أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة















المزيد.....


الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 8110 - 2024 / 9 / 24 - 18:15
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تتبنى أية حضارة كانت قديمة أم جديدة رؤيتها عن حياة الآخرة في محاولة الإجابة على ذلك السؤال "ما الذي يحدث بعد الموت ؟" . وقد كانت بلاد فارس القديمة مهتمة لهذا الأمر مثل أي حضارة أخرى في التاريخ ؛ ذلك عندما قدمت واحدة من أكثر الإجابات تشويقاً وتعاطفاً لهذا السؤال .
إن التفكير البشري بالموت لا يتجلّى في كتب الدين فحسب؛ بل وفي أرقى الأعمال الأدبية أيضاً . فملحمة گلگامش الرافدينية على سبيل المثال؛ تعتبر أقدم ملحمة في العالم تركز على إيجاد تفسير للحياة في مواجهة الموت المحتم . وتناولت باقي الأعمال منذ ذلك الحين مؤلفات لا حصر لها تحمل ذات المعنى .
قصة هاملت للروائي ويليام شكسپير تلخص هذا الاهتمام عند تلك العبارة:" البلاد غير المكتشفة التي لا يعود منها أي مهاجر، تحيّرالنفس " (الفصل الثالث ص 79-80). غير أن هاملت وبكل بساطة كان من بين المتحدثين الأكثر بلاغة الذين قدمّوا ذلك الوصف لما يمكن اعتباره أنه الشغل الشاغل الأساسي لدى البشر . كما إن حتمية الموت في تحديد الحياة البشرية وما يحدث بعدها قد ألهم العديد من الأفكار المتنوعة عن الآخرة؛ ابتداءً من حقل القصب المصري القديم إلى الجحيم اليوناني ،وانتهاءً بالمسميّات المعروفة "الجنّة والنار". ورغم من أن المفهومين الأخيرين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالمسيحية والإسلام في العصر الحديث؛ إلا أنهما في الواقع ابتكار فارسي قديم ساهم إلى جانب تأثير الثقافات الأخرى في تصوّرعقيدة الديانتين . كما أضاف الفرس أيضاً مفهوم "المَطْهَر ـ همستگان" في زمن سابق من عقيدتهم ؛ وهو مكان لأرواح أولئك الذين تساوت أعمالهم الصالحة مع أعمالهم السيئة ؛ حيث تبقى على حالة الحياد أو التوازن حتى نهاية الزمان عندما تتحد مع الإله أهورا مزدا .
كان المفهوم الفارسي المبكر لحياة الآخرة مشابهاً لمفهوم بلاد الرافدين "أرض مظلمة وعالم كئيب مليء بالخمول والبؤس " ولكن هذا المفهوم كان يتم مراجعته وتنقيحه باستمرار، مما يدفع بموت الشخص إلى لحظة أما من الفرح والسرور والسعادة ، أو اليأس والخذلان والفشل، وفي النهاية يأتي بتفسير لمعنى حياة الإنسان وما ينتظره ما بعد الموت .

الآلهة والأرواح والموت
جاءت ديانة الفرس القدماء إلى إيران مع هجرتهم من منطقة إيران الكبرى (القوقاز وآسيا الوسطى وجنوب آسيا وغرب آسيا) في فترة حوالي الألفية الثالثة قبل الميلاد؛ حيث لا أحد يعرف ممن كانت تتألف ديانتهم الأصلية، ولكن يُعتقد أنها تأثرت آنذاك بالعيلاميين وشعب "سوسيانا"( الاسم مشتق من سوسه عاصمة عيلام) الذين كانوا لديهم استقرار فاعل في المنطقة.
كانت مفاهيم الدين القديمة تتناقل شفهياً جيل بعد جيل ، واستمرت هكذا حتى مع تطورها. وكان كل ما معروف عنها جاء من نصوص لاحقة دوّنت بعد قيام الكاهن زرادشت (حوالي عام 1500-1000 قبل الميلاد) بإصلاحها بشكل كبير. لذا من الصعب معرفة ما يخص العقائد التي كانت قبل الزرادشتية، ولكن بشكل عام قدمت لنا المؤلفات الزرادشتية أمثال؛ الـ أڤستا ، الـ ڤنديداد ، الـ دينكرد، والـ بندهشن ( أول الخلق) فكرة واضحة عندما أشارت إلى جملة من المفاهيم القديمة. ومع ذلك، يبدو أن بعض المعتقدات التي ظهرت بعد الزرادشتية قد تم تصنيفها من الأفكار القديمة ، ولا توجد طريقة لمعرفة ما حلّت محله تلك الأفكار .
كانت الديانة الفارسية في البداية ديانة متعددة الآلهة، ولديها مجموعة من الآلهة يقودها إله واحد قوي وهو أهورا مزدا. وهذه المجموعة تتبنى معالجة مختلف المخاوف مثل أية ديانة أخرى متعددة الآلهة ، حيث كانت هناك آلهة متنوعة لديها مهام محددة . فقد كان مثرا على سبيل المثال وليس الحصر؛ إله شروق الشمس والعهود والعقود ، كما أشرف على التغيير المنظّم للفصول ، وحافظ على النظام الكوني، وكان مسؤولاً عن منح النعمة الإلهية للملوك وإضفاء الشرعية لحكمهم . وباعتباره حامياً للمؤمنين، كان المحاربون أيضاً يبتهلون إليه قبل كل معركة ، وبالتالي أصبح معروف باسم إله الحرب . أمّا الإلهة أناهيتا ( بمعنى ـ الطاهرة) فقد كانت تُعرف أيضاً باسم "أردڤي سورا أناهيتا ـ بمعنى المياه الجبّارة الطاهرة ـ في الأڤستا"، وكذلك بأسماء "أناهيد" و"أناهيت" و"أناتيس". وهي إلهة الخصوبة والماء والصحة والشفاء والحكمة عند الفرس القدماء . وبسبب مهامها بخصائص منح الحياة؛ ارتبطت أيضاً بالحروب الفارسية القديمة ؛حيث كان المحاربون يتوسلّون إليها من أجل بقائهم أحياء قبل المعارك . بالإضافة إلى ذلك ؛ فقد كان العالم مليء بالأرواح الخيرة والشريرة، وكانت هناك كائنات غير طبيعية مثل؛ الپري (الجّن) أو العفاريت التي يمكنها التأثير على العقل والسلوك البشري .
كان وجود آلهة البانثيون الفارسي يهدف إلى رعاية وحماية البشر من تهديدات الكائنات الشريرة (عُرفت فيما بعد باسم الديڤيات) التي كان يقودها الإله الشرّير أنگرا ماينيو( أهريمان) ، وهو من ألد أعداء أهورا مزدا والآلهة الآخرين؛ إلا أنه والديڤيات معه لم يتمكنوا من تدمير المخطط العظيم للآلهة، ولم يكن بوسعهم سوى تعطيل نواحي الخلق عند كل منعطف، ولكن في نهاية الأمر كان أهورا مزدا يسخّر جميع قدراته ضد أي تخريب وتعزيزه إلى محتوى إيجابي .
عندما خلق أهورا مزدا الثور البدائي الأول الجميل" گاو ایوداد"؛ قتله أنگرا ماينيو. ثم حمل أهورا مزدا جثة گاو ایوداد إلى القمر، حيث تمّ تطهيرها، ومن البذور الطاهرة خلق جميع الحيوانات. وبذلك فقد حوّل أهورا مزدا سلوك الشرير أنگرا ماينيو السلبي إلى مظهر إيجابي . بعد ذلك خلق أهورا مزدا الإنسان الأول "کیومرث" (و يُعرف أيضاً باسم كيومرس) الذي كان وسيماً ، فقتله أنگرا ماينيو بسرعة أيضاً ، إلاّ أن الشمس هنا تقوم بدورها في تطهير بذرة کیومرث. ومن بذرته الطاهرة ولد أول الأزواج "ماشيا" و" ماشياناگ "الذَين عاشا في عالم النور أو الفضيلة مع إلههم وجميع مخلوقات الطبيعة؛ غير أن أنگرا ماينيو قد تدّخل هنا مرة أخرى عندما ظهر وأخذ يوسوس لهما بالأكاذيب ، ويخبرهم في أن خالقهم أهورا مزدا إله محتال وعدوّ لهما ؛ فصدّقا أكاذيبه ، وبالتالي تم طردهما من مسكنهما .
في هذه اللحظة دخل الموت إلى عالم الأحياء وأصبح هناك أجل محدد للحياة . بغضون ذلك كان أهورا مزدا قد صنع النار في آخر مرحلة من مراحل الخلق ، ولكن مع تدّخلات أنگرا ماينيو والطبيعة البشرية المتباينة ، كان ولابدّ من خلق آلهة جديدة لمساعدة البشر في حياتهم ، وخاصة في اختياراتهم الحاسمة باتباع طريق أهورا مزدا أو طريق أنگرا ماينيو، لأن هذا الاختيار سيحدد مصير كل شخص في الحياة والموت . وبذلك فقد منح البشرية معنى متكاملاً للحياة؛ يمكن للإنسان أن يعيش صالحاً وهو يكافح من أجل الخير ، أو سيئاً يماطل بقسوة من أجل الشر ودوافعه.

حياة الآخرة في الفترة الفارسية المبكرة
في العقيدة الفارسية القديمة عندما يموت الشخص تبقى روحه بالقرب من جسده مدة ثلاثة أيام قبل مغادرتها إلى أرض الموتى تحت الأرض . وكانت أرض الموتى مظلمة ، تشبه الوصف الرافديني لمملكة إرشكيگال (ملكة الموتى)، حيث تتجول الأرواح في غسق أبدي مظلم . أما في الوصف الفارسي، كانت هذه الأرض يحكمها الملك "ييما" في الـ أڤستا (ويُطلق عليه أيضاً ياما ، أو جمشيد في الأساطير اللاحقة)؛ أول ملك لهذه الأرض . ورغماً من أنه كان مُفضلّاً من قبل الآلهة في البداية، إلا أنه أخطأ من خلال خداع أنگرا ماينيو له وسقوطه في حبائله. وهو مشابه لإرشكيگال في المهام من خلال حصر الموتى في أرضه والأحياء في خارجها.
كما هو الحال في سلوك المعتقدات الأخرى، فإن استمرار بقاء أرواح هؤلاء الموتى يعتمد بالكامل على الصلوات واستذكارها باستمرار من قبل الأحياء . حيث يقضي ذوو المتوفى الأيام الثلاثة الأولى بعد موته في الصلاة والصيام ؛لأن هذا كان يعتبر أخطر وقت على الروح؛ كونها مشوّشة وعرضة لهجوم الديڤيات. وقد طُوّرت الطقوس التي تعرف باسم " لمحة الكلب"؛ من خلال إحضار كلب إلى موضع الجثّة لطرد الديڤيات. وقد كانت الكلاب تعتبر أفضل وسيلة دفاع ضدها؛ لأنها يمكن أن تُبصر ما لا يستطيع البشر إدراكه، وكان يُعتقد أن نباحها يجعل هذه الديڤيات تهرب. ويتم إحضار الكلب لـ ثلاث مرات، وإذا تردد في أي مرّة أو بدا غير راغب في النباح ، فهذا يعني أنه لم يطرد الديڤيات . وقد يتم اصطحابه ما يصل إلى تسع مرات حتى يُعتقد أن الروح قد رحلت ويمكن تحضير الجثة للدفن .
كان الشخص الميت يُدفن مباشرة ، أو ( وهو الأمر الأكثر شيوعاً) توضع جثته على ما يشبه المنصّة الخارجية يشار إليها الآن باسم " برج الصمت ـ دخمه في الـ أڤستا" ؛ حيث كان يتم تنظيف ( نهش) الجثة من قبل الطيور والحشرات وغيرها من الأحياء ؛ وبمجرد الانتهاء من ذلك، يتم دفن الرفاة المتبقي . وفي لحظة تأدية مراسيم دفن الجثة من قبل عائلة المتوفى؛ فإن روحه تقوم بالتجوال في عالم ييما. وهنا نجد بعض الافتقار إلى الوضوح بشأن توقيت حدوث تلك المرحلة المتقدمة !!.. إذ في مرحلة ما، كان يتعين على الروح عبور نهر مظلم بالقارب (وهو ما يُعرف باسم المعبر الفاصل)، حيث يتم فصل الأرواح الخيّرة عن الأرواح الشريرة وتحديد أماكنها. ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد قد يحدث عندما يصل الموتى لأول مرة من الحياة، بعد ذلك يفصلهم المعبر عن أرض الأحياء ومن ثم جلبهم إلى أرض ييما .
ربما كان المعبر عائداً لـ مثرا الذي له دور فيه باعتباره إلهاً للعهد؛ حيث كان المفهوم أن الروح لديها عقداً مع خالقها (أهورا مزدا)، وإذا كانت قد حافظت على هذا العقد بحياة صالحة، فإنها ستُكافأ؛ وإلاّ فستعاقب على اتباعها طريق أنگرا ماينيو. وهناك إشارة إلى مثرا وهو يحمل الميزان الذي يوزن فيه أعمال الشخص الصالحة والسيئة ، ثم يُكافأ الشخص أو يُعاقب وفق ذلك. وربما يشارك كلاً من الملائكة "راشنو" (قاضي الموتى لاحقاً) و"سوروش" (الملاك الحارس) أيضاً في هذا المشهد ، ولكن من المحتمل انهما أُضيفا في فترة لاحقة من التقاليد المبكرة. وأيّاً كان الأمر، فإن ذلك الحدث يُعد شكلاً من أشكال الحكم بعد الموت في إرسال الروح إلى مسكنها الجديد في الآخرة .
وما أن تصل الأرواح إلى هناك، كانت المسؤولية توكل إلى أقاربهم الأحياء في الحفاظ على ذكراهم حيّة. فقد كانت السنة الأولى مهمة بشكل خاص؛ لأن الروح كان عليها أن تتكيف مع مسكنها الجديد دون شعورها بالضياع والوحدة؛ لذا فهي بحاجة إلى اهتمام متزايد من قبل الأحياء، وأقرب الأقارب هو المسؤول الأول عن تلك المهمة. وربما تستمر طقوس الإستذكار حتى لـ ثلاثين عاماً أو وفاة المكلّف بالأمر . كما أن إعداد الطعام وأداء صلوات الغفران بانتظام للمتوفى كان يُعدّ وسيلة من أجل إسعاده وعدم شعوره بالوحدة . وكان استذكار الموتى يُستحضر بشكل خاص في ليلة كل رأس سنة جديدة، طالما من المُفترض بهم أن يأتوا للزيارة .

زرادشت (مزدیسنا)
في مرحلة ما بين الأعوام 1500 و 1000 قبل الميلاد، صادف كاهن يدعى زرادشت (مزدیسنا) رؤية غيّرت المعتقد الديني الفارسي بشكل كبير . فقد ظهر له كائن من نور على ضفة أحد الأنهار، وعرّف نفسه باسم "ڤوهو ـ مانا أو بهمن" ( العقل الصالح ، أو حُسن الأخلاق ) ، وهو مصطلح في اللغة الأڤستية لمفهوم زرادشتي . إذ أخبر زرادشت أن معتقدات الفرس الدينية مغلوطة. وقيل له إن أهورا مزدا هو الإله الأوحد ؛ وأن كل ما يسمّى من "الآلهة" الأخرى مجرّد انبثاقات من الكائن الأسمى .

لقد أصبح زرادشت نبياً بهذه الرؤية الجديدة، فبشّر بها كل من يستطع؛ لكنها قوبلت بالرفض والتهديد ، فاضطر زرادشت إلى ترك منزله. وقيل إن أول من اعتنق هذه العقيدة كان ابن عمه ( ميديومانها)، ولكن هذا لم يحدث فرقاً كبيراً في قبولها. ولم تتحول الزرادشتية إلى نظام عقائدي مؤثر إلا بعد أن قام الملك "ڤيشتاسپا" باعتناق ديانته، والذي جعل من مملكته بأكملها التحوّل إلى الزرادشتية .
لقد أصبح أهورا مزدا الآن الإله الأعلى وأنگرا ماينيو عدوه الأبدي اللدود. وكان من المفهوم في وقت سابق أن الإنسان بحاجة إلى اختيار أي من هذين الإلهين نبراساً له على الأرض، وهذا الاختيار أصبح هو معنى الحياة بالنسبة للبشر. حيث خُلق الإنسان بإرادة حرة، وأياً كان طريقه الذي اختاره ، فإنه يحدد قيمه ومسار وجوده.
إذن؛ كانت الحياة هي عبارة عن معركة حاسمة بين الخير والشر، وكان كل شخص منذ الولادة مطالباً باختيار أي الطريقين ( أهورا مزدا أو أنگرا ماينيو) . وبقبول مفاهيم زرادشت في الحياة يكرّس المرء نفسه لمبادئ الأفكار الخيّرة ، والكلمات الطيبة، والأعمال الصالحة، وتنشئة صداقات من العداوات، والتحلّي بالكرم والإحسان تجاه الجميع ، وتلك الخصال كانت من بين مجموعة الفضائل الأخرى .

حياة الآخرة في الفترة الفارسية المتأخرة
حلّت الزرادشتية بشكل كامل محل العقيدة السابقة عندما تبنتها الإمبراطورية الأخمينية (حوالي عام 550-330 قبل الميلاد) في فترة متأخرة من تاريخها (أو قبل ذلك بكثير، حسب رأي بعض العلماء) . وكما أشرنا من قبل، فإن الأفكار الزرادشتية كانت موجودة حتى قبل ظهور زرادشت ، ولا شك أنها لعبت دوراً مهماً في الدين القديم الأصلي . وطالما أنها محددة بوضوح بعد زرادشت؛ لذا فهي تُعتبر مُقدمة ( أو على الأقل مُنقحّة) من قبله عندما أعاد تخيّل الآلهة السابقة وخلق دين توحيدي جديد منها . وقد تناقلت مفاهيم تلك العقيدة شفهياً ؛ لأنها لم تكن مكتوبة حتى تأسيس الإمبراطورية الساسانية (عام 224-651 ميلادي) .

أثناء الولادة، تُبعث روح المرء ( أورڤان ) إلى الجسد من قبل أحد ملائكة الذات العليا للإنسان ( فراڤاشي ) بغية خوض تجربة العالم المادي والاصطفاف إلى جانب الخير. من هذه اللحظة سوف يبذل الـ فراڤاشي قصارى جهده لمساعدة الروح في صراعها طوال الحياة ومن ثم انتظارها ما بعد الموت. وحينما يموت الشخص تبقى الـ أورڤان لمدة ثلاثة أيام بجوار جثة المتوفى ؛ بينما يزن الإله مثرا أعماله الصالحة والسيئة. وفي اليوم الرابع، ترحل الـ أورڤان إلى جسر چنڤات (پل چینود) ؛ وهو المسافة بين الأحياء والأموات ؛ حيث يتم اصطحابها مع الـ فراڤاشي .
يوجد هناك كلبان يحرسان ذلك الجسر ويرحبان بالأرواح الخيّرة البريئة ، وينبحان على الأرواح الشريرة المذنبة. بعد ذلك تلتحق الـ أورڤان بالـ فراڤاشي ويقابلان "دئِنا" (إلهة الضمير)،التي تعكس ضمير الـ أورڤان . فهي بالنسبة للأرواح البريئة؛ كانت شابة جميلة ، وعجوز ذاوية بالنسبة للأرواح المذنبة.
كان الملاك الحارس سوروش ( أو سروش) يظهر ليحمي الروح من هجوم الديڤيات الشريرة ويرشدها في عبور الجسر. وللروح البريئة، كان الجسر يتسع ويصبح سهل العبور؛ أما للأرواح المذنبة، فكان يضيق ويصبح صعباً. وفي الطرف البعيد منه كان يقف الملاك القاضي راشنو (أو رشن) الذي كان يتلّقى صحيفة أعمال أرواح الموتى الصالحة والسيئة ويصدر قرار الحكم . وقد كتب البروفيسور ألبرت أولمستيد المقطع التالي حول هذا المشهد :
" إن ضمير الإنسان سواء كان صادقاً أم كاذباً، هو الذي سوف يحدد جزاؤه في المستقبل. وبمساعدة زرادشت كقاضٍ مساعد؛ يعزل أهورا مزدا بنفسه من خلال مساعده المُصلِح؛ الحكماء الصالحين عن الحمقى الأشرار . بعد ذلك، يوجّه زرادشت أولئك الذين لقّنهم ( لِمَن تتساوى أعمالهم الصالحة مع أعمالهم السيئة) ليطلبوا مساعدة مزدا عبر جسر الفاصل . كما أن الصالحين سوف ينتقلون بصحبة الفتاة الجميلة (دئِنا) إلى [بيت الأغاني] أو مسكن العقل الصالح ؛ باعتبارهم كائنات تشبه الملائكة تعمل حرّاساً للبشر الصالحين من الأحياء . أمّا العجوز الذاوية فانها تقوم بهاجمة أرواح أولئك الذين عاشوا حياة شريرة ؛لينزلقوا في الوادي العميق البارد المظلم والمخيف ذي الرائحة الكريهة؛ باعتبارهم من الجِّن إلى الـ دوزخ أو [بيت الأكاذيب] ، حيث أن أصغر الكائنات الشريرة فيه كبيرة مثل الجبل، فهي قاسية وتؤذي أرواح المُعاقبين . بيد أن مسكن العقل الصالح الذي تنتقل إليه الأرواح النقية ؛ سوف تشاهد هناك عرش أهورا الأعظم وطاعة مزدا، والسعادة التي تأتي من عوالم النور." (ص101)

كانت هناك أربعة عوالم من النور ترتقي إلى الأعلى من الجسر وأربعة عوالم مظلمة تنحدر منه إلى الأسفل . وكان راشنو هو الذي يقرر إلى أي عالم تستحق الروح الذهاب إليه ، ومن المفهوم أن الروح نفسها سوف تدرك بسرعة عدالة هذا القرار . فقد كان أعلى عالم من النور هو عالم النور الأبدي ؛ حيث تعيش الروح بصحبة أهورا مزدا النور نفسه. وبين أدنى عالم نور وأعلى عالم ظلام كان هناك المَطهَرـ همستگان الذي تنحدر منه عوالم الظلام الأخرى إلى قاع سحيق في بيت الأكاذيب (عالم الظلام الأبدي)؛ حيث كانت الروح تُعذّب وتشعر بالعزلة التامّة ، و رغم من وجود الأرواح الأخرى ، فإن شعورها بالوحدة يبقى على الدوام .
مع ذلك، فقد كان هناك أمل الخلاص لكل روح (حتى السيئة) ، لأن أهورا مزدا كان محباً وعطوفاً جداً؛ فهو لم يستطع تحمّل فكرة أي روح تائهة إلى الأبد . حيث في الوقت المناسب، سيأتي " سوشيانت"؛ وهو المخلّص الذي يعتبر المنقذ الأخير للأرض . ومع ظهور هذا الموعود؛ سوف تُملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن طغى عليها الظلم والجور، وسيأتي بنهج جديد تختفي فيه الأكاذيب والشرور، وسوف يكون جميع الناس مؤمنين . وسينتهي ذلك العالم الذي عرفه البشر، ثمّ يلتحق الجميع بـ أهورا مزدا. كما أن الأرواح سوف تتحرر من بيت الأكاذيب و ستدمّر أنگرا ماينيو . بعد ذلك، يتلائم الجميع مع ذويهم ويعيشون في سلام ووئام مع أهورا مزدا وإلى الأبد .

لقد تم قمع هذه العقيدة في بلاد فارس بعد الغزو العربي الإسلامي وسقوط الإمبراطورية الساسانية في عام 651 ميلادي . حيث تعرّض الزرادشتيون للاضطهاد، كما دُمرت هياكلهم، وأُحرقت مكتباتهم، وشُيِّدت المساجد في أماكنهم المقدّسة. ومع ذلك، فإن المعتقدات الزرادشتية والفارسية القديمة فيما يتعلق بالموت وحياة الآخرة قد أثرّت في العقيدة الإسلامية الوليدة ؛ تماماً كما أثرّت من قبل على الديانتين المسيحية السابقة واليهودية الأسبق . كما أن المفاهيم الفارسية للإله الواحد، والفضيلة التي يحددها السلوك الأخلاقي، والمسؤولية الشخصية عن روح الإنسان وخلاصه، وحياة الآخرة في عالمي النور أو الظلام، والحساب بعد الموت وظهور المخلّص أو المنقذ ، وغيرها من الأفكار؛ جميعها قد سبقت ظهور وانتشار تلك الديانات .
لقد كان من بين أكثر المقتبسات من الفارسية إثارة للاهتمام في الدين الإسلامي هو إعادة تخيّل لجسر "چنڤات" في عقيدته . حيث يرد مفهوم "الصراط "(جسر الجنّة) وهو العقبة الأخيرة التي يجب على المؤمنين اجتيازها قبل الترحيب بهم في الجنّة. حيث لن يعبر الجسر سوى المؤمنون (المسلمون) فقط ؛أمّا الأرواح الأخرى من الكافرين ( غير المسلمين) فمصيرها مباشرة إلى جهنّم وبئس المصير دون سؤال أو حساب !!.
ويوصف الجسر في كتب التفسير والأحاديث عند المسلمين بأنه ؛ زلق و رفيع كالشعرة وحّاد كالسيف، وطريقه مملوء بالأشواك والكلاليب ، والأفخاخ والمصدّات ، والحراب المستدقة ، وغيرها من العراقيل التي تعيق عبور الروح . كما يشار إلى أن الجسر يكون واسعاً عندما تخطو عليه الروح ، ثم يضيق بشكل كبير؛ حيث تقع تحته نيران جهنّم التي تلسع الأرواح وهي تشق طريقها عبره. كما ستحلّق الأرواح الأكثر تديّناً فوق الجسر دون موانع ، ولكن الأرواح الأخرى ستعاني بمقدار حتى الوصول إلى الجنّة ؛ وذلك حسب درجة الإيمان .

إن كل استجابة دينية لفكرة هاملت بشأن البلاد غير المكتشفة التي تُنتظر بعد الموت؛ تعكس الثقافة التي وجدتها، ولا يمكن أن تكون أكثر من ذلك موضوعية . إذ لا أحد يعلم أبداً ما يأتي بعد الموت سوى الموتى! ، ولا أحد يعرف أبداً أنهم يتكلمون بصوت عالٍ في وصف عالمهم !.
ورغم إن العقيدة الفارسية مع تأكيدها على حياة أفضل حيث بإمكان المرء أن يعيشها وفقاً للمبادئ والقيم السامية بمفهومها الشامل للخلاص ؛إلا أنها باتت من أكثر الرؤى المثيرة التي تم تصوّرها على الإطلاق !. ورغماً أنه لا توجد طريقة أيضاً لمعرفة فيما إذا كان ذلك حقيقياً؛ فلابد إذن من جمال الرؤية أن يلهم ذلك الأمل بجعلها الحقيقة الراسخة. كما أن الأمل عن حياة بعد الموت حيث يلتقي الجميع مع أحبائهم في النهاية؛ يعّد ذلك المنعطف الإيجابي الوحيد عن الموت في العقيدة الفارسية ..



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ڤيستا ساركوش كورتس ـ الأساطير الفارسية ـ طباعة جامعة تكساس ـ 1993 .
جيمس دارمستيتر ( المترجم) ـ الزند ـ أڤيستا: الـ ڤنديداد ـ فرانكلين كلاسكس للنشر ـ 2018 .
كاڤيه فاروخ ـ بلاد في الصحراء ـ أوسبري للنشر ـ 2007 .
هوما كاتوزيان ـ الفرس: إيران القديمة، الوسيطة ، الحديثة ـ طباعة جامعة بيل ـ 2010 .
ألبرت أولمستيد ـ تاريخ الامبراطورية الفارسية ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 2009 .
ويليام شكسپير ـ رواية هاملت ـ سايمون و شوستر للنشر ـ 2003 .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفينيقيون شعب أرجواني
- عنخ رمز بلاد النيل
- دعوى قضائية لعبد يهودي أمام محكمة بابلية
- نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية
- العقيدة البوذية في نشوئها وفلسفتها
- نظام التعليم في بلاد الرافدين القديمة
- الدفن في بلاد الرافدين القديمة
- كذبة أفلاطون في الروح
- الأزياء والملابس في بلاد الرافدين القديمة
- الفنّ والعمارة في بلاد الرافدين
- ثورة العمّال اللودّيين
- مَن هم شعوب البحر ؟؟
- الأعياد في بلاد الرافدين القديمة
- الحكومة في بلاد الرافدين القديمة
- النساء العالمات في ثورة العلوم
- قصة الوسيم نارسيسوس (نرجس)
- دعوى استئناف لإمرأة سومرية أمام محكمة في مدينة أوما
- هيبي إلهة خلود الشباب
- كيف كانت التجارة في بلاد الرافدين القديمة ؟
- معاداة السامية في أوروبا المسيحية


المزيد.....




- ترامب يطرح ساعات تحمل اسمه: يبلغ ثمن إحداها 100 ألف دولار
- مصدر يكشف لـCNN عن محادثات روسيا مع الحوثيين بشأن الأسلحة
- الإعصار هيلين يتحول إلى الفئة الرابعة -الخطرة للغاية- ويهدد ...
- اتفاق ليبي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لتعيين محاف ...
- بلينكن: التصعيد في لبنان سيجعل الوضع أكثر صعوبة
- الأولى في العالم.. مريضة سكري تتلقى العلاج بخلايا جذعية
- واشنطن تسعى لوقف فوري للقتال بين إسرائيل وحزب الله
- فصائل عراقية مسلحة تستهدف موقعا إسرائيليا في الجولان
- بلينكن لإسرائيل: التصعيد في لبنان سيصعّب مسألة عودة المدنيين ...
- -مبادرة علماء الأمة لنصرة الطوفان- تنطلق في إسطنبول


المزيد.....

- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة