أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - محاطون بالشمس ، وعندنا قمر















المزيد.....



محاطون بالشمس ، وعندنا قمر


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 8112 - 2024 / 9 / 26 - 10:04
المحور: الادب والفن
    


من زمان غابر .. من زمان بعيد ، نبع من أعماق الأرض ماء زلال .. نبع قطرة ، قطرة ، وامتزج بلهفة واشتياق ، وراح يشعّ تحت سماء ساطعة كاللازورد . في ذلك المكان الذي يتاخم مدينة غزّة ، بزغت قرية ” النبع ” لتكون تاريخاً من الألفة الصافية ، والوئام ، والانسجام الروحي بين ساكنيها . وقد اصطفّت بيوتها الصغيرة على جانبي درب ترابي ، مغمور بنور الشمس . التزّت تلك البيوت إلى بعضها ، وتشابكت كما لو أنها جدار واحد يحيط بهم . كانوا فلّاحين فقراء ، ولكنهم سعداء في حياتهم البسيطة .
وفي إثر تعاقب الأجيال ، وجد ( بشير ) نفسه في أحد هذه البيوت ، وحيداً ، أقعده الكساح في كرسيّ متحرّك ، وقد فارقه الأهل ، الواحد تلو الآخر ، وهم يودّعون الحياة . بينما غادر شقيقه الأكبر إلى إحدى المدن على الجانب الآخر من البحر ، ليغمر نفسه في الرفاه . كان بيتهم مفتوحاً كالبراري إلى السماء. وعلى الرغم من كونه مقعداً ، كان ( بشير ) شابّاً موفور الصحة ، يطفح وجهه بالبشر ، والغبطة على الدوام .
كل صباح تفتح زوجته باب البيت ، تسحب الستارة السميكة جانباً ، وتقوده على كرسيه المتحرّك إلى الزقاق المجاور لهم ، يتهافت الأطفال نحوه ويقودونه برفق إلى ظلال شرفة دار (فلاح النجّار) . يستريح ، وقد تفتّح وجهه مثل زهرة الصباح ، يتفيأ ظلال هذا البيت حتى تعلو شمس الظهيرة . يمرح من حوله الصبيان في غبطة وانشراح .. يلعبون ، يتخاصمون ، ويأتلفون ، ثم يغرقون بالسكون .
ومن أول النهار ، تنثال التحيات إلى حجره مغرورقة بالنعاس ، وطيلة سحابة اليوم ، ينثر ودّه فوق وجوه الناس ، مردّداً :
– صباح الخيرات.
– أهلاً يا قلبي .
– أهلاً يا ماء عينيّ .
– كيف حالكم ؟ إن مظهر الترحاب الذي كان يبدر منه ، مطيّب في كل الأوقات بعطر روحه الزكي . وفي أعماقه ، ظلّ مولّعاً بحب هؤلاء الناس الذين نشأ وتربّى بينهم ، وهو يشعر بأن أقداراً عجيبة جمعته معهم جمعاً لا فكاك منه .
وحيث تدور مرايا الشمس، يدفع الأطفال بكرسيّه إلى حائط دار (أم صالح ) المقابل لمجلسه . جوار جذع شجرة قديم ممدود على طول الحائط ، يحتشد الأطفال قربه ثم لا يلبثوا حتى يخلون المكان إلى الكبار عند أوبتهم من العمل .
من الصبح حتى آخر المساء ، يرتشف لذّة الزقاق جرعة إثر جرعة. هذا الزقاق الطويل النحيف ، الذي تتلاصق بيوته إلى حد التهامس ، وهي تتوهّج بهدوء تحت الأنوار الساطعة .
يتوقّف الشبّان عنده غالباً ، يودعونه أخبارهم ، ويبثونه أشجانهم .. يتوقفون حياله ويخالطونه بإخلاص متناهٍ ، ومشاعره تفيض في أعماقه .. تفيض فرحاً مثلما تفيض من ألم الشعور بالعوق ، لكنما روحه ، ورغم كل ذلك ، تظل تشع حبوراً ما بين شرفة دار (فلاح النجّار) و جدار منزل (أم صالح ). ويركس قلبه في كوز النشوة طاسة، تمتد إليها أيادي الأطفال الغضّة ، لترشف منها كل حين !..
غبطة سرية تترسّب في أحشائه، تحرك أوتار قلبه ، وتدرس شتات الهموم أنى تشتجر، يتهلل وجهه الصبوح ، وينشرح صدره ، ويصفو مزاجه لمداعبات أصدقائه ، ويرتج جسده النصفي من حين إلى آخر ضاحكاً لمجون النكتة .. ضحكة تنزل هادرة من تفّاحتي خديه حتى أصابعه الممتلئة ، وهي تشير إلى المتحدث العابر ملوحة خلفه بكلمات فاضحة :
– لعنة على قلبك .. لعنة على قلبك !..
يكاد لا يصدّق ما يدور حوله : أن يفعَم وينوَر الزقاق بكل هذا الابتسام الحقيقي الصادق . كان الحب يتفجّر من مكامنه العميقة ويغمرهم . لاحوا جميعاً له كما لو أنهم أخوة .
في آخر المساء ، يلتفّ الأولاد حوله في سكون ، يراقبون جارهم العتّال يغسل قوائم حصان عربته الملوثة بالوحل والأوساخ ، ويرشقه بالماء .. ويظل هو الآخر يراقب ذلك .. يراقبه من غير أن تخالجه في أي وقت من الأوقات فكرة انه بحاجة إلى مثل تلك القوائم !.
وقبيل أن يُرْفَع آذان الغروب ، ينفض الجميع ، ويقود الأطفال كرسيه إلى بيته.. يقودونه وهو في غمرة إحساس بالحرج والتواضع ، إحساس يأسره و يشعره بأنه سيبقى محمولاً على محفّة الدلال والتبجيل ، فيغمض عينيه ويعضّ على شفته . وطوال تلك الأيام لم يكن يتذمّر من شيء .
في الآونة الأخيرة ، صارت ترده رسائل شقيقه من بلاد الغربة .. تصل تباعا ، ملفّعة بحرير الأحلام . يجلس أصحابه على جذع الشجرة يطالعونها بتمعّن ، ويحسدونه علناً على هذا الفضل واللطف .
عرض عليه أخوه ، أن يأخذه إلى تلك البلاد السعيدة ، وهو يجزم له بأنه سينعم بحياة طيبة هناك ؛ ليس هذا وحسب ، بل أخذ عهد على نفسه بأن يصنع له ساقين طبيتين يتنقّل بهما مثل كل إنسان معافى !..
قرأ ما كتب له أخوه بسرور غامر، وهو يشكره في كل مرّة ، بينما أصحابه كانوا يحثّونه ، ويحفزونه للاستجابة إلى هذه النعمة ، غير انه يرفض في نهاية المطاف . وكلما ألحّ عليه أخوه ، كثر لوم أصحابه ، يروح يرفض بإصرار لا يريم . لقد جعله حُسن ألفته متمسّكاً بذلك المكان ، وشاهد بأم عينيه كيف هبّ الجميع لمساعدته في إعادة بناء منزله . وكن جاراته الطيّبات يخبرنه دائماً قائلات له : ــ إن الناس للناس ، وإن المرء لا تنال منه الصعاب ما دام بين أهله وجيرانه . كان أعجز من أن يفارق هؤلاء الأصدقاء الذين يفيضون عليه أروع حكايات السمر ، أو يفارق هؤلاء الأولاد الصغار الذين يسبغون على الزقاق الحياة والمتعة ، و من دونهم سيغدو الزقاق مكاناً موحشاً . كان لتلك القرية نكهتها مثلما يحمل كل موضع جميل نكهته الخاصّة بين دفتيه .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
قبل سنوات خلت ، كانت مستعمرات الصهاينة بعيدة عن قرية ( النبع ) ، بل كانت بعيدة حتّى عن قرية ( هلال ) ، التي تبعد عنهم ما يقرب من ثلاثين ميلاً ، من جهة الشمال ؛ أمّا اليوم ، فقد باتوا على مقربة من تلك المستعمرات ، التي التهمت الأرض الفلسطينية تباعاً ، وأمحت ذكر قرية ( هلال ) هي الأخرى .
في مُستَهَلّ صباح من صباحات صيف عام 2002 ، فزّ ( بشير ) وزوجته من نومهما في رهبة وتوجّس . إثر تناهي أصوات صاخبة إلى مسامعهما ، وقد خالط ذلك إطلاق عيارات نارية متفرّقة . أسرعت زوجة بشير لتفتح باب الدار ، وتلقي نظرة عبر الزقاق ، لترى الزقاق فارغاً ، موحشاً ، وغارقاً في السكون ؛ كانت تلك الأصوات جميعها ، تنهال على مسامعهما قادمة من جهة ساحة سوق القرية . عادت المرأة خائفة ، لتخبر ( بشير ) قائلة : ــ سأذهب لأرى ما يحدث . ــ لا يصحّ أن تذهبي بمفردك ، انتظري قليلاً ، سيأتي من يخبرنا بما يجري . وبينما هما يتخبّطان في حديثهما المضطرب ، وأفكارهما الحائرة ، التقطت أذناهما أصوات أناس مسرعين عبر الزقاق ، لتهرع زوجته ، وترمي بناظريها يميناً وشمالاً ، وهي تهيب بأحدهم ، وتوقفه متسائلة : ــ يا أخ ، قلْ لي ما الذي يجري في القرية ؟ ــ سارعوا لحمل أمتعتكم ، وأخرجوا معنا على جناح السرعة ، سنرحل إلى ( غزّة ) ، جنود الصهاينة طردونا ، وأمرونا بالرحيل .
وبعد ساعات معدودات ، امتدّ شريط أسود الملامح ، على طول الدرب الترابي ، وهو يخطو بخطوات كليلة ، وحزينة ، مغادراً أرض ( النبع ) ، فيما كانت بعض الطلقات النارية الطائشة تمرّ من فوق رؤوسهم ، بما يشبه الوداع المهين . وفي جرّار زراعي قديم ، مكشوف ، مشحون بالأمتعة والأطفال ، والنساء ، كان ( بشير ) يجلس متهالكاً في ركنه القصي ، وقد تغيّرت سحنته تغيّراً غريباً ، وغاض اللون الأحمر الذي تشرّبت به وجنتاه . كان صامتاً صمتاً مطبقاً ، وقد استبدّ به غضب عظيم ، وما فتئ يغالب انسكاب دموعه . وحين يرفع بصره ، وينظر في وجوه النسوة والأطفال الذين اكتست رموش عيونهم الجميلة بالغبار ، كان يرى في منتهى الوضوح معاني الإذلال مطبوعة ؛ وما يلبث أن يمدّ بصره إلى الخط البشري ، الذي يمضي في إثرهم ، فلا يرى سوى أناس غُلِبَ على أمرهم ، ولا من ناصر لهم ، كان يلقي عليهم نظرات تذوب في حرارة الحسرات ، وكانوا جميعاً منهوكي القوى . عند الغسق ، أخذ يطيل النظر إلى الأطفال ، المقرفصين جوار أمهاتهم ، وقد غلبهم الجوع والتعب ؛ بدت عيونهم كالنجوم تومض وتنطفئ ، كانوا متشابهين مثل سرب عصافير مهاجرة . كانت ملامحه الحردة مثقلة بأوجاع تسحقه سحقاً . ظلّ طوال الدرب ، يتساءل عن عدالة ، وحكمة الإنجيل والتوراة ، التي يتشدّق بها هؤلاء اللصوص الغرباء . كان متأكّداً من أن حصافة شيوخ القرية ، ونفاذ بصيرتهم ، هي التي حالت دون سفك الدماء ، أثناء طردهم من أرضهم ، سيّما وأن الصهاينة كانوا قد تجهّزوا لهذا الأمر بعدّة رهيبة ، وكانوا على أهبة الاستعداد لارتكاب جرائمهم ، فهؤلاء الخبثاء لا يتورّعون عن القتل .
عند الظهيرة ، حيث اشتدّ عليهم الجوع والألم ، لم يعد أحد منهم قادراً على الكلام ، كانوا ينظرون في تعب من حولهم وحسب ، ويتحدّثون عبر الإشارات لا غير ، إنهم يفهمون بعضهم بعضاً . حين يعلق نظر( بشير ) بعيني امرأة من تلك النسوة التي تحملهن العربة ، كانت ، غالباً ما تنهمر دموعها وتأخذ بالنواح ، فيتفجّر في صدره الكدر سريعاً ، ولكنه يمسك عن البكاء .
حينما أخذ موكبهم يعبر متغلغلاً في دروب مخيمات ( غزّة ) ، تم توجيههم صوب مخيم الشاطئ ؛ وهناك وجدوا ألوفاً مؤلفة من المهجّرين ، والمبعدين عن ديارهم ، كان المخيم يمتلئ بهم ويفيض . فلسطينيون مثلهم ، اغتصب العدو أراضيهم عنوة ، وطردهم إلى مدينة ( غزّة ) ، وهو يلجأ إلى العنت والقسوة في مواجهة كل من يرفض التسليم بالأمر . دخلوا إلى ذلك المخيّم بوجوههم الريفية الثقيلة ، وكلماتهم المخنوقة . وفي غمرة ذلك ، سمع ( بشير ) الكثير من الحكايات المرّة والقصص المؤلمة التي رويت عن أفعال الصهاينة ، وأدرك أن ما حدث مع أبناء قريته كان أمراً هيّناً إزاء الأهوال والمصائب ، التي تعرّض لها المهجّرين . وفي هذا المخيّم ، قادته زوجته إلى حجرة مظلمة ، صغيرة جداً ، في إحدى الزوايا ، وقد افترشوا الأرض فوق قطعة لبّاد بالية لا غير .
تتلبّد سماء المخيّمات بسحب الفاقة والحرمان ، ويعمّ الشقاء بين ساكنيه ، ويرتسم الكدر على وجوه الجميع . وطوال إقامة ( بشير ) في مخيّم الشاطئ كابد وعانى من شظف العيش ، كان أكثر عوزاً من أي وقت مضى ، على الرغم من عطف وحدب أبناء قريته عليه . كانوا جميعاً ، يعانون مثله من ضيق الحياة ، إلّا أنهم لم يتركوه فريسة بين براثن الجوع ، ومع ذلك ، فقد اضطرّ ( بشير ) في نهاية المطاف أن يجيز لزوجته العمل في تنظيف أحد مراكز الصليب الأحمر بأجر زهيد .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
يبدو أن أشياء كثيرة ، في مخيم الشاطئ ، قد فعلت فعلها ، وغيّرت عقل ونفسية ( بشير ) ، إذ لم يعد يحبّذ التسكّع والتفيؤ تحت ظلال جدران البيوت ؛ التي وجد فيها مضيعة للوقت ، وضرباً من التفاهة . راح الكثير من النجوى يهزّ ضميره . لم يهن عليه أن يرى صحبه ، وأبناء وطنه ممن حوله مهدوري الكرامة ، ومطرودين من ديارهم ، وهائمين على وجوههم في هذا المكان وذاك . كان الكثير من هذا العذاب يثير فيه الحماس ومكامن الثورة ، التي نمت في أعماقه يوماً بعد يوم . كان يحلم بأن يعدّ الجميع عدّتهم ، ويحملوا السلاح ، وهو يستشيط غضباً من عدم مقدرته على النهوض والوقوف مثل الآخرين ؛ كان راغباً أن يغدو مقاتلاً ضد الأعداء ، وهذا ما صار يجيش في صدره . ــ كيف تسوّل لنا نفوسنا السكوت عن نهب أرضنا ، وطردنا منها ؟ . أخذ يصدم كل محدّثيه بهذا السؤال ، بمناسبة أو أخرى . وحينما يجلس إلى جنب أحد المقاتلين من أبناء الفصائل المسلّحة ، كان يهتزّ منفعلاً . وما أن يسهب في الحديث عن أحوالهم حتّى ينتفض غضباً ، ويظلّ يشتم ، ويلعن ، و اللعاب يتطاير من بين شفتيه الشاحبتين . وإذا سأله أحدهم ” ما أنتم فاعلون ؟ ” كان يصيح بأعلى صوته : ــ علينا أن نعود لديارنا . وفي أعقاب مرور وقت من الزمن ، أُتيح له أن يتعرّف إلى أحد المقاتلين ، وسرعان ما توثّقت بينهما عرى الصداقة ، واطمئن أحدهما إلى جانب الآخر وسكن ، وباتا صديقين ودودين . تكاشفا في كثير من الأمور ، وأعلن له ( بشير ) عن رغبته الجارفة في خدمة المقاومة والعمل في صفوفها . ــ ولكنك رجل كسيح يا صديقي ؟ . ــ تحت الأرض لا أعتقد أنني بحاجة إلى قدمين ، سأجلس ، وأعمل بيدين سليمتين كل ما تطلبونه مني . ــ ولكن هناك رجال أصحّاء ، يؤدون واجبهم على أكمل وجه . ــ إذا لم أكن بينهم ما عساي أن أفعل ! .
على الرغم مّما كان فيه ، فإنه لم يعد كئيباً ، باكياً ، بل تحوّل إلى شخص هادئ الطباع ، ولم يعد ضائعاً بين خيام المهجّرين ، كانت عيناه تبتسمان ، وظلّت بقايا المرح عالقة في روحه . كان الرجل يشفق على ( بشير ) ، ويرأف لحاله ، وجاهد في سبيل تطمين حماسه واندفاعه الوثّاب ، وحاول أن يصرف ذهنه عن هذه الفكرة مراراً ، ولكن أنّى يكون له هذا الأمر ، وينجح في مسعاه إزاء الرغبة الجامحة التي استقرّت عميقاً في كيان ( بشير ) ، حتّى حار بأمره . ــ هلْ يريحك أن يبعد طير عن سربه ؟ أرجوك ، خذني إليهم اليوم قبل الغد . ــ ليس الأمر بيدي ، ولا حيلة لي في ذلك ، ولكنني سأعرض أمرك على أحد المسؤولين في أقرب فرصة سانحة . ــ هل تعدني بفعل ذلك ؟ . ــ أعدك .. أقام الرجل طوال أيام مفكّراً في ما ينبغي عمله إزاء تلك الرغبة المحرجة . كان يتردّد في عمل شيء كهذا ، ويعزف عن طرح مثل هذه الرغبة على مسامع رؤسائه ، لعلمه بعدم موافقتهم على اصطحاب رجل كسيح ، هو في أمسّ الحاجة إلى من يرعاه ويعتني بشأنه . كان( بشير ) يتحرّق شوقاً لسماع جواب يشفي غليله ، بينما كان الرجل يلوذ بالصمت ، متهرّباً من أسئلته اللحوح . وغالباً ما يتمسّك هذا الرجل بخيوط الصمت ، ولا يجرؤ على الكلام أثناء لقاءاتهما ، متعثّراً في حديثه ، بل إنه لا ينتهي إلى قول شيء في الواقع . كان يريد من ( بشير ) أن ينشغل في أمور حياته وحسب ، لأنه يدرك أن ما من أحد يمكن أن يوافق على طلبه ، ولكنّه يشقّ عليه أن يسرّ إليه هذه الحقيقة ! .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
في اليوم التاسع من أكتوبر ، ثارت ( غزّة ) ، وهاجم رجال المقاومة الصهاينة في عقر مستوطناتهم ، واندلعت حرب طاحنة ، لا زال أوارها يضطرم حتّى اليوم . شبّ لهيب تلك الحرب بين جوانح ( بشير ) ، الذي التهبت مشاعره ، وغمره طوفانها ، ولم يعد نهاره نهار ، ولا ليله ليل ، سيّما وإن جحيم الطائرات الحربية للعدو ينصبّ من حول مخيّمه في كل الأوقات . وكان يجلس بروح منكسرة ، وهو يلوذ بالصمت . توقّف صديقه عن زيارته ، وغاب عنه شهوراً متواصلة ؛ كان ( بشير ) خلالها يدرك أن الرجل منهمك في مقاتلة العدو . ولكن في أعقاب تلك المدّة الطويلة ، زاره صديقه فجأة ، ليزفّ له البشارة قائلاً : ــ اليوم ، أستطيع أن أصطحبك معي . جشّ صوت ( بشير ) ، ودمعت عيناه ، أراد أن يفضي بالكثير مّما نبع في قلبه ، إلّا أنه لم يفلح سوى أن يقول : ــ الآن تحرّرت من عذاب ضميري . وانحسرت عن عينه نظرة العَجَز والحزن ، وانسلّ عنه همٌ ثقيل ، وهو لا يستطيع أن يصدّق أنه سيعمل بين الرجال المقاومين ، رمى نفسه ، في غمرة انفعاله ، بين أحضان الرجل . وفي ذلك اليوم حملوا ( بشير ) ، وأنزلوه في أحد الأنفاق ، ليجلس يعمل مع الكثير من الشباب ، في تهيئة المقذوفات النارية للمقاتلين ، ووجهه يطفح بالبشر والسرور . لقد ابتسم له الحظ أخيراً ، حين حملوه أيقن بأن السماء أرسلت إليه جنود الرحمة . كان منظره ، وهم يحملونه ، يهزّ المشاعر ، وهو في أوجّ البشاشة والحبور . ما كاد يجلس ، وينظر من حوله ، حتّى أشرق وجهه بابتسامته السمحاء . كان ما أن يرفع أنظاره ويحدّق في وجوه أولئك الشبّان تبدو له وجوههم المجلّلة بالعرق عظيمة ومقدّسة . وأخذ نور عميق ينبعث من أعماقه ويضيء وجهه . أحسّ بالسكينة والانفراج ، كما لو أنه ألقى بجنبه على مهاد الراحة والدعة . وفي ذلك النفق الغائر في قلب الأرض ، كان ( بشير ) يشعر بأن الشمس تحيط بهم ، والقمر فوق رؤوسهم يسكب عليهم خيوط الفضة ، التي تتغلّغل إلى قلبه ، باردة ، عذبة ، فيشعر بنفسه حيّاً ، مباركاً بين الأحياء . وهنا فقط تأكّد له بأنه لم يعد كسيحاً .



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإبداع الجغرافي في قصص جاك لندن
- آيسبيرج سليم ( ١٩١٨ ١٩& ...
- الخيال الحضري وأدب الشوارع
- فضاء السجن في رواية لا رياح ولا مطر لمحمود يعقوب
- كوبو آبي في رواية ( المعلّب )
- ( جواد طليق في سهوب الشعر ) مع الشاعر العراقي الخلّاق جواد غ ...
- محاسن الذكريات في النص السردي رواية - الطريق الذاهب شرقا - ل ...
- ( أتفهمني ؟ ) ـ قصة قصيرة
- حاملة الرسالة ــ قصة قصيرة
- قراءة كاثوليكية لرواية ( الأبله الرائع ) .
- عبد الرزاق قرنح ، الذهب الأسود
- دانيال خارمس ـ عبقري الهذيان . محمود يعقوب
- حكاية هاروكي موراكامي مع جائزة نوبل
- ( مِستَر 5 ٪ ) قصة قصيرة محمود يعقوب
- الساموراي والمثلية الجنسية محمود يعقوب .
- من طعن - ابن المقفّع - ، كليلة أم دمنة ؟ قصة قصيرة محمود يعق ...
- هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره . محمود يعقوب
- أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق . قصة قصيرة
- المزامير قصة قصيرة
- الحذاء


المزيد.....




- قائد الثورة الإسلامية آية الله خامنئي مغردا باللغة العبرية ع ...
- مسلسل تل الرياح الحلقة 145 مترجمة بجودة عالية hd على قناة كا ...
- قيامة عثمان.. استقبل الآن تردد قناة الفجر الجزائرية أقوى الم ...
- ايران تنتج فيلما سينمائيا عن حياة الشهيد يحيى السنوار
- كاتبة -بنت أبويا- ستصبح عروس قريبا.. الشاعرة منة القيعي تعلن ...
- محمد طرزي: أحوال لبنان سبب فوزي بجائزة كتارا للرواية العربية ...
- طبيب إسرائيلي شرّح جثمان السنوار يكشف تفاصيل -وحشية- عن طريق ...
- الفن في مواجهة التطرف.. صناع المسرح يتعرضون لهجوم من اليمين ...
- عائشة القذافي تخص روسيا بفعالية فنية -تجعل القلوب تنبض بشكل ...
- بوتين يتحدث عن أهمية السينما الهندية


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - محاطون بالشمس ، وعندنا قمر