|
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8115 - 2024 / 9 / 29 - 14:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مثلما فعلها الأديب المصري الراحل، يحي حقي، في رائعته ’قنديل أم هاشم‘ حين ضلل الدهماء والسُذج بإيهامهم أن قطرة العين الطبية التي يعطيها لهم هي نفسها الزيت الوسخ المعتادين عليه تبركاً وشفاءً من قنديل الإضاءة بضريح السيدة زينب، لماذا لا نُعبئ لهم مفاهيم ومبادئ الديمقراطية الحديثة في نفس العادات والتقاليد والممارسات والمؤسسات الدينية القديمة التي يعرفونها ويحبونها ويتبعونها بمحض إرادتهم وكامل حريتهم؟ لماذا لا نَغش عامة العرب، المحافظين والمتدينين بطبعهم، ونسوقهم إلى تَشَرُّب مبادئ الحرية والديمقراطية بينما هم يتصورون أنهم ماضون في الحياة كعادتهم، مُتمسكين بدينهم ومعتقداتهم القديمة والمُجَرَّبة، مُطهرين من كل دَنَس ورجس وفسوق وخُلق غربي ماجن ومُنحل؟ الديمقراطية مؤسسة حديثة عظيمة الأثر في حياة الناس. إذا كانت شعوبنا العربية تقليدية لا تزال في معظمها فقيرة وجاهلة ومُغَيبة الوعي والفهم والشعور، تُحركها وتَحكمها العواطف الجياشة أكثر من العقول الراجحة، لماذا لا نسوقهم من دون علمهم أمامنا عمياناً كالبهائم إلى الحظيرة الديمقراطية، التي بالتأكيد لحظة دخولهم إليها وتذوقهم من أعلافها الدسمة واللذيذة والمبهجة، حتماً سيقبلون بها ويحتضنوها ويضحون من أجلها بأرواحهم كفعلهم الأزلي مع معتقداتهم الدينية المتوارثة؟! ربما الفكرة عاطفية وجميلة وحسنة النية لكنها في الوقت ذاته خاطئة وغير محمودة العواقب، علاوة على أنها تَنُم عن قصور بالغ في فهم الأسس والمنطلقات الفكرية والفلسفية التي يَتَكِئُ عليها كل من الدين والديمقراطية كمؤسستين من صنع البشر لخدمة وإشباع احتياجات مادية ومعنوية بشرية خالصة.
يقوم الدين على فكرة محورية قوامها تمكين أهل السماء من أهل الأرض. ولما كانت المسافة بعيدة والتواصل المباشر مستحيل، كان الوسطاء بين السماء والأرض ضرورة حتمية لا غنى عنها في كل الأديان، منذ آلاف السنين إلى اليوم الحاضر. لماذا قوامة السماء على الأرض؟ ما هي مؤهلات أهل السماء من أجل ادعاء قوامة معرفية ومعنوية يفتقر إليها أهل الأرض؟ ستجد طوفاناً من الإجابات المُقنعة، لكنها جميعاً في الميتافيزيقا، تسبح في عالم غيبي مجهول وبعيد عن إدراكنا- إذا كان له وجود من الأصل- فيما وراء الطبيعية وليس عالمنا الذي نعرفه ونحياه بكل تفاصيله. في قول آخر، الإجابة تأتي من جنس السؤال ذاته، لا تُضيف إلى المعتقد الميتافيزيقي القائم ولا تنتقص منه أي شيء عدا مزيداً من ترسيخه بالحفظ من كثرة التكرار والتلقين؛ كذلك، لا تُضيف مثل هذه الإجابة الميتافيزيقية للواقع البشري ولا تنتقص منه أي شيء، عدا مزيداً من ترسيخ السلطة التي يمارسها وسطاء السماء وكهنة الجواب الميتافيزيقي على زملائهم من سكان الأرض. لغط ميتافيزيقي لتأكيد لغط ميتافيزيقي مثله، لكن ذو تداعيات محسوسة، ومؤلمة غالباً، على أرض الواقع.
الديمقراطية نقيض الدين، قوامها تمكين أهل الأرض ليس من أهل السماء فقط بل من الأكوان كلها بكل ما فيها وما عليها، طالما كان ذلك يخدم أغراضاً ومصالح بشرية معلومة. وبينما يُحول الدين أهل الأرض إلى عبيدٍ قُصَّر طائعين ومأمورين لأهل السماء، الديمقراطية تجعل من الإنسان سيد نفسه أولاً ثم سيداً لكل ما عداه من الأنواع الأخرى فيما بعد، ومن ضمنها المعتقد الديني الذي يستطيع الآن تبديله أو خلعه أو حتى الكُفر به كليتاً دون أن يُزيد ذلك أو يُنقص من إنسانيته الأساسية مثقال ذرةٍ واحدة. بالمختصر المفيد، الديمقراطية تُحرر الإنسان من أي وكل شيء يَعلوه، ليصبح الإنسان بحد ذاته كإنسان الغاية العُليا التي لا يعلوها بعد أي شيء على الإطلاق، لا دين ولا قوم ولا عرق ولا لون بشرة ولا لغة ولا جنس ولا امتياز اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو طبقي أو أي شيء آخر مهما كان.
الآن ننحي جانباً الأسانيد النظرية ونتحول بالتركيز إلى الواقع العملي. في الواقع العملي، قد وجد كلٌ من الدين والديمقراطية لخدمة البشر، حتى رغم ادعاء الدين غير ذلك. لكن عند هذا الحد، سيفترق الاثنان الطريق وسنجد أن كلاً منهما يخدم حقاً الاحتياجات المادية والمعنوية للإنسان، لكن كل واحد على طريقته الخاصة. الدين لا يرى في الإنسان كياناً واحداً موحداً في الروح والبنيان. بل يَشُقه- مع كل الكون- إلى نصفين، ثم يُعلي من قيمة أحدهما على الآخر. من هذا التقسيم الغير حقيقي بين جسد وروح، خير وشر، يمضي بسهولة إلى استنتاجات وعواقب خاطئة وخطيرة في الواقع العملي. على هذه الأساس، يمكن تمييز الكون بين العلوي والسفلي، العالم بين الخير والشر، البشر بين المؤمنين والكافرين، ومن ثم لا يمكن أبداً تصور أن تستقيم أي درجة من العدالة أو المساواة فيما بين أي من هذين القطبين النقيضين. في عالم الإنس، كيف تكون العدالة والمساواة ممكنة، من المنظور الديني، بين هؤلاء الذين أحبهم الله ويبشرهم بجنات الفردوس خالدين فيها أبداً وهؤلاء الذين أبغضهم ويبشرهم بعذاب جهنم وبئس المصير؟! أكثر من ذلك، ستتواصل القسمة لكي تشطر حتى معشر المؤمنين أنفسهم، بين الأخلص والأصدق إيماناً من جهة والمنافقين المتقاعسين ممن يبتغون عرض الحياة الدنيا من الجهة الأخرى. ثم فوق هذه المسطرة، يمكن ترتيب جماعة المؤمنين المخلصة والصادقة الإيمان ذاتها إلى درجات ومراتب وطرق وفرق وطوائف ومذاهب وشيع لا حصر لها، من بينها واحدة فقط هي الصواب، أو الأقرب إلى الصواب، ودونها أقل من ذلك رغم بقاء إيمانهم صحيح وعدم ردتهم إلى الكُفر. لماذا ترتيب البشر بهذا الشكل من الدرك الأسفل إلى ذروةٍ عُليا؟ لأن الله واحد؛ ولأن الله واحد، كلمته واحدة، والطريق إليه واحد.
لكن الله ليس واحدٌ أحدٌ، ولا كلمته واحدةٌ، ولا الطريق إليه واحدٌ، هكذا تقضي الديمقراطية. إذا كان لله وجود حقيقي، فمكانه في ضمير كل إنسان على انفراد وبشكل مختلف عن الآخر؛ كلمة هذا الإنسان الفرد هي ذاتها كلمته، والطريق الذي يختاره هذا الإنسان الفرد هو الطريق الصحيح إلى الله. في قول آخر، الديمقراطية تقطع الطريق على كل من يدعي وساطة بين البشر وآلهتهم وبداعي من ذلك يختص نفسه بسلطة أو امتيازات تفضيلية معينة أعلى منهم. في الديمقراطية لا وساطة بين الإنسان وربه ويستطيع كل فرد مخاطبة ربه مباشرةً إذا شاء، أو عدم مخاطبته على الإطلاق. الإنسان، من منظور الديمقراطية، كلٌ واحدٌ لا يتجزأ ولا يقبل القسمة على اثنين، صوت واحد لكل فرد واحد لا يَزيد أو يَنقص مثقال ذرة عن صوت أي فرد آخر، حتى لو كان هذا الفرد الآخر ملكاً أو قديساً أو مُفتياً.
إن مشكلة الديمقراطية في العالم العربي لا تتعلق بالفقر أو الجهل المستشريان وسط أغلب الشعوب العربية، ولا بعاداتهم وتقاليدهم البالية المنافية للقيم الديمقراطية، ولا بقيمهم الإسلامية البدوية العنيفة والهمجية وغير المتسامحة والمعادية للآخر المختلف. بل هي مشكلة نُخب عربية. منذ فجر التاريخ العربي إلى اليوم، لم تتوفر النخب العربية التي ناصرت أو تبنت مبادئ التسامح والتعددية والعيش المشترك والمُثل الديمقراطية، ولو في أضيق الحدود الممكنة. حتى اليوم، ربما لا يوجد نموذج تعددي ديمقراطي واحد ولو مؤلف من بضع مئات الأفراد فقط عبر كل البلدان العربية لكي تحتذي به وتُقَلِّده بقية مجموعات المجتمع الأقل حظاً في العلم والثراء. المشكلة الحقيقية هي في المفكرين والفلاسفة والفقهاء والحكام العرب على مر التاريخ، الذين دائماً ما ينظرون بتعالي وازدراء ودونية على عامة العرب الأميين والجاهلين. بينما لو تواضع هؤلاء الكُبراء قليلاً وأمعنوا النظر بين أرجلهم، لرأوا بأعينهم أن حتى أحقر العموم العرب وأكثرهم غباوة وجهلاً هو نفسه الأعلم والأدرى بمصلحته ومصالح عياله المعيشية أكثر حتى من أفلاطون وأرسطو وابن رشد. كل ما في الأمر أنه لم يَعثر بعد على نموذج ديمقراطي تعددي يرى فيه فائدة موثوقة له ولعياله لكي يُقلده، كما فعل ويفعل دائماً ويومياً وأبداً في كل مناحي حياته الأخرى ومن ضمنها الدين.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
-
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
-
التناقض بين الديمقراطية والدين
-
كيف أضعنا غزة مجدداً
-
ما هي منزلة المرأة في الإسلام؟
-
محاولة لفهم الدولة
-
مفهوم الدولة ما بين الإرادة والقوة
-
حُلُم الدولة العربية المُجهض
-
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو
-
عبادة المقاومة - حدود حق الدفاع عن النفس
-
تفكيك السلطوية العربية-2
-
تفكيك السلطوية العربية
المزيد.....
-
السعودية.. فيديو يشعل تفاعلا لشخص وما فعله بمكان عام والأمن
...
-
-بلومبيرغ-: شركات العملات المشفرة تبرعت بملايين الدولارات لح
...
-
من هنأ الشرع من القادة العرب بتنصيبه رئيسا لسوريا للمرحلة ال
...
-
-هذه هي المرة الأولى التي ألمس فيها أبي-، شابة فلسطينية تلتق
...
-
حماس تفرج عن المجندة الإسرائيلية آغام بيرغر وسط مشاهد مؤثرة
...
-
تحذيرات من تسرب فيروسات خطيرة من مختبر أبحاث في الكونغو بسبب
...
-
فيروس زيكا يتلاعب بالبيولوجيا البشرية لضمان بقائه!.. كيف يفع
...
-
-متلازمة الجلد المحمّص-.. عواقب التعرض الزائد لمصادر التدفئة
...
-
علماء يعثرون على قيء متحجر من عصر الديناصورات في الدنمارك
-
القمر ليس ميتا! .. دراسة تكشف عن نشاط جيولوجي حديث
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|