيطرة وسيادة الأقلية الغنية على الأغلبية الفقيرة. لا يمكن للحق والقانون والليبرالية والديمقراطية وغيرها من الآليات أن تخفي جوهر السياسة: الحرب.
8
صارت دولة الحق مطية لممارسة الاستبداد وزرع الوهم وإدامة الفقر ومراكمة الثروة من طرف الأقلية. الأقلية لا تؤمن بوطن. ولا تنتمي لشعب. الأقلية تعبد المال والسلطة التي تضمن استمرارية استفادتها. لذلك فالنزعة البرلمانية مضيعة للوقت. خصوصا وأن الدول العميلة، دولة تصريف الأعمال (لصالح الغرب) أتقنت التلاعب بحقوق الإنسان ومحاربة الرشوة والمجتمع المدني والحق في المعلومة وكل الآليات الليبرالية التي أتت بها الدولة البرجوازية الغربية: صارت للدولة العميلة منظماتُها الحقوقية، وهيآتُها المحاربة للرشوة، ومجالسُها الساهرة على حقوق الإنسانية، وصحافيوها الذين يضمون نشر الأخبار التي تريد ويضفون عليها الشرعية. صار لها مجتمعها المدني الموازي. الدولة العميلة بدون قيم: فهي تسجن وتقتل باسم الحق والقانون. إنها دولة لا تؤمن بأن الإنسان إنسان. فالإنسان بالنسبة لها هو المنتمي للأقلية الحاكمة والمستفيدة من الحكم، والذين يخدمونها. أما الآخرون فهم مجرد عبيد.
9
النزعة البرلمانية مضيعة للوقت. وهدر لأموال الناس. ووسيلة للإلهاء وتفريخ الفاسدين والمرتشين والمزوّرين والذين لا يحترمون قانونا ولا قيما. أما الأحزاب فقد صارت إما خائنة ومرتشية وخادمة مطيعة لأجندة محددة ومعروفة. وإما ضعيفة ومهمشة تبذل كل ما في وسعها من جهد للبقاء على قيد الحياة مضحية بمناضليها ومباركة أية هبة شعبية (بغض النظر عمن يحركها) وبالتركيز على قيمها المثلى. ما ننساه هو أنه قبل أن يتوجه الشعب عن وعي وبكثافة للانخراط في حزب أو نقابة لا بد أن يجرب التمرد العفوي الجماعي والمكثف الذي يهدد مصالح الرأسماليين وأرباحهم. لا بد أن يمر الشعب وبدون الحاجة لقيادة في هذه المرحلة للاحتجاج العفوي القوي والمؤثر على ميزان القوى. لن يكون للشعب صوت إلا صوته بفضل ضغوطاته العفوية والمهددة لمصالح أعدائه الطبقيين. الحرب الطبقية هي جوهر الصراع الطبقي سابقا وحاليا ومستقبلا.
10
لا تُنتزعُ السلطة بالأفكار. وإنما تُنتزعُ بالأفعال الجماعية للشغيلة والتي تغير موازين القوى. لقد أقفل الغرب الامبريالي في البلدان الغربية كل السبل التي يمكن للمعارضة أن تسلكها للوصول إلى السلطة. ولم يسمح إلا للاشتراكيين الديمقراطيين بالوصول، أحيانا، لمراكز قيادة الدولة لأنهم لا يمسون بمصالح الرأسماليين، بل يبالغون أحيانا في خدمتم بالضغط على الشعب الذي يمثلونه ويقودون نقاباته وجمعياته. وإذا كان وضع المعارضة في الغرب هو هذا الوضع البئيس والمُذل والضار بمصالح الناس فماذا ننتظر من المعارضة عندنا؟ ألا تُستعملُ سوى لضبط التوازنات وإعدادها للزج بها في الصراع لما ينتفض الشعب ضد الجميع؟
#محمد_الهلالي (هاشتاغ)
Mohamed_El_Hilali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟